الرأي العام

عصا الأخضر الإبراهيمي وشهادته

عصا الابراهيمي يعرفها معظم معتقلي الثورة، كواحدة من أشد وسائل التعذيب إيلاماً وقسوة.

أجرت إحدى منصات التواصل الاجتماعي منذ أيام مقابلة مع الديبلوماسي الجزائري الشهير “الأخضر الإبراهيمي” الذي عمل كمبعوث للأمم المتحدة لأغراض الوساطة وفض النزاعات في بعض أكثر نقاط التوتر العالمية تعقيداً خلال العقود الماضية؛ مثل أفغانستان والعراق ولبنان، وسورية أيضاَ “المهمة المستحيلة كما يصفها”.

من بين المبعوثين الأربعة الذين تم تكليفهم بالملف السوري منذ عام 2011، يكتسب الابراهيمي الحظ الأوفر من الشهرة عندنا، ربما بسبب مؤتمراته الصحفية التي تابعها ملايين السوريين في عامي 2012 – 2013، أملاً منهم في التوصل إلى حل ينهي جرائم عصابة الأسد. وربما بسبب عصا الأخضر الابراهيمي التي كان لها دور بشهرته، في المعتقلات على الأقل!

عصا الابراهيمي تلك، يعرفها معظم معتقلي الثورة، كواحدة من أشد وسائل التعذيب إيلاماً وقسوة. “الأخضر الابراهيمي” في المعتقلات هو أنبوب أخضر بلاستيكي غليظ ومتين ومرن، استُخدم عادةً لنقل المياه قبل أن يجد فيه السجانون ضالتهم لتعذيب معتقلي الثورة. لا أحد يعرف منشأ التسمية، رغم أن دلالة تكرارها في عدد من المعتقلات تشير إلى رغبة من أطلقها في ربط عذابات السجناء باسم “الابراهيمي”. وهي رغبة لم تحقق مرادها فيما يبدو، ففي النصف الثاني من عام 2013، فوجئ المعتقلون بتغير المعاملة؛ على مدى عشرين يوماً تحسنت وجبات الطعام، فتم مثلاً توزيع برتقال على المهاجع أكثر من مرة، وفاز كل سجين من أكثر من مائة في كل مهجع على حصة معقولة من قشرة برتقالة، استمتع لدقائق وهو يمضغها. يومها سرت شائعة (لا أحد يعرف حقيقتها) أن وفداً من الأمم المتحدة برئاسة “الأخضر” سيزور المعتقلات للاطلاع على حقيقة أوضاع المعتقلين. لم يقم الوفد بزيارته، ولم يتذوق المعتقلون بعدها البرتقال. لكن الأخضر الابراهيمي “الديبلوماسي” خدمهم وخفف عنهم لما يقرب من شهر دون أن يدري ربما.

بالعودة إلى مقابلة الابراهيمي الأخيرة، فقد تكلم الرجل بديبلوماسية وعمق عن مهمته في سورية وعن الثورة وبشار الأسد، بشكل ينم عن فهم عميق لطبيعة الثورة “العفوية كما يصفها“، ولطبيعة قمع عصابة الأسد لها “بشكل لا يقارن بأي ثورة أخرى“، ثم التدخلات الأجنبية غير المتجانسة التي لم يفكر أي من أصحابها بالشعب السوري، انتهاءً إلى الاستنتاج بأن “نهاية النظام شيء جيد بالنسبة لسورية، مهما حصل“.

لكن ربما أكثر ما يلفت النظر، شرح الوسيط الابراهيمي لطبيعة عقلية الأسد تجاه الثورة بعد أن قابله، فهو

يعتقد أن المعارضين كلهم دون استثناء، ارهابيون وعملاء ومُغرضون“.

وطبيعة مقاربته لمجتمع الموالاة للأسد، فـ:

“اثنان + اثنان عندهم لا ثلاثة ولا أربعة ولا خمسة، النتيجة ببساطة هي ما يقوله الرئيس، أياً يكن ما يقوله الرئيس”.

إن التوصيف السابق ليس مجرد شرح لمرحلة مرّت وانقضت، لكنه باعتقادي وصفة فشل لأي نظام سياسي قادم.

