دلالات وقضايا | عندما احتفلَ المسلمون بعيد ميلاد ميخائيل سعد
مهنَّا بلال الرَّشيد
احتفَلنا قبل أيَّام قليلة وفي العشرين من شهر (كانون الأوَّل/ ديسمبر) بعيد ميلاد صديقنا ميخائيل سعد، حين بلغ من العمرِ خمساً وسبعين سنة، خَبِرَ فيها الحياة، وعَركَها، وعَرَكتْه، وقلَّع أنيابه في كثيرٍ من تجاربها، فقد تزامنتْ ولادة صديقي ميخائيل سعد في منتصف القرن الماضي مع ميلاد (حزب البعث العربيِّ الاشتراكيِّ في سوريا)، وشاهد بأمِّ عينه صراع السُّوريِّين (الأعدقاء) والأحزاب السِّياسيَّة من أجل الوصول إلى السُّلطة في دولتهم، وشهد العدوان الثُّلاثيَّ على مصر، ورأى قيام الوحدة بين سوريا ومصر 1958، ثمَّ عاين كلًّا مِن نكسة الانفصال 1961 ونكسة حزيران 1967، ونكسة وصول حزب البعث المجرم إلى السُّلطة في انقلاب الثَّامن من آذار سنة 1963، ولدى ميخائيل ملاحظات دقيقة حول انقلاب حافظ الأسد ووصوله إلى سدَّة الحكم في سوريا بتاريخ (16 نوفمبر- تشرين الثَّاني 1970)، ولا يغيب عن ذهِن رجلٍ مثله؛ ممَّن خبر الحياة، وعركته تجاربها تقديم بعض المشاهد من حرب (6 أكتوبر- تشرين الأوَّل 1973)، وصولاً إلى حرب لبنان الأهليَّة، وتسجيل بعض المشاهدات عن تجربته في معتقلات حزب البعث وقائده المجرم حافظ أسد قبل هجرته إلى كندا وحصوله على الجنسيَّة الكنديَّة هناك.
وقد ظلَّ ميخائيل مشغوفًا بالشَّرق الَّذي وُلد فيه، إلى أن عاد إليه طالبًا على مقاعد الدِّراسة في جامعة ماردين جنوب شرق تركيا، وبرغم تجاوزه السَّبعين من عمره فقد سجَّلت بعض الكاميرات الموجودة في رُدُهات الجامعة أنَّ ميخائيل سعد ما زال يتمتَّع بهمَّة الشَّباب ونشاطهم؛ فهو أوَّل طالب يصل إلى جامعته في الصَّباح الباكر، ويرجع منها في آخر يومه الدِّراسيِّ، بعد أن يقضي جُلَّه في القاعات الدَّرسيَّة وفي مكتبة الجامعة.
كيفَ تعرَّفتُ إلى ميخائيل سعد؟
تُشكِّلُ مدينة ماردين وجامعتها نقطتين مضيئتين لكلِّ من مرَّ في المشرق الجميل من خلال هذه المدينة أو دَرَس في جامعتها، أو دَرَّسَ فيها، فقد بَلْسَمَتْ هذه المدينة جراح النَّازحين والمهاجرين من حروب كثيرة، كانت وما زالت تعصف في سوريا وغيرها من بلدان الشَّرق الأوسط؛ ويشهد القاصي والدَّاني لمدينة ماردين وأهليها بأنَّهم يعيشون في واحدة من أرقى مُدن العالم، فالمحبَّة كبيرة بين أهلها وزوَّارها من سوَّاح ومهاجرين ونازحين، وتُخبرك النُّقوش الأثريَّة على حجارة المدينة العتيقة أنَّ القائد المسلم عياض بن غنم دخل المدينة في عهد عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه دون حرب، كما يتلو السَّائحون بعض التَّراتيل السُّريانيَّة المنقوشة في كنائس هذه المدينة، وفي المحصَّلة يرسمُ التَّناغم الثَّقافيُّ الأنيق بين كنائس ماردين ودير الزَّعفران السِّريانيِّ بالقرب منها مع قباب المساجد ومآذنها السَّلجوقيِّة صورة مشرقة من صور التَّعايش السِّلميِّ والتَّفاعل الثَّقافيِّ والشَّراكة الحضاريَّة المتميَّزة، ومن خلال حواراتي الأولى مع ميخائيل سعد بعد وصوله إلى جامعة ماردين اكتشفتُ أنَّ هذا التَّعايش السِّلميَّ والتَّفاعل الثَّقافيَّ أبرز سبب دفعه إلى العودة إلى مقاعد الدِّراسة في هذا الشَّرق الجميل برغم تجاوزه السَّبعين من عمره؛ ولهذا السَّبب قدَّم ميخائيل سعد واحدة من أجمل (حلقات البحث) عن (العمائر السَّلجوقيَّة) في جامعة ماردين، وأرفق بحثه بصور غاية في الرَّوعة والجمال لمساجد ماردين وقبابها ومآذنها ونقوش مدارسها، وقد وصل ميخائيل إلى حدٍّ معرفيٍّ متميِّز؛ وقد رأيته بأمِّ عيني، وهو يشير إلى أكثر من مئذنة، وسمعته بأذني، وهو يقول: هذه مئذنة سلجوقيَّة، فيها خصائص العمارة الإسلاميَّة في زمن السَّلاجقة، ثمَّ يستطرد في الحديث عن تداخل الخطوط والأشكال الهندسيَّة والتَّعريقات النَّباتيَّة، ولا يكفُّ عن الحديث حتَّى تشغله عمائر ماردين القديمة بالحديث عن مشهد خلَّاب جديد آخر!
