الرأي العام

مبادرة “جبهة الخلاص السورية”: قناع لمشروع تفكيك الدولة

مبادرة بوجه تصالحي ناعم، تُخفي في مضامينها وتوقيتها وأدواتها بذورَ تقسيم سياسي واجتماعي وأمني

نوار الماغوط – العربي القديم

أثارت ما سُمّيت بـ”مبادرة المئة” موجة من الجدل، لم تقتصر على المنتسبين للسلطة، بل تعدّتها إلى أصوات من داخل الموقّعين أنفسهم، ممن رأوا فيها نسخة مستحدثة من “لجنة الإنقاذ” التي مهّدت لإسقاط حكم محمد مرسي في مصر عام 2013.

وبينما تُقدَّم المبادرة بوجه تصالحي ناعم، تُخفي في مضامينها وتوقيتها وأدواتها بذورَ تقسيم سياسي واجتماعي وأمني، وتحمل بين طياتها محاولة خطيرة لتدويل الملف السوري من بوابة الجنوب، وتحديدًا من محافظة السويداء، عبر طرح لجنة تحقيق دولية، ما يعني عمليًا فتح باب التدخل الخارجي على مصراعيه.

بعيدًا عن الشعارات البرّاقة، لم تكن المبادرة وليدة تفكير سوري حر، بل جاءت بصياغة مشبوهة من “مركز دراسات” يشرف عليه عزمي بشارة، أحد أبرز مهندسي مشاريع “الفوضى الناعمة” في المشرق العربي. وقد كشف المحامي طارق قاسم بوضوح:

“المبادرة معدّة من مركز الدراسات الذي يديره عزمي بشارة، أما وضع اسم إياد شربجي عليها، فهو مجرد ترويج لها بأقلام تسترزق من أي جهة كانت.”

نحن لا نقف أمام نص وطني يسعى إلى حل الأزمة، بل أمام محاولة مدروسة لاختراق الحالة السياسية السورية بأدوات مأجورة فقدت مصداقيتها، في ظل فراغ حقيقي في المشهدين السياسي والإعلامي.

اللافت في نص المبادرة ليس فقط مضمونها، بل اللغة التي صيغت بها. فهي تستعير مفردات إنسانية ووطنية، لكنها تُهرّب خلفها أجندة خبيثة. ففي البند الأول يُطلب “الوقف الكامل لإطلاق النار” دون تحديد المعتدي، في محاولة لمساواة الدولة بالجماعات المسلحة الخارجة عن القانون.
وفي البند الثاني، تُطرح “ضمانات متبادلة”، وكأن شرعية السلطة تُساوى بميليشيات مارقة.
أما البند الثالث، فيتحدث عن “ترحيل البدو” كأمر عارض، متجاهلًا طابعه العنصري والتطهيري.

يقول المحامي طارق قاسم في هذا السياق:

“تصوير الجماعات المسلحة في السويداء على أنها على قدم المساواة مع الدولة هو تمهيد لمشروع انفصالي كانتوني. والبند الثالث فجّ وصادم، إذ يصوّر ترحيل فئة البدو من منازلهم كحدث عادي، متجاهلًا الطابع القسري والتطهير الديموغرافي.”

أما الدعوة إلى إشراك المنظمات الأممية والدولية، فهي ليست سوى محاولة مموّهة لتدويل الملف السوري وتسليم مفاتيح الأزمة للخارج.

من الصادم أن يصدر مثل هذا النص عن نخبة تضم حقوقيين ومحامين، في حين يزخر بمغالطات قانونية فادحة، فضحها المحامي عارف الشعّال قائلًا:

“من قام بصياغة هذه المبادرة لا يفرّق بين القانون الذي يقره مجلس الشعب، والمرسوم التشريعي الذي تصدره السلطة التنفيذية… كما أن القوانين المطلوب تفعيلها مفعّلة أصلًا.”

ويُضيف: “يُؤخذ على المحامين والحقوقيين الذين وقّعوا على المبادرة أنهم لم يتنبّهوا إلى هذه الثغرات القانونية الفادحة.”

