فنون وآداب

رواية (الحدث) للنوبلية آني إرنو: حين تضع حياتك على مشرحة الرِّواية

قراءة للأديب السُّوري: موسى رحوم عباس[i]

ونحن في غمرة إعلانات مؤسسة نوبل عن الفائزين بجوائزها في ميادين العلم والأدب والسِّياسة، أخذني الحماسُ الذي لا أجد له مبرِّرا، إلا القرب الجغرافي من هذه المؤسَّسة، وزياراتي القليلة للعاصمة استوكهولم والمرور بها لِمامًا، ونحن العرب أهل ” هوجة” أي ربعنا في كلِّ عرس لهم قرص، ولو أنَّ أعراس نوبل ” لا ناقة لنا فيها، ولا بعير” اسمعوا أيّ مجنون يتحدَّث عن النُّوق والبعران أمام مؤسسة عريقة وجوائزها التي يسيل اللعاب لها، وبعضنا في كلِّ عام ” يهنِّي ويعزِّي لنفسه” والجماعة بعد هذه البوَّابة الزجاجية لا علم لهم به، بل لم يسمعوا باسمه، كما يقول آخر! كنت أنتوي الحديث عن الكورية الجنوبية هان كانغ ( 1970-   ) الروائية وابنة الروائي هان سيونغ وون، لكنَّني عدلت عن ذلك ريثما تهدأ عاصفة ” المظلومية العربية” ليس من باب الاستنكار، وإنما أنا رجل لا يحبُّ العواصف، وليس لي طاقة على الرَّدح وملحقاته؛ لذا عدتُ إلى النوبلية الفرنسية آني إرنو ( 1940-  ) Annie Ernaux

صاحبة “مذكِّرات فتاة، انظر إلى الأضواء يا حبيبي، الاحتلال، شغف بسيط، …” وهي كاتبة ومخرجة أفلام عاشت شبابها في ” إيفيتو” بمنطقة النورماندي، وتخرجت في جامعتي رُوان، وباريس، وفازت بجوائز عديدة، تكللتْ بنوبل للآداب 2023، واخترت روايتها ” الحدث” المنشورة عن دار غاليمار، باريس، 2000م ، وترجمتها للعربية سحر ستَّالة، وراجعها محمد جليد، وصدرت عن منشورات الجمل، بيروت وبغداد، 2019م ، ووقع اخياري على هذه الرواية لسبب أذكره في نهاية هذه المقالة.

صدَّرت السَّيدة إرنو روايتها باقتباس للياباني يوكوتسوشيما، يقول فيه: ” لا تكون الذاكرة إلا تحديقًا في الأشياء حتى نهايتها” وهي عتبة نصية تشكِّل مدخلا للرواية، إذ هي ” تحديق في الذَّاكرة” ولم تتأخر في فتح هذا الصُّندوق العجيب لذاكرة طازجة، وبدأت بالعام 1963 عندما كانت طالبة جامعيَّة تنتمي لعائلة من الطَّبقة العاملة والبنية المحافظة، تخرج للمرة الأولى من حضن العائلة؛ لتكون جامعيَّة في كلية الآداب، تمنح جسدها مساحة واسعة من الاهتمام، وتطلق العنان لشهواته، دون أدنى ضابط في مجتمع كان ما يزال ينظر إلى تلك السلوكيَّات بالاستهجان والنُّفور، لكنَّ القارئ لهذه السِّيرة الرِّوائية يلحظ شيئا، لا يبدو لي على الأقل طبيعيًّا، وهو أنَّها لم تذكر، ولا لمرة واحدة أنَّها مستمتعة بهذه الحياة، بل هي تجرِّب، وتجرِّب، تنتقل من عشيق إلى آخر، وكأنَّها تبحث عن المتعة المفقودة، ولا تصل إليها” كان العناق وحركة الجسدين العاريين يبدوان لي شبيهين برقصة الموت، ص 10″ وتستمر هذه التراجيديا طوال الرواية وهي رواية مكثَّفة وقصيرة، لم تبلغ المائة صفحة، فمن الرُّعب من الأمراض الجنسية وأخطرها ” السيدا” كما يسميه الفرنسيون، أو ” الإيدز” كما يسميه الأنكلوساكسون، وهو نقص المناعة المكتسب، وهو مرض مرعب آنئذ، ولم يكتشف له علاج ناجع حينها، ومن ثمَّ الحمل خارج مؤسَّسة الزَّواج، رحلة طويلة للبحث عن وسيلة للإجهاض وهو وقتئذ من المحرَّمات كنسيًا وقانونيًا في فرنسا وأوروبا عمومًا، وعقوبة الطَّبيب أو القابلة الذي يمارس هذا العمل هي سحب الرُّخصة والحرمان من ممارسة الاختصاص طوال حياته.

