فنون وآداب

هندسة السرد في رواية “الأحلام المسروقة” لأيمن الخير: من الخرطوم إلى دبي فالدار البيضاء

في "الأحلام المسروقة"، لا تقدم العدالة كقيمة مطلقة، بل كساحة اختبار للواقع العربي

رباب تميم قاسمو – العربي القديم

في تقاطعٍ نادر بين الدقة المهنية وجماليات السرد، تأتي رواية “الأحلام المسروقة” للروائي السوداني أيمن الخير، كعمل روائي يستدعي القراءة،  لا بوصفه سردًا حكائيًا فحسب، بل بوصفه بناءً  هندسيًا لواقع الإنسان العربي، حين تتنازع أحلامه قوى الخيانة، والعدالة المؤجلة، والأمل بالمستقبل.

منذ العنوان، “الأحلام المسروقة” تتبدّى الثيمة الكبرى للعمل: ليس الحلم مجرّد طيف عابر، بل مشروع حياة، ومتى سُرق، انكشفت هشاشة الكيان الإنساني أمام قارئ لا  يتلقى الحكاية، بل يعيشها، ويمر بأطوارها النفسية، كما يمر البطل وليد من الخرطوم إلى دبي والمغرب، ومن الطمأنينة إلى الانكسار، ثم إلى إعادة التشكل.  

أبعاد السرد المتكاملة

تقدّم رواية “الأحلام المسروقة” تجربة روائية غنية، تنفتح على خمسة أبعاد متكاملة: إنسانية، تعليمية، ثقافية، جمالية ونقدية. هذه الأبعاد تشكل ما كنت أسميه في دراستي النقدية بـ”الأنساق”، حيث لا ينظر إلى الرواية فقط كعمل أدبي، بل كمجال معرفي يتحرك بسلاسة بين عوالم القانون، والاستثمار، والهوية. جاءت الرواية  كمدرسة قانونية تُمرّر معلوماتها بهدوء عبر الحوارات والمواقف، ودرسًا استثماريًا ينبض بتفاصيل واقعية، ومرآة ثقافية تعكس تنوع اللهجات والبيئات، ونصًا سرديًا متماسكًا، يجمع بين رصانة الفصحى ودفء التعبير المحلي، بين واقعية  الأحداث، وعمق البناء النفسي للشخصيات، بين تشعب الحكاية، وتماسك خطها الدرامي.

وليد: الإنسان لا البطل

لا تقدم الرواية وليدًا كبطل تقليدي أو كمصلح، بل كشخصية واقعية، عادية، تنهكها الخيبات وتربكها الخيارات. رجل يحمل بذور الحلم وندوب الفقد. رجل ينهض لا بثورة، بل بخطى هادئة، تفتح أمام القارئ مرآة وجودية: ماذا نفعل حين تنهار الثقة في من نحب؟ حين لا يكون القانون كافيًا لاستعادة الحق، حين يصبح الوطن حلمًا مؤجلًا؟

 بمهارة قانوني يعرف قيمة المرافعة الصامتة، يجعل الكاتب بطله يواجه قضاياه ببطء، بعمق، وبلا ضجيج، وهذا ما يمنح الرواية قوتها: الصدق، لا البطولة.

بنية السرد: رواية بثلاث طبقات

الرواية تتأسّس على بنية مركبة، لا تسير بخط مستقيم، بل تلتف مثل جدلية الحياة نفسها. هناك ثلاث طبقات سردية تُغني النص دون أن تربكه:

  1. الطبقة القانونية: حيث تتبدّى المعركة الكبرى حول استرداد مزرعة وليد، ويوظف الكاتب أدواته القانونية بدقة تشبه المرافعة.
  • الطبقة الاستثمارية: تنقل القارئ إلى تفاصيل العقارات والمشاريع، خصوصًا في دبي والمغرب، هذه الطبقة تضيف بعدًا استثماريًا نادرًا في الرواية العربية المعاصرة.
  •  الطبقة الوجدانية: وهي الأعمق، حيث يتناثر الحنين، ويتشكل الحب، وتختبر الثقة. وهنا تصبح الرواية رحلة داخل الذات بقدر ما هي حكاية عن الخارج.

المكان كبطل صامت

من الخرطوم إلى دبي، ثم الدار البيضاء، لا تقدم المدن في الرواية كخلفيات صامتة، بل ككائنات حية تنبض بالذاكرة والانفعال.

الخرطوم تمثل الحنين المؤلم وجذور الألم، حيث الطفولة، والخسارات الأولى، والتراب الذي يحتفظ بندوب الغياب. دبي، مدينة الفرص والواجهات البراقة، تحمل في طياتها وعودًا زائفة وخيبات متكررة. أما الدار البيضاء، فكانت محطة أمل حقيقية لاستعادة العافية، إذ نجح وليد في مشروعه الاستثماري هناك، وكان لها مكانة خاصة في قلبه، حيث اعترف بحبه للمهندسة المغربية إيمان، التي عملت معه بجد وإخلاص لإنجاح المشروع.

بمهارة لافتة، يجعل الكاتب المكان شريكًا في تكون الشخصيات، لا مجرد مسرح للحركة. هذه الأماكن تشكلهم، تعيد ترتيبهم من الداخل، وتمنح الرواية عمقها الإنساني والجغرافي.

اللغة: سلاسة بلا تسطيح، جمالية بلا زخرفة

اللغة في “الأحلام المسروقة، “تجمع بين الفصاحة ودفء اللهجات المحلية، دون أن تسقط في التبسيط أو التصنع،  الكاتب يعرف متى ينطق الجملة، ومتى يتركها صامتة، ويزرع في السرد  جملًا تنبض بالحكمة، كأنها خلاصات حياة .

لكن إن كان من ملاحظة، فهي ميل الكاتب أحيانًا إلى الشرح الزائد، مما يقلّص من مساحة القارئ في التأويل، كما أن إعادة بعض المَشاهد من وجهات نظر متعددة، رغم ثرائها، تبطِئ الإيقاع في بعض المواضع.

العدالة بوصفها مفارقة: حين تنطق المحكمة بما لا يقولُه الضمير

في “الأحلام المسروقة”، لا تقدم العدالة كقيمة مطلقة، بل كساحة اختبار للواقع العربي، حيث تتقاطع النصوص القانونية مع شراك النفوذ والعلاقات، ومزاجيات الأفراد. تمكن الكاتب من رسم مسار المحكمة بدقة لافتة، مستندًا إلى خلفيته القانونية، دون أن يغرق القارئ بتفاصيل جافة، بل تسللت المعلومات القانونية الغنية بهدوء وسلاسة على لسان الشخصيات، فكان الحوار شفافًا، مواربًا أحيانًا، لكنه ظل دائمًا محملًا بما يكفي من الذكاء، ليعلّم دون تلقين، ويكشف دون ادعاء.

قاعة المحكمة هنا، لا تُقدَّم كخشبة مسرح، لانتصار الحق بوضوح أخلاقي، بل كميدان رمادي تتجلّى فيه المفارقة الكبرى: هل يكفي القانون وحده لاستعادة العدالة؟

تعليق واحد

  1. سعدت بقراءة المقال وبلقاء الناقدة والأديبة رباب تميم قاسمو التي استضافت الرواية في كتارا للرواية العربية وأمتعت الحضور بحضورها القوي ونقدها العميق للرواية الذي يستند على فهم عميق ومتفرد للأدب العربي .

    تحية تقدير ومحبة.

    أيمن الخير

زر الذهاب إلى الأعلى