فنون وآداب

اليوم السوري للغات: مبادرة لبناء الاندماج واحتواء الأزمة

ليست مجرد احتفال ثقافي، بل خطوة استراتيجية لاحتواء أزمة الهويات

عدي شيخ صالح – العربي القديم

يمثّل التنوع اللغوي في سوريا إحدى السمات التاريخية للحضارة السورية، إذ تجتمع على أرضها العربية والكردية والتركمانية والآشورية–السريانية والأرمنية وغيرها من اللغات. غير أن هذا التنوع، الذي كان يمكن أن يشكّل مصدر إثراء حضاري، تحوّل في بعض المراحل إلى بؤرة توتر سياسي واجتماعي.

انطلاقًا من الحاجة الماسّة إلى إعادة صياغة العقد الاجتماعي السوري على أسس أكثر عدلاً وشمولاً، أطرح اليوم مبادرة بعنوان “اليوم السوري للغات”، لتكون خطوة رمزية وعملية في آن واحد نحو تعزيز التعددية الثقافية والاعتراف المتبادل بين مكونات الشعب السوري.

فكما أقرّ الاتحاد الأوروبي “اليوم الأوروبي للغات” لتعزيز التعددية والاندماج، فإن سوريا – وهي بلد متعدد اللغات والأعراق – أحوج ما تكون إلى خطوة مماثلة، ليس باعتبارها مجرد احتفال ثقافي، بل باعتبارها إعلان مبدأ جديد: أن الهوية السورية جامعة، تستوعب العربية والكردية والتركمانية والآشورية–السريانية والأرمنية وغيرها من اللغات التي تنتمي إليها شرائح من مواطنينا.

أولاً: اللغة العربية العمود الفقري للهوية

من الضروري أن نؤكد بوضوح أن هذه المبادرة لا تمس بمكانة اللغة العربية كلغة رسمية للدولة السورية. العربية ستبقى لغة الدستور، ولغة التواصل الوطني، ولغة الأغلبية التي شكّلت تاريخ سوريا الحضاري. بل إن الاعتراف باللغات الأخرى لا ينتقص من العربية، وإنما يرسّخ موقعها بوصفها اللغة الجامعة التي لا تخشى التعايش مع غيرها.

إن الهدف من اليوم السوري للغات هو احتواء الأزمة لا خلق أزمات جديدة، عبر طمأنة المكونات غير العربية بأن لغاتها محترمة ومعترف بها، وفي الوقت ذاته تثبيت العربية كإطار جامع لا بديل عنه.

ثانياً: فلسفة المبادرة: التعلم خيار لا فرض

تعلم اللغات الأخرى في هذا السياق ليس إجباريًا، وإنما هو خيار ثقافي وحضاري. المطلوب أن يكون لدى المجتمع السوري ثقافة الانفتاح على لغات الآخرين، بحيث يشعر الكردي أو التركماني أو الآشوري أن لغته ليست موضع رفض أو إنكار، ويشعر العربي أن لغته الرسمية غير مهددة، بل قادرة على احتضان التنوع.

ثالثاً: المبررات

  • احتواء الأزمة: معالجة حساسية قضية اللغة بوصفها أحد ملفات الانقسام المجتمعي، وتحويلها إلى عنصر توافق.
  •  تعزيز الثقة: خطوة حسن نية من الدولة تجاه المكونات غير العربية، تُعيد بناء الثقة بينها وبين المؤسسات الرسمية.
  •  هوية جامعة: تثبيت اللغة العربية كلغة رسمية جامعة، وفي الوقت نفسه الاعتراف باللغات الأخرى كجزء من التراث الوطني.
  •  الاستفادة من التجارب الدولية: استلهام تجربة “اليوم الأوروبي للغات” الذي عزّز التعددية والاندماج، مع تكييفها على الحالة السورية.