تسهب الرِّوائية السَّيدة إرنو في وصف تفاصيل معاناتها مع عائلتها وبخاصة الأم المحافظة والمدقِّقة في تفاصيل حياة ابنتها، والحيّ الذي تعيش فيه، مما يضطرُّها للجوء إلى حيل متعددة لإثبات أنَّها ليست حُبلى، وفي الوقت عينه تستعمل صداقاتها ومعارفها للوصول إلى من يمكنه تخليصها من حمل غير مرغوب فيه، حتى من قِبَلِ ” الأب البيولوجي” الذي لم يبدِ أيَّ اهتمام، حتى إنَّه لم يسهم، ولو بمبلغ يسير يساعدها على التَّخلص منه، وعدَّ أنَّ هذه المشكلة لا تتعلق به، بل هي مسؤوليتها، واستمرَّ في دراسته وأبحاثه في مدينة بوردو البعيدة، ويبدو لي أنَّه اختار جامعتها؛ ليتخلص من هذه الذِّكرى المزعجة تمامًا، رغم أنَّهما يلتقيان في بعض المناسبات دون أن تكلفه بأيِّ شيء. تتصاعد حياتها بصورة معقَّدة مع هذا الحمل الذي أخبرت به عددًا محدودًا من الصَّديقات والأصدقاء، لكنَّهم لم يكترثوا، أو استهجنوا بصمت سلوكها، وعدَّه بعض الشَّباب منهم فرصة للتحرُّش بها، فمن عملتها مرَّة، يمكنها عملها مرَّات.

في أجواء كهذه تنشط ” السُّوق السَّوداء” وأعني القابلات والأطباء الذين يمارسون عمليات الإجهاض سرًّا، وبوسائل بدائيَّة غالبًا، وقد تودي بحياة ضحاياهم دون أدنى شعور بالمسؤولية، ودائمًا المقابل الماديُّ يكون كبيرا؛ لتكتشف بعد مرورها بهذه التّجربة المُرَّة أنَّ هذه السُّوق ناشطة تحت سطح المجتمع المحافظ، بل في كلِّ حيٍّ أو مدينة وحتى في الرِّيف، وتتعرَّف على مصطلحات جديدة عليها، من مثل: ” طبيب غير شريف” أو القابلة ” صانعة الملائكة” ص 25 وهؤلاء عادة يختارون سكناهم في الأحياء الشَّعبية، مثل حي بارْباسْ في باريس الذي يضمُّ خليطا من  اليهود والمهاجرين والفقراء، ويقومون بعملهم في ظروف صحيَّة بالغة السُّوء؛ فلاتعقيم سوى بغليِّ الماء، ولا أدوات مناسبة، ولا مضادَّات حيويَّة… الخ

تخلصتْ أخيرا من هذا الحمل بعد رحلة مُضنية، تسير في الطُّرقات حاملة سرَّ الليلة الفاصلة بين 20/ 21 كانون الثاني ، 1964، وكأنَّه شيء مقدس، لكنْ قد يظنُّ أحدهم أنَّها فخورة بهذا العمل، اقرأ معي ما تقوله حرفيا في الصفحة 91 : كنتُ أجهل ما إذا كنتُ في نهاية الفزع أم الجمال! كنتُ أشعرُ بالفخر، وهو دون شك نفس الفخر الذي يشعر به البحَّارة الوحيدون، ومدمنو المخدرات، واللُّصوص، فخر وصولي إلى حيث لم يطمح الآخرون الذّهاب أبدًا. إنَّه بلاريب شيء ما من هذا الفخر، ما دفعني لكتابة هذه الرِّواية” وفي الحفلات الصَّاخبة للطلبة الجامعيين تصف نفسها” أنا الضيفة الزَّائدة في احتفال كان معناه مجهولا بالنسبة لي” وحتى الاعتراف بالكنيسة لم يكتمل؛ فقد حسمتْ أمرها، وغادرتْ دون اعتراف، تضيفُ” عرفتُ عندما غادرت الكنيسة أن زمن الدِّين قد انتهى بالنسبة لي” ص 92 .

