رمضان السوريين: صيام بين أنين الفقد وشهقة الفرح
حينما يجلِسونَ إلى موائدِ الإفطار، لا يكتفونَ بكسرِ الصيام، بل يكسرونَ صمتَ الذاكرة.

براء الجمعة – العربي القديم
حلَّ رمضانُ هذا العام كضيفٍ يقرع أبوابَ سوريا بخجلِ الناجي من عاصفة. لم يأتِ مع هلالٍ عادي، بل مع بدرِ آذار المُحمَّل برائحة الياسمين وصدأ القذائف. التقى شهرُ الغفران بشهرِ الثورةِ الأولى، كأنما الزمنُ يعانقُ ذاته في مرآةِ السوريين: ففي آذار تشرّعُ الأرضُ جروحها لتنبتَ زهوراً، وفي رمضان تشرّعُ النفوسُ جوعها لتنبتَ روحاً.
الصيام: امتناعٌ عن الخوف لا عن الطعام
لم يكُن الصيامُ هنا طقساً دينياً فحسب، بل تمريناً على استعادةِ السيادة. فمنذ أربعةَ عشرَ عاماً، كانت إرادةُ السوريِّ تُسحقُ تحتَ دباباتِ الجوعِ القسري، والخوفِ المُعلَّبِ في صدى الصواريخ. اليوم، يصومون طواعيةً، وكأنهم يقولون للقهر: “ها نحن نختارُ جوعَنا، فلا سلطانَ لك عليه”.
هنا يتحولُ الصومُ إلى فعلِ مقاومةٍ وجودي. فكما كتبَ فيكتور فرانكل عن إنسانِ المعتقلاتِ الذي يجدُ حريةً أخيرةً في اختيارِ موقفِه من الألم، يصبحُ امتناعُ السوريينَ عن الطعامِ إثباتاً لـ”أننا أحياءٌ نختار”. الجوعُ الطوعيُّ هو نقيضُ جوعِ الحربِ المُفروض، كأنما الأمعاءُ الخاويةُ تردُّ على صوتِ القصفِ بلغةٍ أكثرَ قداسةً: “لن نعوّضَ فقدانَ الخبزِ بفقدانِ الكرامة”.
الإفطار: موائدٌ من ذاكرةِ الجرح
حينما يجلِسونَ إلى موائدِ الإفطار، لا يكتفونَ بكسرِ الصيام، بل يكسرونَ صمتَ الذاكرة. كلُّ لقمةٍ تُذكّرُهم بأن “الخبزَ” كان حلماً في زمنِ الحصار، حينما كانوا يطحنونَ اليأسَ ليخبزوا منه رغيفاً.
المائدةُ السوريةُ اليومَ هي متحفٌ متنقلٌ للغياب. الأطباقُ الفارغةُ تُزيّنُ الطاولاتِ كشواهدَ على من رحلوا، بينما تُعلّقُ الأمّهاتُ صورَ الشهداءِ على جدرانِ الغياب، وكأنهم يقولون: “تعالوا نُفطرْ معاً، فالموتُ لم يعدْ يفصلُ بيننا”. هنا، يصيرُ الإفطارُ طقساً تأبينياً يخلطُ دمعةَ الفقدِ بابتسامةِ اللقاء.
التراويح: صلاةٌ تحت أنقاض السماء
عندما وقفوا في صفوفِ التراويح، لم تكن حركاتُ الركوعِ والسجودِ مجردَ أداءٍ لفرضٍ ديني، بل محاولةً لترميمِ هندسةِ الأجسادِ التي انحنتْ تحتَ وطأةِ السنوات. المساجدُ التي كانت ملاجئَ من البردِ والقصف، تعودُ اليومَ كفضاءاتٍ للتنفسِ الروحي.
لكنّ السجدةَ الأولى لم تكن سهلة. فتحت القبابِ المثقوبةِ، يتسللُ نورُ القمرِ ليُذكّرهم بليالي كانت النجومُ فيها براميل رعب. ومع ذلك، فإن همسةَ الإمامِ في آيةِ “وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ” تتحولُ إلى حوارٍ جمعي: “ها قد صبرنا، فماذا بعد؟”.
العيد: فرحٌ يلبسُ ثوبَ الجرح
سيخرجونَ في صباحِ العيدِ ليطوفوا بشوارعَ ما زالتْ تحملُ أسماءَ الغائبين. سيُهنئونَ أنفسهم بـ”عيدِ خلاصٍ” غير مكتمل، كالطفلِ الذي يجدُ في يدهِ نصفَ حلوى، فيبتسمُ لأنه تعلمَ ألّا يرفضَ نصفَ الفرح.
العرائسُ المُعلَّقةُ في واجهاتِ المحلاتِ تشبهُ أحلامَهم: مكسورةَ الأطرافِ لكنها مزيّنةٌ بالألوان. سيضحكونَ وهم يرقصونَ على إيقاعٍ لم يعتدوه، إيقاعٌ يخلطُ دموعَ الفقدِ بغناءِ الحياة.
“نحن هنا”..
رمضانُ هذا العام هو محاولةٌ سوريةٌ لاختزالِ أربعةَ عشرَ عاماً -بل أكثر- من الصبرِ في ثلاثينَ يوماً. هو شهرُ التئامِ تشظي الروح، حيثُ يصيرُ الجوعُ لقاءً، والصمتُ حواراً، والخرابُ تربةً لزهرِ الأمل.
السوريونَ يعرفونَ جيداً أن المأساة لم تتركْ لهم سوى أن يكونوا شعراءَ الخراب. لكنهم في هذا الشهرِ، قرروا أن يكتبوا قصيدةً جديدةً بعنوان:
“كنا هنا.. وسنبقى”.
في الحقيقة منشور يوجع القلب وتدمع العين ولكن يسعد القلب، لأن نهاية الصبر كان نجاح الثورة . كما أن المنشور مُلم و يجمع كل ما عاناه السوريين خلال الاربعة عشر عاماً…. معاناه مع صبر ودعاء وأمل كان كل يوم يتجدد في وجدانهم ككل صباح يشرق وهو حزين ولكن في الأخير انتصرو بثورتهم الطاهره…. رحم الله شهدائهم ..
منشور يستحق التقدير… بوركت جهودك وانسانيتك ووطنيتك يا سفير الإنسانية
استاذنا الكريم/براء الجمعة