رابعاً: الأهداف

  • ترسيخ الاعتراف بالتنوع اللغوي كجزء من الهوية الوطنية السورية.
  •  تعزيز ثقافة التعارف والانفتاح بين المكونات، والحد من التنافس السلبي حول الهوية.
  • احتواء التوترات: المبادرة خطوة حسن نية من الدولة تجاه المكونات غير العربية، لتبريد ملف شديد الحساسية.
  •  بناء الاندماج: تحويل التنوع اللغوي من ساحة تنافس إلى جسر للتواصل والتكامل.
  • طمأنة المكونات غير العربية بأن لغاتها محترمة ومقدّرة، دون المساس بمكانة اللغة العربية كلغة رسمية للدولة.

خامساً: المبادئ الحاكمة

  • العربية تبقى اللغة الرسمية للدولة السورية، ولغة الدستور والمؤسسات.
    • اللغات الأخرى جزء من الهوية السورية، والاعتراف بها لا ينتقص من العربية بل يعزز الوحدة الوطنية.
    • تعلم اللغات خيار ثقافي لا فرضًا إلزاميًا، الهدف هو نشر ثقافة الانفتاح والتعارف لا فرض التعددية القسرية.
    • الاعتراف يحدّ من التوتر ويمنع استغلال ملف اللغة في مشاريع سياسية تقسيمية.

سادساً: الآليات التنفيذية

  • المؤسسات التعليمية:
    • تنظيم أنشطة مدرسية وجامعية مخصّصة للتعريف باللغات الأخرى.
    • إدخال وحدات ثقافية اختيارية للتعريف بتاريخ وآداب اللغات المحلية.
    • إتاحة تعلم لغة اختيارية من لغات المكونات السورية (الكردية، التركمانية، الآشورية–السريانية، الأرمنية) ابتداءً من المرحلة الإعدادية، إلى جانب اللغة الأجنبية الأساسية (كالإنجليزية أو الفرنسية).
    • في المرحلة الثانوية، يمكن للطالب أن يختار تعلم لغة إضافية ثالثة (أجنبية أو محلية) وفق رغبته، على غرار النماذج الأوروبية.
    • التأكيد أن تعلم هذه اللغات اختياري غير إلزامي، يهدف إلى تعزيز الانفتاح لا فرض التعددية القسرية.
  • المجتمع المدني:
    • إقامة مهرجانات ومعارض كتب وفنون وموسيقا متعددة اللغات.
    • تشجيع المبادرات الشبابية لتعزيز الحوار بين المكونات.
  • الإعلام والثقافة:
    • تخصيص برامج وثائقية عن تاريخ وأدب كل لغة.
    • نشر مواد تعريفية باللغات المختلفة في الصحف والمجلات الوطنية.
  • الإطار الرسمي:
    • اعتماد يوم محدد (مثلاً 21 شباط، وهو اليوم العالمي للغة الأم) ليكون “اليوم السوري للغات”.
    • إصدار مرسوم حكومي باعتماد المناسبة كمناسبة وطنية سنوية.

سادسًا: التوصيات

  • اعتماد اليوم السوري للغات بقرار حكومي رسمي، وإدراجه ضمن الأعياد والمناسبات الوطنية.
  • إشراك جميع المكونات في صياغة الفعاليات لضمان شعورهم بالشراكة.
  • تخصيص تمويل ثقافي لدعم المبادرات والبرامج المرتبطة باللغات المحلية.
  •  إشراك المجتمع الدولي (اليونسكو، الاتحاد الأوروبي) للاستفادة من خبراتهم في تعزيز التعددية الثقافية.
  • ربط المبادرة بمشروع العدالة الانتقالية عبر الاعتراف الرمزي باللغات كجزء من المصالحة الوطنية.

احتواء أزمة الهويات

إن مبادرة “اليوم السوري للغات” ليست مجرد احتفال ثقافي، بل خطوة استراتيجية لاحتواء أزمة الهويات، وتحويل التنوع من مصدر صراع إلى جسر لبناء الثقة والاندماج السوري.

العربية تبقى اللغة الرسمية والجامعة، لكن الاعتراف بباقي اللغات يرسخ وحدة سوريا ويؤسس لعقد اجتماعي جديد، تحت شعار: لغات متعددة… هوية واحدة.

زر الذهاب إلى الأعلى