العديد ممن نقابل اليوم يفكّرون بنفس طريقة الأسد الساقط وإن اختلفت الزوايا، ما إن تتفوّه بما يشبه الانتقاد لموقف أو تصرف أو ممارسة خاطئة حتى تتم محاصرتك بجملة من الردود المتفجرة، المُتّهمة، المتهكّمة، الساخرة، المُخوّنة، التي تحاول بالإضافة إلى صفعك، حصار رأيك، ومحاولة التضييق عليه خوفاً من أن “يسمّم” الرأي العام، الذي يجب أن يكون مؤيداً بالمطلق وإلا…

المبكي المضحك بآن، بعض الجمل التي نسمعها تذكرنا بتحقيق أو نقاش مع شبيح للنظام البائد، كل ما تغير هو الزاوية… أما المضمون فهو واحد: ممنوع الاقتراب والانتقاد. وإلا فأنت عميل، مجرم، خنزير. “الخنزير هي المفردة الجديدة التي تناسب الوضع العام فيما يبدو”:

  • هناك مليون مقاتل علوي بالانتظار، أنها معركة وجودية، إما نكون أو لا، إلى الأبد وليس اليوم فقط. يذكرني ذلك بقول أحد ضباط المخابرات أيام الأسد لمعتقل من الطائفة الإسماعيلية: “يا أجدب هؤلاء يريدون أن يبيدوننا نحن الأقليات، والله إن سيطروا سيقضون علينا جميعاً”.
  • أما إن ناديت بالديمقراطية، فالجوب إما أنها غير شرعية، أو ما وقتها، أو أنها كذبة، شيء ما هنا يذكرك بمقولة اتباع الأسد: “هالشعب ما بتلبقلوا الديمقراطية”.
  • الطامة الكبرى، حين تنال من مقام الرئاسة، أو هكذا يظنون، حينها فالويل لك والثبور؛ من عدة أيام نقلتُ لبعض الأصدقاء مقطع فيديو للسفير الأمريكي “فورد” يذكر فيه أنه شارك في عملية “تدوير” الرئيس السوري “أحمد الشرع”، رغم قساوة الكلمة وحساسيتي الشخصية منها، إلا أن التصريح جدير بالتفكر، لا أعتقد أن فورد سيكذب بهذه الفجاجة، الفكرة ببساطة تحمل الكثير من التأويلات منها مثلاً أن يسعى “الشرع” لفهم العقلية الغربية وطريقة التعاطي معها، وهذا حسن باعتقادي. ما فاجأني هو رد الفعل القاسي جداً؛ خلال دقائق تم قصفي بعدة ردود، فإما أن ترجمة كلام فورد كاذبة، أو غير دقيقة، أو أن فورد “طول عمرو كذاب ورزيل”. أو أن نقل المقطع هو بحد ذاته فعل خيانة.

أو… “إن كان فعل فقد أصاب” العبارة التي تردّ الأمر إلى مزدوجة الايمان والفسق: الرجل أرسله الله لنا، وهو من حررنا، ومذكور في احاديث آخر الزمان “لم يذكروها لي”، فــ خلص لا تقتربوا منه، وإلا سيحصل لكم ما حصل للصحابة في غزوة أحد حين اعترضوا على النبي فهزمهم الله تعالى!

قصة “أحد” هذه جديرة بالرواية: فقبل الغزوة جمع النبي محمد (ص) الصحابة ليستشيرهم بخطة المعركة، كان رأي النبي أن يبقى جيش المسلمين في المدينة ويقاتلوا فيها، بينما رأى بعض الصحابة الخروج إلى أحد، استجاب النبي لرأي صحابته وحصل ما حصل. ولما انتهت المعركة إلى هزيمة المسلمين، أشاع بعض أصحاب النبي أن سبب الهزيمة مخالفة رأي النبي، وأن الأولى اتباعه دون شورى. فنزل قرآن كريم يشرح أسباب الهزيمة، ثم يأمر النبي بالمداومة على الشورى: “وشاورهم في الأمر”. قال الفقهاء في فقه الآية، أن الله أمر نبيه بدوام الشورى وتربية صحابته عليها لما في ذلك من النفع، فالجمهور أبعد عن الخطأ من الفرد.

لا يوجد أي سبب يبرر تكميم الأفواه. لا يوجد أي شعب لا يستحق الديمقراطية أو الشورى، سمّها ما شئت. لا يحق لأحد أن يوزّع شهادات حسن الوطنية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى