تناقضات العلاقة الإيرانية الأمريكية
يعبثون في المنطقة فيدمرون دولاً، ويهجرون شعوباً لكن في الواقع لا يتقاتلون في أراضيهم، ولا بين شعوبهم
العقيد الركن خالد المطلق * – العربي القديم
خمسة وأربعون عاماً مرت على نشأة ما سٌمَّي “الجمهورية الإسلامية الإيرانية”، ومنذ وصول مؤسس نظام الملالي الخميني، بدأ كل شيء وبلحظة مشابهة يجب أن ينتهي كل شيء هذه سنن الكون، إنها إيران الخمينية التي صعدت بسرعة البرق، ولم ينتبه لها أحد، قالت الموت لأمريكا والموت لإسرائيل لكن لم تمت أمريكا، ولم تمت إسرائيل، ولم تمت إيران أيضاً!
حربهم في بلدان أخرى
وفي وسط هذا المشهد استعرت حرب طاحنة بين طهران وواشنطن انطلقت منذ سنوات، ولم تتوقف حتى اليوم، قد يتساءل أحدهم عن أي حرب تتحدث؟ وهذا سؤال مشروع فلا إيران واجهت أمريكا، ولا واشنطن أطلقت صواريخها تجاه طهران لكن حربهم تدور رحاها في بلدان عدة في سورية والعراق ولبنان واليمن وصولاً إلى غزة التي تحولت إلى كتلة من الدمار، ولنفكك هذا اللغز الذي حير الكثير لا بدَّ من العودة إلى بدايات صعود إيران، ومن ثم نفكك لغز تلك الحرب التي اشتعلت دون نيران.
البداية كانت عند نزول الخميني على أرض مطار طهران عام ألف وتسعمئة وتسع وسبعون ميلادية من طائرة تتبع للخطوط الجوية الفرنسية ليُعلن سقوط نظام الشاه إلى الأبد، وليكشر بعدها الخميني عن أنيابه، ويعلن نياته بالسيطرة على الشرق الأوسط مُعتمدًا على المفاعل النووي وكمية من اليورانيوم المخصب الذي ورثه عن الشاه الذي أهدته واشنطن في وقت سابق للأخير، وسارع الخميني إلى إطلاق مذهبية الدولة علنًا عندما كتب في دستور الجمهورية الجديدة أن مذهب الدولة، وليس دينها هو المذهب الشيعي الاثنا عشري، وبناء على أحد مبادئ ذلك الدستور الذي ينص على تصدير الثورة الإسلامية الشيعية إلى خارج البلاد حرب على العراق البوابة الشرقية للأمة العربية، وعلى الرغم أن إيران لم تكسب، ولم تخسر الحرب إلا أنها خرجت بالكثير من المكاسب فقد ارتفع سقف طموح القائد السني في العراق فغزا الكويت بعد سنوات قليلة، وحشد العالم كله لإسقاطه فسقط صدام عام ألفين وثلاثة، ومن هنا بدأت خيوط إيران تتحرك فاخترقت المجتمع العراقي الشيعي بقوة، وباتت تسيطر على القرار العسكري والسياسي والاجتماعي في بلاد الرافدين.
وفي سورية لم تواجه أي مشكلة مع نظام علوي يميل إليها بكل الحالات فدخلت سورية بالقوة الناعمة، وعندما ثار الشعب السوري تدخلت عسكريًا حتى باتت تسيطر على مفاصل الدولة السورية المنهارة، أما في لبنان فكانت الطريقة مختلفة قليلًا، ومنذ عام ألف وتسعمئة واثنين وثمانين أسست هناك ميليشيا حزب الله اللبناني التي سرعان ما تغلغلت في كل مفاصل الدولة اللبنانية فأصبحت بيروت تحت تأثير طهران المباشر، وفي اليمن أُسست إيران ميلشيا أنصار الله الحوثي عام ألف وتسعمئة واثنان وتسعون الذي استغل ثورة الشعب اليمني على حكامه ليدخلوا صنعاء، ويسيطروا على أجزاء كبيرة من اليمن، لم تكتف إيران بأربع عواصم عربية فمدت يدها إلى غزة لتدعم بعض الفصائل الفلسطينية التي باتت تحركهم ضد إسرائيل كما تشاء.
كيف واجهت أمريكا نظام الملالي؟
كل هذه اللعبة الكبيرة التي حاكتها طهران قالت إنها لمواجهة التمدد الأمريكي الصهيوني في المنطقة حيث بدت متحكمة بخمس جبهات مشتعلة بعيدة عن أراضيها التي لا تمسها النار، ولا حتى الماء من أمريكا وحلفائها، وفي الوقت نفسه تطور مشروعها النووي دون أن يزعجها أحد، وتفتت العالم العربي عبر الخطابات المذهبية والمخدرات وغيرها، وفي الوقت نفسه تحصل على ما تريد عندما تجلس إلى طاولة المفاوضات مع أمريكا، ومن هنا علينا أن نعرف كيف واجهت أمريكا نظام الملالي ولماذا لم تسقطه من البداية، ويمكن أن نقول أن وصول الخميني إلى الحكم جاء في فترة كانت أمريكا منشغلة بقطب العالم الآخر الاتحاد السوفييتي الذي كان يشكل خطراً على أمريكا حسب قناعات الأمريكان أنفسهم، ولم يكن يعنيهم إلى حد بعيد إنشاء نظام إسلامي في المنطقة فخطر تلك الأنظمة لا يضاهي خطر النظام الشيوعي في موسكو آنذاك فكانت أمريكا تعمل في الخطوط الخلفية إذ تبنت خطاباً داعماً قليلاً للعراق حيث صنفت عام ألف وتسعمئة وأربعة وثمانون إيران كدولة راعية للإرهاب، وفرضت عليها حصاراً دولياً، ومنعت الجميع من بيعها السلاح، وفي الوقت نفسه لم ترد أمريكا مواجهة إيران إلى أن جاءت فضيحة “إيران غيت” التي باعت بموجبها حكومة الرئيس “رونالد ريغان” أسلحة إلى إيران مقابل التوسط في إطلاق سراح الرهائن المحتجزين في لبنان، وهذا شكل فضيحة للإدارة الأمريكية التي كانت تجاهر بعدائها لإيران، وفي الوقت نفسه كانت تزودها بالأسلحة!
وسائل ديبلوماسية للضغط!
بعد مجيء إدارة جديدة للولايات المتحدة الأمريكية وانتهاء الحرب العراقية الإيرانية أعلنت أمريكا أنها لن تسمح لإيران أن تهدد المنطقة من جديد، ومع تزايد قناعة واشنطن بأن جيش إيران بات ضعيفاً بعد حربه مع العراق، ولن يشكل بعد اليوم خطراً على العالم، فاجأت إيران الجميع في تلك الفترة بتشكيلها فيلق القدس الذي خُصص للعمليات خارج إيران، وسيطرت أذرعه تباعاً على أربع عواصم عربية، وعلى الرغم من إبقاء إيران على قوائم الدول الداعمة للإهاب، وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر أيلول عام ألفين وواحد صنفت أمريكا إيران مع محور الشر الذي كان يضم العراق وكوريا الشمالية لكن لم تؤذها أبداً، وإنما استخدمت الوسائل الدبلوماسية للضغط عليها، وتلك الوسائل بالنسبة إلى إيران ليست عقوبة فهي طالما كانت ماهرة في تجاوزها خصوصاً بعد مد أذرع فيلقها في كل مكان، غزت أمريكا أفغانستان، ودخلت العراق لتسقط صدام حسين، وفي تلك الفترة استغلت إيران الفرصة فدخلت للعراق في كل مكان، وسيطرت على أول عاصمة عربية في طريقها الطويل في إشعال المنطقة.