كان ميخائيل سعد يُصغي إلى محاضراتي الأولى عن بُعد، وبرغم المسافة الكبيرة، الَّتي تفصل بين ماردين وكندا في قارَّة أمريكا الشِّماليَّة وراء البحار والمحيطات بسبب الكورونا أو جائحة كوفيد 19، الَّتي دفعت معظم جامعات العالم إلى الاستفادة من شبكة الإنترنت وتطبيقاتها البرمجيَّة والاعتماد على التَّعليم عن بُعد، فإنَّ تلك المسافة واختلاف التَّوقيت الكبير بين ماردين وكندا لم يمنع ميخائيل سعد من المواظبة على حضور دروسه ومحاضراته، فقد كان يسهر حتَّى ساعات الفجر الأولى؛ ليتابع دروسه الصَّباحيَّة والمسائيَّة في جامعة ماردين، والحقُّ إنَّني وبرغم البعد الكبير في المسافة بيني وبين ميخائيل فقد شعرتُ بقربه منِّي أو بقربي منه، ولا فرق عندي في ذلك أبدًا، وفي كثير من الأحيان يَشْعُرُ الأستاذ بقرب أحد طُلَّابه منه، وكيف إن كان هذا الطَّالب رجُلًا يحمل كثيراً من أخلاق المشرقيِّين وشهامتهم ومبادئهم السَّامِيَة! ولذلك كنتُ أخجلُ إذا ما قيل: إنَّ ميخائيل سعد طالب عندي، وليس ذلك لشيء يرتبط بميخائيل ذاته لا سمَحَ الله، وإنَّما لتربية خاصَّة تلقَّيتُها من أبي -رحمه الله- علَّمني فيها أن أحترم الكبار سنّاً وقدراً؛ ولذلك قلت لميخائيل أكثر من مرَّة: أنت طالب داخل القاعة الدَّرسيَّة، وبعد انتهاء الدَّرس أنت صديق قريب جدّاً، ولا أُخفيكم أنَّني كنتُ الرّابح الأكبر حين عقدتُ مثل هذه المعاهدة البسيطة بيني وبين ميخائيل سعد؛ ومن يومها بدأتُ أُصغي باهتمام كبير إلى حكمة رجلٍ سبعينيِّ؛ يَعِظُنِي مرَّة، ويحكي قصَّة فريدة عن تاريخ سوريا المعاصر، لن أجدها في أيِّ كتاب من كُتب التَّاريخ مرَّة ثانية، ويمزح معي مرَّة ثالثة، ويدعوني إلى شرب الشّاي أو القهوة مرَّة رابعة؛ وهكذا تعرَّفتُ إلى ميخائيل سعد، وهكذا تصادقنا وتصاحبنا إلى أن احتفلنا بعيد ميلاده الخامس والسَّبعين قبل أيَّام قليلة.
وقبل الاحتفال رأيتُ ميخائيل أكثر من مرَّة، وقد جمعتْه صداقة رائعة مع الشَّيخ والباحث المتميَّز محمَّد بشير، وهو صديق جميل مشترك بيني وبينه، استطاعتْ جامعة ماردين أن تُعيده إلى مقاعد الدِّراسة، وهو في العقد السَّادس من عمره، وقد حصل على شهادة في العلوم الإسلاميَّة، وشهادة في التَّاريخ، ورجع ليكمل دراسته مجدَّدًا في العلوم الإسلاميَّة في جامعة ماردين؛ فماذا فعلتِ بألباب الشُّيوخ يا جامعة ماردين؛ كي تُعيدي أمثال هؤلاء الرِّجال الطَّيِّبين إلى مقاعد الدِّراسة؟ وقد شاهدتُ الصَّبايا التُّركيَّات والسُّوريَّات، وهنَّ يجتمعنَ حول ميخائيل سعد؛ ليلتقطن الصُّور معه، وهو يعتمر قبَّعتَه الأنيقة، واحدة منهنَّ تقول له: يا جدِّي! وثانية تقول له: يا عمُّو! وثالثة تسأله: ماذا تريد أن نناديك؟! فيجاوبها بحنان أبٍ أو عمٍ أو جدٍّ: نادوني بما شئتم، ثمَّ يغمز ممازحاً جميع الحضور: المهمُّ أن تكون بجانبي تلك الصَّبايا الجميلات؛ فيضحك الجميع، وتشعر الصَّبايا الجميلات بفرحة أنثى مشرقيَّة بعد أن سمعتْ عبارة إطراء حميلة، أو جُلة غزلٍ عفيف تُشيد بجمال الصَّبايا المشرقيَّات في جامعة ماردين!
