دلالات وقضايا | أيلول ودلالاته وذكرياته
يكتبها: مهنا بلال الرشيد
عاد أيلول بورقه الأصفر تحت الشَّبابيك!
عاد أيلول، وذكَّرني- ورقُه الأصفر، أو ذهبُه المشغول كما تقول فيروز في أغنيتها الشَّهيرة- بأشجار العنب والتِّين والزَّيتون في كَرْمِنا، الَّذي سلَّمه المفاوضون للمليشيات الإيرانيَّة بعد أن أوقفوا كلًّا من جبهة السَّاحل وجبهة ريف إدلب الجنوبيِّ بشهادة قائد جبهة السَّاحل أبي الهول المقدَّم محمَّد الحمَّادو؛ ولكي يطمسوا الحقيقة، ويعبثوا في الذَّاكرة السُّوريَّة حذفوا شهادة أبي الهول من منصَّاتهم، وألغوا استضافته من برنامج المواجهة مع المفاوضين خوفًا ممَّا لديه من وثائق دامغة تفضح أدوارهم. واستقطبوا الأبواق والأقلام المأجورة، ولهذا كلِّه راحوا يصنعون-وبأمر من مموِّلهم-ذاكرة مشوَّهة تشبههم؛ أي تشبه الأزلام من عبيد الدُّولار! وأغرقوا مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ ببودكاستات الأبواق وعبيد الأقلام والمقالات والبرامج المأجورة ومراكز الأبحاث الخبيثة، الَّتي تحاول قتل الثَّورة عندما تبثُّ في جسدها سموم المصطلحات؛ لتخلق بيئة عفنة مثل مموِّلها، أو لتصنع قطيعًا مصابًا بالزَّهايمر، يعاني من الخرف في تجسيد واضح لمقولة مارسوها ضدَّ أخوتنا الفلسطينيِّين من قبلنا عندما قالوا عنهم: (الكبار يموتون، والصِّغار ينسون)!
إنَّهم يستأجرون العبيد؛ لينشروا سمومهم، ويغرقوا بهم وقت المتلقِّي، ويزكموا بها أنوف المتبعين، ويقتلون قدرة التَّمييز عندهم؛ كيلا تستيقظ فينا النِّستولوجيا مع حبَّات الهَرْفِي الأولى؛ والهرفي: أوَّل زخَّة من زخَّات المطر في أيلول، ولا يوجد سوريٌّ نازح أو مهجَّر أو متمسِّك ببيته لا يعرف رائحة بيته، أو يتذكَر رائحة كَرْمِه أو شوارع مدينته عند الهرفي! لا يوجد سوريٌّ بدويٌّ أو ريفيٌّ أو مدنيٌّ لا يعشق رائحة التُّراب بعد أوَّل زخَّة من زخَّات مطر الهرفيِّ في شهر أيلول. وربَّما، فقط، ينسى المتسكِّعون في الحانات هذه (الرَّائحة-القضيَّة)، إذا قبضوا أجور نُبَاحهم، أو صاروا-مثل ابن بطُّوطة-يتنقَّلون هنا وهناك، ولكي تكتمل أركان الجريمة صار المموِّل-ومن أجل الإجهاز على القضيَّة-يدفع الأموال للكلاب؛ لتنبح معه، لا لتنبح عليه، أو لتمارس دورها في التَّضليل وتشتيت الانتباه مع جوقة أصحاب المصطلحات المزيَّفة، الَّتي تسكِّن بعض الآلام؛ بدل علاجها واستئصالها؛ لذلك-تسمع عزيزي القارئ-أبواق بودكاستات القصيد العربيِّ في غير أماكنها من منازل العبوديَّة، وتقرأ مقالات لمرتزقة في غير سياقاتها، وكلُّ هذا من أجل تشويه ذاكرتنا السُّوريَّة بالتَّعاون مع المموِّل، الَّذي يصنع الأيديولوجيا، ويخدِّر الشَّعب المكلوم بمقال خارج السِّياق، أو بإنشاد قصيدة في غير محلِّها أو مقامها، وكلَّما ظهرت شهادة ثائر حقيقيٍّ حذفها، وطمسَ معالمها!