لا يمكن للأمريكان اليوم أن ينكروا أنهم كانوا سبباً في دخول إيران للعراق، وأنهم مهدوا لها الطريق كلياً عندما أسقطوا نظام صدام حسين، وكان هذا الدخول تحولاً جذرياً للأبد، وبمجيء باراك أوباما للحكم الذي كان طوق النجاة الأكبر لإيران لتوصف تلك الفترة بالعصر الذهبي لإيران خارجياً، حيث فك الكثير من العقوبات المفروضة عنها مقابل أن تجلس إلى طاولة التفاوض على البرنامج النووي، كانت عملية تخفيف العقوبات سبباً في مد نفوذها أكثر في العالم العربي مستفيدة من انطلاق الربيع العربي وتدريجياً اخترقت طهران كثيراً من دول الربيع العربي، وكان أوباما آنذاك يعد عقد اتفاق نووي مع إيران انتصاراً حقيقياً، وبالفعل كان عام ألفين وخمسة عشر تحولاً حقيقياً في العلاقات بين البلدين من خلال عقد اتفاق أُطلق عليه “خطة العمل الشاملة المشتركة” تحت غطاء أممي فُرض من خلال تلك الخطة قيوداً صارمةً على برنامج إيران النووي مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، وحولت معظم الأموال التي حررتها من البنوك الدولية إلى أذرعها في سورية ولبنان واليمن، وعلى الرغم من ذلك الاتفاق إلا أن العلاقة بين البلدين استمرت حذرة وغير مستقرة إلى أن جاء العام ألفين وثمانية عشر حيث تحولت العلاقة بين البلدين تحولاً دراماتيكياً عندما قرر الرئيس دونالد ترامب الانسحاب من “خطة العمل المشتركة”، وبهذا عاد التوتر إلى العلاقة بين البلدين ووصلت إلى مستويات لم يسبقها مثيل، وأُعِيد فرض العقوبات على إيران من جديد ومقابل ذلك شكلت الأخيرة تدريجي بتقليص التزاماتها النووية وفق ذلك الاتفاق، وبدأت بزيادة تخصيب اليورانيوم وتطوير برنامج الصواريخ البالستية.
ضغوط اقتصادية خانقة
وفي عام ألفين وتسعة عشر أعلنت إيران تجاوزها الحد المسموح لتخصيب اليورانيوم المنصوص عنه بالاتفاق كما استمرت في تطوير أجهزة الطرد المركزية المتقدم، وفي المقابل كثفت واشنطن من ضغوطها الاقتصادية والعسكرية فأطلق ترامب حملة الضغط الأقصى ضد طهران تمثلت في إعادة فرض العقوبات بأقصى درجات الصرامة التي كانت تهدف إلى تدمير اقتصاد إيران وإجبارها على تغيير سياساتها وبالفعل أدت تلك العقوبات إلى أزمات اقتصادية خانقة في إيران، ردت طهران بسلسلة من الحوادث في مياه الخليج عبر ذراعها الحوثي ما زاد من حدة التوتر بين إيران وواشنطن وحلفائها بالمنطقة، ومن هنا اتضح لأمريكا أن إيران باتت قوة لا يمكن أن تهاجمها مباشرة فهي تدعم عشرات الميليشيات في المنطقة، وأي هجوم لا يمكن أن ينسب لها لكن ترامب كان لديه فكرة مرعبة تنص على اقتلاع المسبب الرئيس في توسع إيران خارجياً، وكانت البداية قتل قاسم سليماني الرجل الذي يمتلك مفاتيح القوة في فيلق القدس والمخطط الرئيسي لكافة العمليات العسكرية في الشرق الأوسط من خلال التحكم بالميليشيات الإيرانية المسلحة خارج إيران وبذات الوقت لم يطلق رصاصة واحدة داخل إيران، وبهذا نجح ترامب في كبح جماح طهران الذي تعاظم في عهد أوباما، خَلَف بايدن ترامب في رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية الذي كان له وجهة نظر مغايرة لكيفية التعامل مع إيران حيث بدأ بمحاولة إحياء الاتفاق النووي إلا أن إيران كان لها طلب رئيسي، وهو إلغاء كافة العقوبات التي فرضها ترامب عليها بينما طالبت واشنطن في عودة إيران إلى الامتثال للشروط الصارمة في برنامجها النووي فواجهت المفاوضات تعقيدات كثيرة، بسبب توسع إيران في برنامجها النووي بُعيد انسحاب أمريكا من الاتفاق النووي كما ازدادت الأنشطة الإيرانية في المنطقة مما عزز مخاوف واشنطن وحلفائها في الشرق الأوسط.
ازدادت الأمور تعقيداً بعد دخول روسيا إلى أوكرانيا ووقوف إيران إلى جانب موسكو، ومن ثم جاءت الحرب في غزة وإيران طرفاً فيها، وأخيراً وليس آخراً اندلعت الحرب ضد حزب الله أحد أذرع إيران الرئيسة في لبنان، وفي الوقت نفسه اشتعلت الضربات الصاروخية بين إيران وإسرائيل أهم حلفاء أمريكا في الشرق الأوسط، ناهيك من سيطرة إيران على القرار في بغداد وصنعاء مما جعل الموقف الأمريكي معقداً أمام العالم لدرجة أن أمريكا بدأت تقدم تنازلات لطهران من تحت الطاولة للمحافظة على الهدوء في المنطقة، وباعتقادي أن هذه الإستراتيجية التي اتبعها الديموقراطيون مع إيران سيتم نسفها عند تسلم ترامب السلطة في واشنطن، ويمكن أن نرى أحداثاً دراماتيكية ساخنة يمكن أن تقضي على الأقل على أذرع إيران الخارجية وتوقف إيران عن متابعة تطوير برنامجها النووي، وقد نرى سقوط نظام الملالي إن تُطَوَّر الأمر، ولم تنصع إيران كلّياً للمطالب الأمريكية.
في الختام
يمكن أن نقول إن العلاقة بين أمريكا وإيران إذا وصفناها بأنها تندرج ضمن حالة من العداء، وهذا ليس سليماً بالمطلق، وإذا وصفناها بالخديعة فهي ليست دقيقة، وبرأيي أن تلك العلاقة هي أقرب لأن تكون علاقة مصلحة فأمريكا سمحت بسقوط الشاه مقابل ألا تذهب باتجاه الشيوعية ثم دعمتها سراً لتقاتل صدام حسين مقابل أن تقضي على حكومة يسارية قربها، ومن ثم أسقطت لها الرجل الذي أنهك جيشها، وبالتدرج فتحت لها تباعا المجال كله لتجلس مع الكبار على طاولة التفاوض، وهي لا تملك أي مقومات للجلوس مع كبار هذا الكوكب ذلك كله مقابل أن تبقى منطقة الشرق الأوسط في حالة من الاضطراب فإيران كما قال عنها ترامب بأنها لم تربح حرباً، ولكنها لم تخسر أي مفاوضات، وهذا ما يفسر العقلية الأمريكية والتعامل معها فهم يعلمون أن إيران لن تواجههم مباشرة، وإنما ستواجههم من خلال ميليشياتها لتضرب هنا، وهناك، ومن الواضح أن أمريكا وإيران يشبهون لعبة القط والفأر يعبثون في المنطقة فيدمرون دولاً، ويهجرون شعوباً لكن في الواقع لا يتقاتلون في أراضيهم، ولا بين شعوبهم والخاسر الأكبر هي الدول العربية وشعوب المنطقة.
_______________________________________________________________________
- كاتب وباحث في الشؤون العسكرية والأمنية، عقيد ركن سابق في الجيش السوري اختصاص ضابط توجيه صواريخ م/ط، يحمل الماجستير في العلوم العسكرية، كتب في العديد من مراكز الدراسات والمواقع الالكترونية والصحف العربية، له كتاب “الإرهاب في مملكة الرعب”