بعد عقود من تجريم الحرية: المستبد العادل
الحرية لا تعطى في مثل حالتنا دفعة واحدة وإلا ستكون قاتلة!
إبراهيم الصالح * – العربي القديم
في جلسة مع بعض الزملاء في 2012 وملاحظة انخراط بعض الشخصيات سيئة السمعة وتشويه بطولات الجيش الحر والثوار، وانتشار كثير من الفوضى الدخيلة على حقيقة الثورة. الثورة التي بقيت تقاتل على كثير من الجبهات الأخلاقية والميدانية لإظهار أفضل صورة ممكن أن نعيشها، لكن للأسف تيارات الإفساد كانت تنتشر كالنار في الهشيم ولاسبيل لإيقافها.
توجهت بالقول لجلسائي: نحن بحاجة إلى ديكتاتور عادل
ساد الصمت لبرهة ونظرات الاستغراب والاستفسار بين الجالسين، ثم انخرط الجميع في التعقيب على ذلك بين مؤيد لما قلت، وبين منكر، وكلٌ لهُ حُجته. منهم من صاح مستغرباً: كيف ديكتاتور وعادل؟!
للأمانة حتى تلك اللحظة لم أكن قد قرأت عن مصطلح الديكتاتور العادل، وربما تولّد المصطلح نتيجة تراكمات من الأحداث التي كنا نعيشها وبعض الموروث عن نماذج بالتاريخ، لقادة اتسمت فترة حكمهم بالقوة والاستقرار لشعوبهم وحكموا لفترات طويلة نسبياً
كان ردي على المنكرين عليّ استخدام هذا المصطلح: أننا نعيش منذ 50 عاماً أشبه بسجن فكري وسياسي، ولم ينخرط المجتمع بأي تجارب ليتدرب على ممارسة الحرية والديمقراطية بل كانت ممارستها تعتبر جريمة. نعم جريمة بدليل في بداية الثورة كان عناصر النظام البائد يركلون المتظاهرين ويضربونهم ويقولون لهم: (بدكم حرية ؟) هذه تؤكد أن الحرية كانت جريمة على مدى خمسين عاماً… لذلك ليس انتقاصاً من الشعب إن لم يتقن ممارسة الحرية الحقيقية وعدم الانزلاق إلى الفوضى
لذلك كتقييم علمي بعيد عن العواطف كنت أرى أن الحرية لا تعطى في مثل حالتنا دفعة واحدة وإلا ستكون قاتلة، بل تعطى على جرعات عديدة وعبر برنامج متكامل حتى نصل بالمجتمع لممارستها بدون الانحدار للفوضى التي كان النظام يهدد بها ويدفع إليها.
فوضى جرفت كثيراً من الشرفاء
تأييداً لذلك كنا نرى بعض حالات الانتقام بين الناس نتيجة مشاكل شخصية سابقة للثورة وأصبحوا يُلبسونها لباس (شبيح وثوري) كذلك كان يتم من قبل البعض نهب الأملاك العامة تحست مسمى “غنائم”، وكانت كل بلدة أو عشيرة تنشئ كياناً عسكرياً لذاتها وتتصرف بمعزل عن البقية وكأنها دولة مستقلة، مع كل الإصرار للشرفاء بتوجيه البوصلة بالاتجاه الوطني الصحيح، كانت الفوضى جارفة وجرفت كثيراً من الشرفاء الذين قاوموها. ومع مرور الأيام والسنوات ترسخ لدي قناعة بأننا فعلاً بحاجة إلى مستبد عادل، وعندما كنت أكتب ذلك على وسائل التواصل الاجتماعي كانت الفكرة تلقى استهجانا من بعضهم ومنهم مثقفون ونخب فكرية… فيما قِلّة من أيدت الفكرة.