أعودُ للسبب اللاشعوري ربَّما الذي دفعني لاختيار هذه الرِّواية للنوبليَّة الفرنسيَّة للحديث عنها، لم أعوِّل على التَّصنيف الذي كتب في غلافها، بأنَّها رواية، هي سيرة ذاتيَّة محضة، أعطتها صفة الرِّواية، حتى شخوصها رمزت إليهم جميعا بالحروف الأولى، فبعضهم مازال على قيد الحياة، ولاتريد الدُّخول في جدل حول أحقيَّتها في الحديث عنهم بهذه الطَّريقة، لا أستطيع أن أمنع نفسي عن التفكير بالسِّير الذَّاتية للأدباء العرب، هل يمكنهم أن يضعوا حيواتهم على مشرحة الرِّواية، أو مشرحة الآخرين، كما فعلت السيدة إرنو، بكل هذا الصدق والتفصيل، مستذكرة كل تلك الآلام دون الوقوع في جُبِّ المظلوميَّات، كما نفعل نحن! أتفهَّمُ أنَّ الثقافة العربية وتقاليد مجتمعاتنا لا تمنحنا هذه الفرصة، ولن أدَّعيَ البطولة، فلو قُدِّر لي كتابة سيرتي الذَّاتية، مع علمي أنَّني لن أفعل، فلاشيء مميزًا وفذًّا فيها، ولا أعتقد أنَّ الآخرين سيجدون فيها ما هو جاذب لهم، لكنَّني أتحدَّث جدلا، لو قُيِّضَ لي ذلك؛ لقمت “بالمونتاج” كما يفعل أهل السِّينما، بقطع كلِّ المواقف التي تدينني، أو تظهرني جبانًا، أو متآمرًا بصمتي، وسأغلِّف سيرتي بالبطولات الزَّائفة، كما فعل غير واحد من أبناء جلدتي، أذكر عبارة قلتُها لنفسي، وأنا أقرأ سيرة محمد حسنين هيكل الصَّحفي المصري الشَّهير، بعد أن وضعتُ الكتاب جانبًا، تُرى هل كان محمد حسنين هيكل هو قائد ثورة الضُّباط الأحرار والرَّاحل عبد النَّاصر سكرتيرًا عنده؟! 

السَّلاسة في اللغة، والتقشُّف الواضح فيها، جعلها أقرب للحديث الحميم بين صديقين، حديث يجري دون تكلُّف، ربَّما هذا ما دفع بها لتكون في مقدَّمة الأدباء على قوائم الجوائز الكبرى!

وبما أنني ” مِنْ غزيَّة إنْ غَوَتْ غويتُ…” لا بدَّ من أنْ أفكِّر معكم بصوت عالٍ، نعم، هنالك عدد من الكتَّاب والأدباء العرب ترقى كتاباتهم لمستوى نوبل، لغة، ومشروعا، وثباتا في الجودة والاتجاه الإنسانيِّ، لكنَّ هذه الجوائز لها قواعدها، وضوابطها الصَّارمة، والجهات المُرشِّحة ومدى مصداقيتها، وربَّما علينا التَّوقف عن النَّدب والكربلائيات في كلِّ خريف، ونحن نصنِّفُ، ونعلي، ونخفض، ونصرخ إنَّها مُسيَّسة، وفي الحقيقة نحن نُسيِّس حتى توزيع الطَّحين!

للطرفة روى لي أحدهم، أنه في الثَّمانينيات أو بعدها – كما أظن – أرادت الحكومة السورية أعزَّها الله، الاهتمام بموروثنا الثقافي الشَّفوي في الرَّقة المدينة السُّورية النَّائية عن المركز، والقليلة الحظِّ عند أهل الحلِّ والعقد؛ فأرسلت مندوبًا عن الإذاعة والتِّلفزيون الحكوميِّ الذي نسينا عشرات السِّنين، فرشَّح له أحد المتنفِّذين في الشَّأن الثَّقافي مطربًا شعبيًّا معروفًا؛ وبعد أن بدأ التَّسجيل، غنَّى المطربُ أغنية، مطلعها:

جلبْ أهلكْ عَضْعَضْني    بالسَّاقْ علَّمْ نَابُه” وترجمته أنَّ كلب أهل المحبوبة عضَّ العاشق ربَّما أثناء ترصُّده لها، وترك أثرًا في ساقه” فامتعض هذا الحضريُّ، وأوقف التَّسجيل، متمنيًا عليه أن يستبدل بالأغنية غيرها، فكانت الثَّانية: ” يا ذيبْ حاجْ اتْعَوِي  حالك مثل حالي” وترجمته : أيُّها الذِّئب توقفْ عن العُّواء، فما تمرُّ به يشبه ما أمرُّ به من شوقٍ أو لوعةٍ…” عندها خبط الحضريُّ زِرَّ التَّشغيل للمسجِّلة، ونهض تاركًا المطرب فاغرًا فاه من الدَّهشة، وهو يتمتمُ ” شو كلّ غنائكم عن الكلاب والذِّئاب!!”

تُرى هل ما يحصل معنا ونوبِل يشبه ما حصل مع ذلك الحضريِّ الوافد من العاصمة!! مع الاعتذار من مندوب الحكومة ومؤسسة السِّيد نُوبِل.

السويد

10/ 2024


[i] الدكتور موسى رحوم عباس كاتب وروائي سوري مقيم في مملكة السويد

زر الذهاب إلى الأعلى