العربي الآن

واشنطن بين الكلفة والعائد في الجزيرة السورية

بعد أعوام من الاعتماد على الغطاء الأميركي، تآكلت قدرتها على الاستقلال الميداني والسياسي، فيما مالت الكفة داخل صفوفها لصالح المقاتلين العرب الذين يفضّلون العودة إلى كنف دمشق

محمود عارف * العربي القديم

بعد أكثر من عقد من التدخل العسكري الأميركي المباشر وغير المباشر في سوريا، تتجه واشنطن بشكل واضح نحو إعادة ترتيب وجودها في المنطقة، مع التركيز على انسحاب منظّم من شمال شرقي البلاد. القرار الأميركي لم يأتِ من فراغ، بل جاء نتيجة مزيج معقد من حسابات استراتيجية، سياسية، واقتصادية، مع مراعاة التحولات الإقليمية والدولية، فضلاً عن واقع القوى المحلية على الأرض. الانسحاب، إذا تمّ بطريقة مدروسة، يمثل فرصة لواشنطن لإعادة تركيز مواردها على أولويات استراتيجية أكثر أهمية، مثل المنافسة مع الصين وروسيا، وفي الوقت نفسه إعادة رسم خريطة القوى في شمال شرق سوريا بطريقة تقلّل من المخاطر وتحمي المصالح الأميركية، السورية، والتركية.

وجود القوات الأميركية في شمال شرق سوريا ليس مكلفًا فقط من حيث العدد، بل من حيث الموارد اللوجستية والسياسية والمالية اللازمة للحفاظ على الاستقرار النسبي. القوات الأميركية هناك تقل عن 900 جندي، إلا أن تكلفة الحماية، الدعم اللوجستي، والعمليات الأمنية ضد فلول تنظيم “داعش” تفوق العائد الاستراتيجي الفعلي. منذ هزيمة داعش العسكرية الكبرى في 2019–2020، تراجع الدور العسكري الأميركي إلى حدود الحفاظ على الأمن الجزئي، وهو ما جعل بقاء القوات الأميركية على الأرض أكثر عرضة للتساؤل داخليًا، خصوصًا في أوساط الرأي العام الأميركي الذي لم يعد يرى جدوى في الحروب الطويلة بلا نتائج ملموسة.

من منظور سياسي داخلي، يمثل الانسحاب فرصة لأي إدارة، لتقديمها كإنجاز داخلي: إعادة الجنود إلى الوطن، ووقف الإنفاق غير المجدي، وقطع التدخلات في حروب بعيدة عن المصالح الحيوية المباشرة للولايات المتحدة. وبذلك، يُنظر إلى قرار الانسحاب ليس كاستسلام أمام الواقع السوري، بل كخطوة مدروسة لإعادة توزيع الجهد العسكري والسياسي.

 تحول بوصلة الاستراتيجية الأميركية

التحول الاستراتيجي الأوسع للأمن القومي الأميركي يوضح السبب الثاني وراء انسحاب القوات. البنتاغون حدد صراحةً أن التركيز الجغرافي المستقبلي سيتركز على آسيا والمحيط الهادئ لمواجهة تحديات الصين وروسيا. الشرق الأوسط، الذي كان يُعتبر محورًا للوجود الأميركي لعقود، أصبح ملفًا ثانويًا، تُدار فيه التفاهمات أكثر مما يُدار بالتدخل المباشر.

في هذا الإطار، بدأت واشنطن إعادة تقييم دورها في شمال شرق سوريا، مع التركيز على إيجاد مخرج يضمن الحد الأدنى من الاستقرار قبل الانسحاب الكامل. أحد الحلول المقترحة هو نقل مسؤولية السيطرة إلى دمشق تدريجيًا ضمن ما يمكن تسميته بـ”صفقة الاستقرار”، بحيث تبقى الولايات المتحدة معنية بمراقبة الحدود وحماية المصالح الاستراتيجية، دون البقاء ميدانيًا على الأرض.