بحثت لاحقاً في هذا الاتجاه في ثورات الشعوب والتحولات السياسية التي مرت بها المجتمعات في الشرق والغرب، ليقع تحت نظري بحث عن المفكر العربي الشيخ محمد عبده، وفوجئت عندما قرأت له استخدامه ومناقشته لمصطلح (المستبد العادل) يقول محمد عبده في رده على مقالة (الإخاء والحرية) في المجلة العثمانية الصادرة في العام 1899 حيث تحدثت عن أهداف المجلة ورأي بعض الكتاب في المشرق بأن النجاة هي بإدخال الحرية السياسية كما هي في الغرب فجاء رد المفكر محمد عبده ونشر في ذات المجلة عبر مقال بعنوان (إنما ينهض بالشرق مستبد عادل) فقد رأى في مقالته بأن جلب مفاهيم الحرية والأخذ بالحياة النيابية والدستورية وتطبيقها دفعة واحدة في الشرق دون مراعاة للاختلافات سوف يؤدي إلى انتكاسة خطيرة أشبه ما تكون بجرعة عالية من المخدر التي تكون قاتلة، مفضلاً المرور بمرحلة تهيئة المجتمع وتدريبها عبر مراحل ليصل إلى إتقان ممارسة ذلك بدون أي أخطار. وحيث أن هذا المصطلح يجمع متناقضان، فليس من السهل على المجتمع فك شيفرة هذه النظرية ومقاربتها للواقع، فقد واجهت استهزاء من البعض ومواجهة من الخديوي توفيق ونفي إلى خارج البلاد.
المستبد العادل كما يراه المفكر محمد عبده
المستبد العادل هو من يكون رحيم على ضعفاء الناس شديد على جبابرتهم يجمع الناس على التراحم ولو بالقوة والإكراه ويقهر الجيران على التناصف، يحمل الناس على رأيه في منافعهم بالرهبة إن لم يحملوا انفسهم عليه بالرغبة، عادل لا يخطو خطوة إلا ويكون هدفه إسعاد عامة الشعب ولو على حساب خاصتهم، فإن عرض حظاً لنفسه فهو لهم أرعى ويقدم مصلحتهم على مصلحة نفسه .وخلال حكمه وما يحقق من استقرار يربي الناس على ان يتولون امورهم بالخير. (انتهى الاقتباس).
استبداد القاضي
وفي مقاربة أخرى وبالقياس ممكن أن نحلل المعنى العميق لمصطلح المستبد العادل المتمثل بوظيفة القاضي، فالقاضي في عمله هو مستبد بتطبيق القانون ولا يراعي رغبات المتداعين أو قربهم منه أو كرهه لأحدهم، فهو بتجرده وتفرده بتطبيق القانون وإطلاق الأحكام النهائية يحقق مصلحة العدالة التي هي مصلحة الشعب وإن جاءت عكس مصلحة المجرمين.. ثم إن القائلين بوجود نُظم ديمقراطية وحريات سياسية يرافقها استقرار في الغرب، يغيب عن بالهم بأن تلك الحالة التي وصل إليها الغرب لم تأتِ كوصفة جاهزة، بل كانت نتيجة حروب دينية وقومية واقتتالات دامت عقوداً وعقودا، وأعقبتها حربان عالميتان، وصلت بتلك المجتمعات إلى قناعات إنشاء عقد اجتماعي، كل فرد بتلك المجتمعات مؤمن به ولا يرغب بمزيد من المعاناة. بينما في الشرق لازال الولاء للقبيلة وللمكاسب الشخصية على حساب مصلحة الوطن هو العامل الحاسم بأي تجارب نيابية ـو ديمقراطية لذلك نرى جميع دول الشرق تدعي تطبيق الديمقراطية ولكنها في حقيقة الأمر جبال من الفساد والديكتاتوريات الفاسدة وليس العادلة.
ما نتمناه لوطننا كسوريين أن نخرج بحل نُجاري به الدول المتقدمة، بدون الخوض في حمامات دماء والانزلاق إلى سحيق الفوضى، وهذه مسؤولية الجميع وخاصةً من يمتلكون أدوات التأثير في الشأن العام ونشر ثقافة المواطنة وتغليبها على ما دونها من اعتبارات.
____________________________________
* محامٍ سوري