كرنفال سياسي وغراب أسود

نشرت صحيفة “الأهرام” المصرية نتيجة الاستفتاء على الوحدة بين سوريا ومصر عام 1958 بين الشعبين النتيجة التالية: 99،99% من المصريين، و99،98% من السوريين يصوتون لصالح الوحدة. لابد أن الرقم أثار استغراب السوريين آنذاك! إذ كيف لشعب كامل، باستثناء عدد محدود منه، أن يتفق ذلك الاتفاق العجيب على أمر مهما كانت أهميته؟ وهو شعب ذاخر بأفكار ومعارف وسياسات وإيديولوجيات وانتماءات وانحيازات وآراء متحاورة، متناقضة، متجادلة، متخاصمة، محبة، كارهة…؟ لابد أن الرقم كان جديداً على شعب كان يوصل مرشحه إلى البرلمان بشق النفس وبعمل دؤوب على مدار الساعة ولا يحصل، رغم ذلك، إلا أغلبية بسيطة تمكنه من الوقوف تحت القبة!

أحزاب وتيارات سياسية كثيرة، متنافسة، متفقة، مختلفة… تنتشر على الجغرافيا السورية انتشار الأشجار في الغابة، وتلون البيوت بألوان الكرنفال، فأب قومي وابن شيوعي وأخ إسلامي وأخت ليبرالية… وهكذا.

صحف ومجلات تظهر يومياً وتتكاثر حتى أنه كان من الصعب، في فترة ما، إحصاؤها، بطبعات متعددة، بعضها بطبعتين: طبعة مسائية وأخرى صباحية في محاولة للحاق بـ/ وتغطية الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. صحف لسوريا كلها، وصحف خاصة بأحزاب معينة، وأخرى خاصة بمدينة معينة… وهكذا.

شخصيات كثيرة ذوات عمل وتطلعات وخطط وكاريزما قادرة على إحداث فرق في السياسة وفي الاجتماع وفي الثقافة… وهكذا.

كل ذلك أنهاه جمال عبد الناصر بين ليلة وضحاها. لا أحزاب إلا حزبه، لا صحافة إلا صحافته، لا شخصيات إلا هو!

كل ذلك، كل ذلك المد الديموقراطي، كل ذلك الاتساع في الحرية، كل ذلك البلد الصاعد والناشئ في بناء نفسه ومستقبله، أوقفه جمال عبد الناصر بتلك النسبة 99،98% التي وافقت على الوحدة، وبالنسبة ذاتها التي (انتخبته) رئيساً لجمهورية الوحدة.

تحمل السوريون ذلك لمدة ثلاث سنوات، ثلاث سنوات فقط -مع أنها مدة بدت، بمقاييس ذلك الزمن السوري، طويلة جدا- وصححوا ذلك الخطأ التاريخي وأعلنوا استعادة سوريا من قبضة الدكتاتور. إذ إنهم عرفوا، بعد سجون وملاحقات وتعذيب وتذويب بالأسيد، وبعد سيادة الرأي الواحد والصوت الواحد، أن تلك الوحدة ليست سوى الاسم الإيديولوجي للهيمنة والتحكم والضبط.

***

في الخمسينيات تحمل السوريون الدكتاتور ثلاث سنوات فقط، وفي السبعينيات تحملوه أربعين عاماً! لابد أنه مجال خصب لدراسة مقارنة دقيقة ومضنية ومعقدة، لكنها ضرورية.

_________________________________________

من مقالات العدد الثالث من صحيفة (العربي القديم) الخاص بذكرى مرور 62 عاماً على الانفصال-  أيلول/ سبتمبر 2023