النفط السوري واقع سياسي أكثر من كونه اقتصادي

لطالما اعتُبر النفط السوري في دير الزور والحسكة أحد الأسباب وراء استمرار الوجود الأميركي، لكنه لم يكن مكسبًا اقتصاديًا فعليًا. الإنتاج اليومي يقدر بين 30 و40 ألف برميل فقط، وهو رقم ضئيل مقارنةً بالقدرة الإنتاجية العالمية. من هذا المنطلق، لم يعد النفط٧ الحافز الاقتصادي المبرر للبقاء، بل تحوّل إلى ورقة سياسية تُستخدم لتأمين خروج منظّم وتحويله إلى أداة تفاوضية بين واشنطن والحكومة الوليدة في دمشق.

واشنطن ترى أن إدارة هذا الملف تدريجيًا لصالح دمشق، مع ضمانات لمصادر الطاقة والمداخيل المحلية، أفضل من الإنفاق المباشر على حمايته، خصوصًا في ظل زيادة الأعباء اللوجستية والضغط الدولي على خفض الإنفاق العسكري في مناطق بعيدة عن مصالحها الحيوية المباشرة.

توازنات إقليمية جديدة

انسحاب الولايات المتحدة من سوريا لا يعني فراغًا استراتيجيًا، بل إعادة ترتيب دقيقة لقوى الفاعلين في المنطقة. هنا يبرز الدور الروسي، الذي يعمل. على تعزيز نفوذه في دمشق، لكنه يفضّل انسحابًا أميركيًا منظمًا لتجنب أي مواجهة مباشرة مع واشنطن. الاتفاقات غير الرسمية بين موسكو وواشنطن تشير إلى أن الحفاظ على الاستقرار المحلي، وخصوصًا أمن الحدود، يُمكن تحقيقه من دون صدام مفتوح.

تركيا تمثل العنصر الأكثر حساسية في المعادلة. أنقرة ترفض أي شكل من أشكال الاستقلال الكردي في الشمال السوري، وتعتبر وحدات حماية الشعب (YPG) امتدادًا لحزب العمال الكردستاني، وهو تهديد مباشر لأمنها القومي. لذلك، أي انسحاب أميركي ينبغي أن يضمن لتركيا وجود صيغ إدماجية ل (قسد) داخل الدولة السورية، أو على الأقل ضبط النفوذ الكردي العسكري والسياسي، وهو ما توافق عليه واشنطن ضمن التفاهمات الحالية لتسهيل خروج مرتب للقوات الأميركية.

المشهد ما بعد قسد

الواقع الميداني يشير إلى أن (قسد) ستواجه خيارًا حاسمًا خلال الفترة المقبلة: الاندماج التدريجي ضمن مؤسسات الدولة السورية، أو الذوبان في إطار إعادة هيكلة الشمال الشرقي. نسبة كبيرة من مقاتليها، وتقدّر بين 60 و70٪، من العرب الذين ينتمون إلى الرقة ودير الزور والحسكة الجنوبية، تميل ولاؤهم تاريخيًا وسياسيًا إلى دمشق، وليس إلى المشروع الكردي لـ “روج آفا”. لذلك، أي دخول متدرج للجيش السوري إلى مناطق السيطرة الكردية سيؤدي إلى تحول سريع في الولاءات، مع انخراط جزئي أو كامل للعناصر العربية في مؤسسات الدولة.

الوحدات الكردية، رغم أنها ستحتفظ بهيكلية معينة، ستتقلص صلاحياتها تدريجيًا لتقتصر على مهام أمنية محلية محدودة، مع الحفاظ على بعض القيادات ضمن أطر إشرافية مشتركة لضمان عدم تصعيد الصدام. النتيجة العملية هي أن ذوبان (قسد) في الجيش السوري خلال 2026_2027 يبدو السيناريو الأكثر احتمالًا، مع استمرار إدارة محلية انتقالية مؤقتة لتسهيل عملية إعادة هيكلة الحكم المحلي.