ذكريات أيلول
(رجع أيلول، وأنت بيعد، وغيمة حزينة، وقمرها وحيد)، هكذا قالت فيروز في أغنيتها، أمَّا أيلول في حدِّ ذاته فشهر من شهور السَّنة، قد يحمل ذكرايت جميلة كجمال أغنية فيروز، وعذب كعذوبة كلماتها، إن لم يكن الاستماع إليها محرَّمًا في وقتنا الرَّاهن! وقد يوقظ الحنين، أو يحمل ذكريات مؤلمة، وهو-على سبيل المثال-شهر بداية المدارس والمصاريف الزَّائدة، الَّتي تُرهق الفقراء أيضًا. وقبل بداية أيلول 2024 أعلنت جامعات الدَّاخل السُّوريِّ عن صدور نتائج مفاضلاتها النِّهائيَّة، وكانت صدمة نتائج المفاضلات مدوِّية، فقد استقطبت كلِّيَّات الحقوق والآداب والتِّجارة والاقتصاد في معظم الدَّاخل السُّوريِّ جميع من تقدَّم إليها، ولو نجح بالحدِّ الأدنى من الدَّرجات، وهذا يكشف عن استفحال هجرة الشَّباب من سوريا، إلى حدٍّ صارت فيه الجامعات تستجدي الطُّلَّاب؛ ليسجِّلوا فيها، وبات عدد الأساتذة أو أعضاء الهيئة التَّدريسيَّة في بعض الجامعات أكثر من عدد الطُّلَّاب فيها. ولو فتحت كتابًا من كتبك أو دفترًا من دفاترك الجامعيَّة القديمة ستجد-في غالب الأحيان-ورقة شجرة صفراء تحمل لك ذكرى جميلة من ذكريات أيلول؛ ستعيدك إلى استراحتك الأولى تحت شجرة من شجرات الجامعة، أو ترجعك إلى مشوارك الأوَّل في شوارعها قبل تدميرها وتهجير أهلها وطلَّابها وأساتذتها من قبل عصابة بشَّار الأسد ونظام البعث المجرم فيها.
أيلول في سوريا
أيلول في سوريا -وفي إدلب تحديدًا- شهرٌ يحبُّنا، ونحبُّه، نقطف فيها أواخر عناقيد الكروم وحبَّات التِّين المتفتِّحة، ونجفِّفها؛ لنأكل منها في ليالي الشِّتاء. في أيلول الرِّيف السُّوريِّ ينتهي موسم تجفيف عصير الطَّماطم ومستخلص الفلفل الأحمر، وتُودع العُصارة في الجرار، وإن اشترى واحد من الأبناء علبة صغيرة من هذا العصير أو تلك الخلاصة من متجر حداثيٍّ، سيقرأ كلمات أو عبارات غريبة عنَّا؛ مثل: (كاتشب) أو (ربّ البندورة)، ولن ينتبه أحد من شيوخ الحداثة إلى كُفره البواح بقراءة مثل هذه الكلمات أو العبارات؛ إلَّا إذا تحوَّلت مهمَّة النَّصيحة السِّرِّيَّة النَّافعة-عن قصد أو دون قصد-إلى مهمَّة المجابهة ومحاربة الأخوة على مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ في هذه الدُّنيا المضطربة؛ ليس كرهًا بهم-والعياذ بالله-وإنَّما لضمان سعادتهم بعد القتل في جنَّة الآخرة.
في أواخر شهر أيلول يعصر بعض الأدالبة في معاصر أجدادهم الحجريَّة باكورة ثمار الزَّيتون، ويأتون بخلاصة هذا الزَّيت القادم من عمق التَّاريخ إلى جوار التَّنُّور، الَّذي أوقدت الأمُّ ناره بأغصان عنب وتين وزيتون يابسة من موسم التَّشحيل الماضي؛ فأضاءت نار التَّنُّور صبيحة يوم خريفيٍّ، أو أشعل زيتُ الزَّيتون ظلمة المساء، وبجوار هذا التَّنُّور اشتعل الحيُّ برائحة الرُّغفان الزَّكيَّة مع زخَّات المطر وخبز الفلفل الأحمر المدهون بزيت الزَّيتون، وشعرَ الجميع بقدسيَّة القمح ودوائر الرُّغفان، وأضاء زيت شجرة الزَّيتون المباركة، أو كاد يضيء الكون كلَّه، إن لم يفسد روعة لمَّتنا الحلوة حول نار التَّنُّور حديثٌ-ينتظره شبِّيحة الأسد وشبِّيحة مموِّل الذَّاكرة السُّوريَّة المشوَّهة من خارج السِّياق-عن شعلة الأولمب أو عبادة نار برومثيوس المشتعلة في قلب التَّنُّور؛ فيردُّ الإعلاميُّ على الشَّيخ، ويساعد الشَّيخ مُريدٌ أو شيخٌ آخر، ويصطفُّ آخرون مع الإعلاميِّ، ويزيد المفسدون حدَّة الانقسام؛ فيقسم تنُّور أيلول أو ناره مجتمعنا قسمة شاقوليَّة ضيزى بدل أن توحِّده ضدَّ آلامه علاوة على انقسام أبنائه الطَّبيعيِّ أو الفطريِّ بين محبٍّ لمطر الشِّتاء وحبٍّ لبساط الصَّيف الواسع وليالي سمره ولذَّة ثماره الذَّهبيَّة وخيراته الوفيرة وفاكهته الملوَّنة، أو كاره لعواصف الشِّتاء، ومؤونة برده القارس، وثلوجه القاسية على خيام مزدحمة بأطفال كزغب القطا؛ عجز الآباء فيها عن تأمين وقود الشِّتاء، مثلما عجز المجتمع الدُّوليُّ عن إنهاء معاناتهم، ونجح الشَّعارير مع بعض كلاب النُّباح المستأجرة في استغلال كلِّ أزمة، وشحبت في المخيَّمات وجوه أطفال صغار، ولانت عريكة رجال أشدَّاء بسبب المفاوضات وصانعي الذَّاكرة المشوَّهة؛ ممَّن يحذفون الشَّهادات الحقَّة، ويحاولون طمس الحقيقة؛ فذرف الرِّجال الحقيقيُّون دموعهم الحرَّى في مدن المنافي أو ليالي الخيام بسبب حنينهم لبيوتهم أو عجزهم عن حماية أطفالهم بمؤونة الشِّتاء!
