فنون وآداب

من الشعور بالضآلة إلى الهوس الرقمي: هل نحيا لنحظى بانتباه الآخرين؟

براء الجمعة * – العربي القديم

في ظلّ طغيان وسائل التواصل الاجتماعي على حياتنا، يبرز سؤال مُلحّ: هل نعيش لأجل أنفسنا أم للَفت انتباه الآخرين؟ تُظهر سلوكياتنا على الإنترنت مقدار تعلّقنا بالحصول على التقدير والإعجاب، حتى أنّ ذلك بات يُشكّل هوساً يومياً لدى البعض، يُغذّيه الشعور بالضآلة وعدم الرضا عن الذات. في هذا المقال سنستعرض أسباب هذا الشعور، ونتائج السعي المستمر وراء إثارة انتباه الآخرين، وسبل إيجاد توازن يعيد لنا الارتباط بذواتنا الحقيقية.

يشعر الكثيرون بأنهم أقل شأناً وأهمية عند مقارنة حياتهم العادية بصور الآخرين على السوشيال ميديا

جذور الشعور بالضآلة والحاجة للاهتمام

منذ أزمنة بعيدة، بحث البشر عن التقدير والانتماء، فحاجتنا للتقدير جزء أساسي من طبيعتنا. في المجتمعات التقليدية، كان التفاعل مع الجماعة يُحقّق هذا الانتماء، ويُشعر الفرد بقيمته ودوره الفعّال. اليوم ومع هيمنة الوسائط الرقمية، تغيّرت المعادلة، إذ باتت “الجماعة” على شكل متابعين افتراضيين، وأصبحت المقاييس الجديدة للشهرة والقيمة ترتكز على الإعجابات والمشاركات والتعليقات.

لكن في خضمّ هذا اللهاث وراء الاعتراف الرقمي، يولد الشعور بالضآلة، حيث يشعر الكثيرون بأنهم أقل شأناً وأهمية عند مقارنة حياتهم العادية بصور الآخرين المثالية على السوشيال ميديا. في هذه الحالة، يصبح ما نراه عبر شاشاتنا معياراً لقيمة الذات، فيتضخّم شعورنا بعدم الكفاية.

مظاهر الهوس الرقمي وتأثيرها على العافية النفسية

يظهر الهوس الرقمي في مظاهر عدة، بدءاً من التحقق المستمر من التطبيقات بحثاً عن تحديثات، مروراً بالمشاركة المتكررة لأحداث لا تعني لنا الكثير، ووصولاً إلى شعور القلق عند انخفاض التفاعل على منشوراتنا. هذا الهوس يؤثر مباشرة على الصحة النفسية، إذ تزداد مشاعر القلق والمتاعب النفسية، ويترسخ الشعور بالوحدة، حتى في أوساط التواصل الكثيف.

وكمثال على ذلك، يُظهر مفهوم “الخوف من الفوات” أو FOMO مدى قلقنا من أن تفوتنا أحداث أو أخبار تهمّ الآخرين، فنجد أنفسنا نراقب حياة الآخرين بشكل مستمر، حتى لو كان ذلك على حساب أوقاتنا الخاصة وعلاقاتنا. ينشأ من هذا سلوك استهلاكي للوقت والطاقة، حيث يميل البعض لمشاركة تفاصيل حياتهم كي لا يشعروا بالعزلة أو الضآلة.

الشعور بالضآلة وصور الكمال المزيف

وسائل التواصل الاجتماعي تمثل “حائطا” نضع عليه صورنا المثالية وإنجازاتنا، مما يغذّي الشعور بالضآلة لدى المتابعين. عندما يرى الفرد حياة الآخرين بألوان زاهية وابتسامات مشرقة، قد يقارن نفسه بتلك الصورة دون أن يدرك أن الواقع مختلف. هذا يجعلنا نتساءل: هل نقوم بنشر محتوياتنا لأجل مشاركة تجاربنا بصدق، أم نبحث عن “حياة مثالية” لتعويض الشعور بالضآلة؟

غالباً ما يلجأ البعض إلى تجميل صورهم وحياتهم لتقديم صورة مشرقة عن حياتهم، فينشأ بذلك تنافس غير معلن، ويسعى الجميع إلى إثبات أنهم جزء من دائرة الأهمية. تتشكّل لدينا صورة مثالية عن الآخرين، لكنها صورة غير واقعية ومفتعلة، فيتركنا ذلك في حالة من عدم الرضا عن أنفسنا ومشاعرنا.

استعادة التوازن في العصر الرقمي

إنّ السعي للاعتراف والتقدير أمر مشروع، لكن عندما يصبح ذلك هو الدافع الرئيسي وراء سلوكياتنا، نفقد معاني أكثر عمقاً في الحياة. استعادة التوازن بين العالم الافتراضي وواقعنا الحقيقي يبدأ بالاعتراف أن القيمة الحقيقية لا تُقاس بعدد المتابعين أو الإعجابات، بل بمدى تواصلنا الصادق مع أنفسنا والآخرين.

للخروج من هذه الدوامة، يمكننا اتباع بعض الخطوات البسيطة:

1. وضع حدود للتواجد الرقمي: تخصيص أوقات معينة للتواجد على وسائل التواصل الاجتماعي يقلل من الضغوط النفسية.

2. ممارسة الوعي الرقمي: التفكير في أسباب مشاركتنا للمحتوى قبل نشره، وطرح سؤال “هل أنشر لأشارك تجربة أم لأبحث عن انتباه الآخرين؟”

3. التقدير الذاتي الحقيقي: التركيز على إنجازاتنا الحقيقية، مهما كانت بسيطة، والاستفادة منها كمصدر رضا.

البحث عن الذات في عصر الرقمنة

في نهاية المطاف، تكمن قيمة الإنسان في ذاته ومجتمعه وتجربته، وليس في الانتباه الرقمي. إدراكنا لهذا قد يكون بداية للتصالح مع أنفسنا، حيث يصبح السعي نحو الأمان الداخلي أولى من السباق وراء الأضواء الرقمية. قيمة الإنسان لا تُقاس بلحظات العرض المثالية وعداد الإعجابات وهوس الإشعارات ومتلازمة التقليب وقتل الوقت بين التطبيقات، بل بأثره وتفاعله في محيطه وصدقه مع نفسه.

______________________________________

* مختص في الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى