أرشيف المجلة الشهرية

جلسة ذات شجن مع روائي جارح

حسيب الزيني – العربي القديم

عام 2023 وفي مساء السابع والعشرين من أكتوبر كنت واقفًا على الرصيف، أمام محطة قطارات الأنفاق في حي (هامر سميث) غربي لندن، أجوس بنظري المكان، منتظرًا لقاء الروائي السوري فواز حداد.

بحكم مهنتي صحفيًا، كنت قد التقيت كثيرًا من الروائيين والأدباء السوريين على مدى أكثر من 15 عامًا، لكن لقاء فواز حداد له وقع خاص في قلبي، يمكن أن أسميها مجازًا (رهبة الكاتب العظيم).    

وجدته أخيرًا، وسط حشد متلون من العابرين، يقف بشعره الأشهب، وعوده الرفيع متأبطًا حقيبة جلدية متوسطة الحجم، ويتلفّت باحثًا عني بوجه، تحفر فيه الأخاديد وقارًا أشبه بعناوين رواياته.

يا إلهي! إنه فواز حداد بشحمه ولحمه، وأخيرًا ألتقي بكاتب، أدهشتني فصول رواياته التي حفرت بوجدان السوريين.

كانت جلسة سورية خالصة، وأحاديث ذات شجن. غمرني ببساطته، ورشاقة حديثه، واهتمامه وإنصاته وتواضعه، وخفة ظله، وروحه المثقلة بهواجس الروائي.

فواز حداد روائي يعرف تمامًا ما يريد، ولا تعنيه الشهرة في شيء، يستحوذ عليك بحضوره الطيب الرصين، دون أن يستحوذ عليه حب الظهور، وهو ملتزم بل صارم في ممارسة طقوس الكتابة اليومية، يعشق المكوث في البيت، وعندما يقرر أن يخرج يفضل الأماكن والمقاهي العادية.

أهديته نسخة من روايتي الأولى “أشباح لندن”، ونسخة من مجموعتي القصصية “دوبامين”، مكتفيًا بشرف أن يرصفهما في مكتبة منزله، وأنا أعلم أنه قد لا يتسنى له قراءتهما، بحكم مشاريعه وكتاباته الروائية التي لا تنتهي، وفاجأني عندما أخرج من محفظته الجلدية روايته “تفسير اللاشيء”، ووضعها في حِجري مبتسمًا.

لكن المفاجأة الأكبر، كانت بعد أشهر، عندما أخبرني بأنه قرأ روايتي وقصصي، لنتقابل مجددًا في حي (هامر سميث)، ويبدي رأيه، وقد توقعت أنني سأخضع لحفلة جلد نخبوية.

فواز حداد، ليس روائيًا متعاليًا، لكنه لا يتواضع بتكلّف كالمشاهير، هو يقول رأيه بصدق ويمضي، وهذا ما حدث، عندما أبدى إعجابه بمجموعتي القصصية، إذ غمرتني السعادة، لكن تملّكني شيء من التحفيز المختلط بالرهبة، وهو يوجه لي ملاحظاته في روايتي، وبعض التصويبات والنصائح. قال فيما معناه إن موهبتي وقدراتي الأدبية ومخيالي تؤهلني؛ لأن تكون روايتي أكثر زخمًا، واتهمني بالتسرع الذي قد يكون ظلم روايتي، (وهذا صحيح تمامًا)، لكنه شجعني على الاستمرار في الكتابة، والمضي قدماً في مشروعي الأدبي.

لقائي بفواز حداد، وتأمل أحاديثه عن الكتابة والأدب، جعلني أكثر اقتناعًا بأن الأوساط الأدبية العربية والدولية، لم تحتفِ به بما يكفي، وبما يستحق رغم كل ما حظيت به رواياته من اهتمام جماهيري ونخبوي واسعين على الصعيد السوري والعربي والعالمي.

أتساءل حقًا، (وفي تساؤلي تكمن الإجابة): كيف يمكن لكاتب حفرت فصول روايته “السوريون الأعداء” في الوجدان السوري أن يتقلد أوسمة نظام متوحش؟

وكيف لصاحب رواية “جمهورية الظلام”، أن يرى النور، وهو الذي حاك شخصياتها في سردية جارحة، تفسر القتل المجاني العبثي “الطائفي” في دولة الشمولية السياسية.

ربما فواز حداد نفسه، يجيب عن تلك الأسئلة والتساؤلات في روايته “تفسير اللاشيء”، التي نلت شرف اقتنائها، بإهداء خطّي منه على صفحتها الأولى، إذ يفسر فواز حداد اللاشيء بكثير من التأمل في القهر والألم، والخراب السوري، وانكسارات ثورة أمام انتصار السلطة المهزومة.

لا يكتفي فواز حداد بتشريح الجسد السوري المقتول، بل يمعن، كما في روايته “يوم الحساب”، في كشف وتعرية، وفضح أكاذيب الأيديولوجيا الحاكمة، فدمشق تحولت إلى معسكر اعتقال، وبطل الرواية ناشط سياسي، يتجول في شوارعها متخفيًا باسم حركي، استعاره من “شهيد” قتله النظام.

روايات فواز حداد لها بصمتها وهويتها المتفردة، وهذا أمر طبيعي، لكنها تشكل بمجملها ظاهرة روائية رفيعة بامتياز شكلًا ومضمونًا، أما الروائي نفسه فواز حداد، فقد آثر – وهو متمرس في ذلك – الخروج من أوراقه السردية في تشريح المجتمع السوري، كما آثر أن يخرج من شخصيات رواياته وفصولها المتقلّبة، عن الحب والحرب، عن الأمل والألم، عن الهزيمة والانكسارات، وهدم الإنسان، وخراب الروح، عن العبودية السياسية، وصورة القائد المقدس، عن العقيدة الحية في صدور الأموات والضحايا. يقف فواز حداد بعيدًا عن المشهد، تاركًا القارئ، يتلذذ بقراءة جرح الإنسان الغائر، وأوجاعه واعتصار روحه. 

تاريخي المتواضع حافل بالنقاط المضيئة، فمثلًا، حصولي على شهادة الثانوية العامة بمجموع مشرّف، بعد انقطاع عن الدراسة لسنوات، وتخرجي من كلية الإعلام بشق الأنفس، ونجاتي من التقارير الأمنية، وفوزي بجائزة المزرعة الأدبية للقصة القصيرة عن مجموعة “تفاصيل لا تعني أحدًا، وحصولي على الجنسية البريطانية والوطن البديل، والآن سأضيف إلى تاريخي تلك النقطة المضيئة: الروائي فواز حداد صديقي.

_________________________________________

من مقالات العدد الخامس عشر من (العربي القديم) الخاص بالروائي فواز حداد   أيلول – سبتمبر 2024

زر الذهاب إلى الأعلى