ويطرح هذا الخلل تساؤلات عميقة عن مدى الجدية والاحتراف في العمل السياسي القانوني، والذي يُفترض أن يرتكز على الحد الأدنى من الكفاءة، لا على الاستعراض الإعلامي.

فالجهل القانوني في مثل هذه المبادرات لا يُغتفر، خصوصًا عندما يصدر عن أسماء يُفترض أنها تحمل شهادات قانونية، أو على الأقل تمتلك وعيًا سياسيًا كافيًا لإدراك معنى ما تطالب به.

صدرت المبادرة في توقيت بالغ الحساسية، تزامن مع توترات في الجنوب واحتقان اجتماعي في الساحل. وهو ما شكّل بيئة خصبة لجهات إقليمية تبحث عن ثغرة، ووجدت ضالتها في هذه المبادرة.

يقول المحامي طارق قاسم:

“جاءت المبادرة في توقيت تلقفته السعودية لتؤكد دعمها للنظام الجديد، لا لسبب إنساني كما يُروّج، بل لقطع الطريق على أي زعزعة إقليمية محتملة.”

بمعنى آخر، فإن المبادرة لا تنفصل عن السياق الجيوسياسي، وتعمل كأداة ضمن تصفية الحسابات بين قوى إقليمية متصارعة، يُديرها مشروع قطري – تركي تقوده مراكز عزمي بشارة تحت غطاء نخب ثقافية مأجورة.

السؤال الأهم لا يتعلق فقط بنص المبادرة، بل بأسماء موقّعيها. إذ تضم القائمة أفراداً ارتبطوا بتمويل مشبوه، أو عُرفوا بعدائهم المزمن لأي كيان سوري جامع، سواء في عهد الأسد أو بعده.

لا يمكن لمبادرة وطنية أن تحظى بالثقة إذا حملتها أسماء فقدت مصداقيتها مرارًا، وأدمنت التلاعب بالمصطلحات والاصطفاف مع المشاريع الخارجية.

وبوصفي أحد من رفضوا المبادرة منذ الإعلان عنها، فوجئت ببعض الأصدقاء يلومونني، متسائلين: كيف ترفض شيئًا لم تقرأه بعد؟ وكان ردّي واضحاً:

“تخيّلوا أن طبيب نسائية – سواء كان ماهرًا أم لا – اشتهر باستغلال مهنته بشكل غير أخلاقي، كإجراء عمليات غير قانونية أو تورطه في سلوكيات مشبوهة. فهل إذا سألك صديق مقرّب عن طبيب موثوق، سترشّح له هذا الطبيب لمجرد أنه “شاطر”؟ أم أن السمعة والسياق الأخلاقي جزء لا يتجزأ من التقييم؟

أنا أرفض المبادرة لأن كثيراً من الأسماء الموقعة فقدت ثقتي بها سابقاً بمواقف واضحة، ولا يمكنني أن أصدّق أن من اعتاد التلاعب بالرأي العام، فجأة صار يحمل مشروعًا خالص النية.
الفكرة ببساطة: لا يمكن فصل المبادرة عن حامليها. فبعض الأسماء بالنسبة لي مثل ذلك الطبيب… مهما بدت “ماهرة”، لا أستطيع تجاهل سجلّها.”

ما يُسمى “مبادرة جبهة الخلاص” ليس إلا محاولة لإعادة تعليب الفوضى بطريقة ناعمة. نصّها المرتبك، توقيتها المريب، وأدواتها المشبوهة، كلها تدفعنا إلى رفضها، لا من باب الانحياز، بل من باب الدفاع عن الوطن.

نحن بحاجة إلى مبادرات نزيهة تنطلق من الداخل، لا من غرف التمويل السياسي. نحتاج إلى نخب نظيفة، لا وجوه مُعادة التدوير فقدت احترام جمهورها… أما هذه الوثيقة، فهي لا تُسهم في الحل، بل تُجهز على ما تبقى من تماسك وطني. إنها ببساطة: محاولة جديدة للغدر… بأدوات قديمة… ولغة أكثر دهاءً.

زر الذهاب إلى الأعلى