لمن نغنِّي؟
في تلفزيون سوريا المعارض حذفوا مقابلة مهمَّة تحدَّث فيها المقدَّم محمَّد الحمَّادو أبو الهول عن أسرار جبهة السَّاحل السُّوريِّ، وفي الوقت نفسه يُغرق القائمون على صناعة المحتوى والأيديولوجيا في تلفزيون سوريا مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ كلَّها ببودكاست القصيد، الَّتي تسمعنا الجعجعة، ولا تُرينا طحنًا؛ لأنَّها كالعملات البذيئة، أو لأنَّها عملات مزيَّفة صار بإمكانها أن تطرد العملة الحقيقيَّة، وتتفوَّق عليها في زمن التَّمثيل وتمسيح الجوخ وضياع القيم، ويشبه هذا الفعل تقديم وردة حمراء لمواطن مشرَّد أو رجل يجلس على الخازوق؛ فيظهر المغنِّي والرُّاوي والمنشدون والشُّعراء المستأجرون؛ ليمارسوا أدوارهم المرسومة لهم في تسكين الآلام والتَّخدير والتَّضليل معًا؛ ولم يعد من المجدي أن نقول لهم: (على مَن تقرأ مزاميرك يا داوود)؟! ولمن تسجِّلون البودكاست الشِّعريَّ؟ لأهل المخيَّمات، الَّذين يحاصرهم الشِّتاء؟ أم للمفاوضين الَّذين سلَّموا البيوت خلال المفاوضات؟ أو تسجِّلون لمموِّلكم، أو تبحثون عن شهرة زائفة؛ لتكونوا إعلاميِّي الصُّدفة المستأجرين؟ أو لتقبضوا دولارات مموِّليكم بوصفكم شعارير (الأزمة والحرب الأهليَّة) لا شعراء الشَّعب والثَّورة؛ لأنَّ شعراء الثَّورة الحقيقيِّين يعانون مع أهليهم ضنك العيش في المخيَّمات؟
المهمُّ أن تغنُّوا، وتظهروا بمظهر المثقَّف المنفوخ! وتقبضوا الدُّولارات، وتثيروا الفتن والنَّعرات، وتزيدوا مع هذا وذاك من انقسام الشَّارع بين مؤيِّد للشَّيخ وداعٍ لاحترامه؛ ليذهب الشَّيخ بمريده إلى الجنَّة، أو مؤيِّد للإعلاميِّ؛ ليضمن له حرِّيَّة التَّعبير، وبدل أن تتَّحدوا في وجه هذه التَّحدِّيات، وتقفوا في وجه مسجِّل البودكاست المموَّل، الَّذي أضاع البوصلة والقضيَّة مثلما أضاع أخوه من قبله جَمل حَبَّابته، وراح ينشد، ويغنِّي؛ إن وجده يغنِّي، وإن أضاعه يغنِّي؛ فالجمل ليس جمله، والقضيَّة ليست قضيَّته، ولا همَّ له مع مسِّيح جوخه غير الغناء؛ لأنَّ الغناء على المنابر المأجورة يجلب الشُّهرة الزَّائفة، ويدرُّ المال على الشَّعرور المنفوخ والرَّاوي مسِّيح الجوخ! وفي الخيام رجال وأطفال يحنُّون إلى بيوتهم في أيلول، وينتظرون شتاء جديدًا قاسيًا. وغير بعيد عنهم، هناك-وعلى بعد أميال قليلة-بيوتهم وحقولهم وآبارهم الَّتي دمَّرها المجرم بشَّار الأسد، وعاثت فيها المليشيات الطَّائفيَّة نهبًا وفسادًا، وكما برز صوت فيروز في مطلع المقال، يبرز صوت شاعر حقيقيٍّ آخر مثل أحمد عبد المعطي حجازي في نهايته؛ ليقول:
وُلدت هنا كلماتنا!
ولدت هنا في اللَّيل يا عود الذُّرة!
يا نجمة مسجونة في خيط ماء!
يا ثديَ أمٍّ لم يعد فيه لبن!
يا أيُّها الطِّفل الَّذي ما زال عند العاشرة!
لكنَّ عينيه تجوَّلتا في الأفق البعيد!
يا من يصمُّ السَّمع عن كلماتنا
أدعوك أن تمشي على كلماتنا
بالعين لو صادفتها
كيلا تموت على الورق
أسقط عليها قطرتين من العرق
كيلا تموت
فالصَّوت إن لم يلق أذنًا ضاع في صمت الأفق!