مسلمون يحتفلون بعيد ميلاد صديقهم المسيحيِّ
لا شكَّ أنَّ مثل هذا العنوان لا يخلو من الفظاظة، ولكنَّ صراحتي الزَّائدة ورغبتي العارمة بتسمية الأشياء بمسمَّياتها الحقيقيَّة تُوقِعُنِي في مثل هذه العناوين والمواقف المحرجة في كثير من الأحيان، وإن تجاوزتُ فظاظة العنوان الرَّئيسيِّ والعناوين الفرعيَّة في هذا المقال؛ لأقف عند الاحتفال ذاته؛ فقد أخبرتني سيَّدة دمشقيَّة أنيقة جدًّا بأنَّها مع مجموعة من الأصدقاء المقرَّبين يرتِّبون للاحتفال مساء بعيد ميلاد ميخائيل، واستفسرَتْ هذه السَّيِّدة الجميلة عن إمكانيَّة حضوري؛ لأنَّها كانت تعرفُ بعض ظروفي القاهرة؛ لكنَّني تحاملتُ على جراحي، وقلتُ لها: سأكون معكم، وشاءت الصُّدفة أن ألتقي بميخائيل في ظهيرة ذلك اليوم؛ فقال لي ممازحاً ومُستفسِراً بلهجة سوريَّة حُمصيَّة جميلة؛ لأنَّه كان يعرف بعضَ متاعِبي: (شو ما بدَّكَ تحضر عيد ميلادي؟)؛ فقلتُ له: (ومَن سيعملُ لك حفلة عيدِ ميلاد؟)؛ فقال (بخبرة رجلٍ سبعينيٍّ أنيق): في الحقيقة لا أعرف؛ لكنَّني أشمُّ رائحة احتفال، وهمسَ في أذني (ضاحكًا ضحكةً أبٍ يثق بأنَّ أبناءه يُرتِّبون له مفاجأة بسيطة وجميلة دون أن يخبروه بذلك)، وقال معتزًّا بشبابه: (يمكن الصَّبايا عم يرتبوا لشي مفاجأة؛ ولكن أرجوك لا تحرق لذَّة المفاجأة؛ اتركِ الصَّبايا يُرتِّبنَ كلَّ شيء)!
تحاملتُ على آلامي، وذهبتُ على الموعد، فوجدتُ صبيَّة أنيقة قد أعدَّت كعكة عيد الميلاد ورتَّبتها بذوق سيِّدة دمشقيَّة، ومعها صبيَّة جميلة أخرى من مواطني الجمهوريَّة التُّركيَّة، وقد أشعلت شموع كعكة عيد الميلاد بيديها؛ لأنَّ أهليها ربُّوها على مكارم الأخلاق، وكان جار ميخائيل كاتباً شابّاً سوريّاً مرموقاً، أخرج شُعلة النَّار من جيبه، وقدَّم فكرة جميلة لتصوير مشاهد الاحتفال، ودخل الحشد؛ وهم يردِّدون: سنة حلوة يا جميل!
سنة حلوة ميخائيل؛ وفعلًا: تفاجأ ميخائيل! وفرح مثل أيِّ إنسان نقيٍّ بريء يشُعر بالودِّ والوفاء حين يجد أصدقاءه الأوفياء بجواره، ثمَّ اتَّسعت الحفلة، وانضمَّ إليها أُناس طيِّبون آخرون؛ وكان الجميع من المسلمين، ما عدا ميخائيل، كان مسيحيًّا هاجر إلى كندا قبل نصف قرن تقريبًا، ثمَّ شدَّه الشَّوقُ إلى مشرقه الجميل؛ فحطَّت به الرِّحال في جامعة ماردين، وهكذا احتفلنا بعيد ميلاد جميل، وكلُّنا مدينٌ لماردين وجامعتها الجميلة وأهلها الطَّيِّبين الَّذين احتضنونا في أيَّام الحروب والمآسي، الَّتي كسرت قلوبنا؛ فشكرًا ماردين! وشكرًا لأهلك الطِّيِّبين! وسامحوني على فظاظة بعض العناوين!
الدكتور مهنا بلال رشيد العزيز ارقى وامهر من صف الكلمات بمصاف الحب واللغة والفكر .انسان عظيم يترك أثره الطيب في كل ميدان يصول ويجول به .من الدكاترة القلائل الذي ترك بصمته الجميلة في افئدة من حوله . رجل يحمل ويوصل رسالة إنسانية في سلوكه وأفعاله وأفكاره ..كل التحيات لهذه الرسالة الراقية بانسانيتها . واشكر ذلك اليوم الذي تعرفت به عليه ..ابراهيم المحمد