زيارة الشرع إلى واشنطن وإطار الانسحاب السياسي

الزيارة المرتقبة للرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع إلى البيت الأبيض، ولقاؤه بالرئيس الأميركي دونالد ترامب، تُعتبر حدثًا مفصليًا في هذا السياق. اللقاء لا يقتصر على البروتوكولات الدبلوماسية، بل يمثل خطوة عملية لتثبيت صفقة الانسحاب الأميركية، عبر الاعتراف المشروط بالحكومة المؤقتة مقابل الالتزام بإدماج (قسد) وضبط الحدود ومحاربة أي بقايا لتنظيم داعش.

الرسائل الموجهة متعددة الاتجاهات

الحل الأمثل يمر عبر دمشق وليس عبر كيان كردي مستقل مدعوم أميركيًا. والانسحاب الأميركي ليس فراغًا، بل إعادة ترتيب النفوذ مع الحفاظ على مصالح الطرفين. ودعم واشنطن لم يعد مضمونًا إلى ما لا نهاية، والزمن الذي يمكنهم فيه الحفاظ على استقلاليتهم يقترب من نهايته. بهذا المعنى، يصبح اللقاء إطارًا سياسيًا لضمان خروج منظم، مع الحفاظ على الاستقرار المحلي وفتح قناة لتعاون محدود بين واشنطن ودمشق في محاربة الإرهاب.

السيناريو المستقبلي لقسد

تبدو قسد اليوم في مرحلة تراجع متسارع تمهّد لذوبانها التدريجي داخل مؤسسات الدولة السورية. فبعد أعوام من الاعتماد على الغطاء الأميركي، تآكلت قدرتها على الاستقلال الميداني والسياسي، فيما مالت الكفة داخل صفوفها لصالح المقاتلين العرب الذين يفضّلون العودة إلى كنف دمشق. ومع انفتاح قنوات التفاهم بين دمشق وأنقرة، وفتور الدعم الغربي، يغدو خيار الإدماج الجزئي في الجيش والإدارة السورية هو المخرج الوحيد الممكن، ولو تحت مسمّيات شكلية مؤقتة.

لكن هذا الذوبان لا يخلو من ارتباك ومخاطر، إذ إن أي انسحاب أميركي غير منظم قد يترك فراغًا أمنيًا خطيرًا، كما أن بعض الفصائل الكردية المتشددة قد ترفض التخلي عن نفوذها، فتندلع مواجهات محدودة في الأطراف. في المقابل، قد تجد موسكو وطهران في . هذا التحول فرصة لإضعاف الحضور الأميركي لا لتثبيت استقرار دائم، بينما يبقى شبح داعش ماثلًا، جاهزًا لاستغلال كل تصدع أو فراغ في المشهد الجديد.

الانسحاب الأميركي من شمال شرق سوريا يمثل تحوّلًا استراتيجيًا محكومًا بمزيج من الحسابات الاقتصادية والسياسية والعسكرية. الهدف هو تقليص التكاليف المباشرة وغير المباشرة، إعادة تركيز الموارد نحو الأولويات الكبرى، وضمان الاستقرار النسبي أثناء إعادة تشكيل المشهد السياسي في الشمال الشرقي.

قوات (قسد) تواجه مفترقًا حاسمًا: إدماج تدريجي داخل الدولة السورية، مع إدارة محلية محدودة، أو الذوبان التدريجي، فيما تضمن واشنطن انسحابًا منظّمًا دون أن يترتب عليه فراغ أمني، وتضمن تركيا خفض النفوذ الكردي العسكري والسياسي.

زيارة الشرع إلى واشنطن تأتي في هذا السياق كإطار سياسي لضمان تنفيذ الصفقة، مع رسائل واضحة لكل الأطراف الإقليمية والدولية حول الدور المتوقع لكل منهم، مما يمهد الطريق لمرحلة جديدة من إعادة ترتيب الجغرافيا السياسية في سوريا.

بهذا الشكل، الانسحاب الأميركي ليس نهاية الوجود الأميركي، بل بداية إعادة توزيع النفوذ بين دمشق، تركيا، وواشنطن، مع التأكيد على أن المرحلة المقبلة ستشهد تحولًا عميقًا في طبيعة الحكم والسيطرة على الجزيرة السورية، مع ترك أثر طويل الأمد على مستقبل قسد والمنطقة بأسرها.

________________________________

* كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى