بصمات | لا تنحني إلا للريح
د. علي حافظ
المكان يصغر، يصغر…………. وأنا أختنق!
من يسبر أغوار روحي الحزينة؟ من يشعر بيّ؟ من يغسل أرضي من اليباب ويفرشها بالحنين؟ أين أذهب في معترك الجهات، وأنا المحمل بكل ما في الماضي من عثرات ومطبات وحفر؟
أنتم تعيشون؛ وأنا أنزف الحياة… لا أحد يريد أن يعرف لمَ كل هذا النزيف اللامرئي؟!
الذات تتكور، تتدحرج كأي كومة قش في مهب الريح.. هناك من يوقف حريتها ويصلبها بالمسامير فوق طاولة الوليمة العارية؛ بينما تدخن الريح تبغ العتمة وتشرب نخب البشر المارقين.
كبرت سريعاً بالقراءة والتجوال، ولاحظت الأغلال التي تكبلني باكراً، فأردت تحطيمها؛ لأن “الذين لا يتحركون؛ لا يُلاحظون أغلالهم” – حسبما تقر روزا لوكسمبورغ – فكرهت المعابد المليئة بالمنافقين الذين يكررون ذواتهم بما يحفظون، وعشت كل مغامرات عقلي الجدلي حتى الثمالة.. أضعت الروح بين الكتب، والأفلام، ومعارض الرسم.. بين الموسيقى، والمقاهي، والملاهي… وهكذا رحت “أعتقد أنني أنتمي لسلالة تتلاشى؛ أؤمن بالمقاهي، أؤمن بالفن، أؤمن بكرامة الفرد، أؤمن بالحرية” – كما كان ألبير كامو!
نعم أشعر بالخوف من التوقف عن كوني أنا؛ أشعر بالخوف من التحول إلى أنا تشبه الأنوات الأخرى… جئت من بعيد كي أطرد الوحش فيَّ وأسكن شفاهاً ملونة بأحمر قرمزي، وأطير فراشة هائمة فوق مياسم النهود المتفتحة في غير مواسمها…
أنا هنا.. هنا، أطرق على صدري بخمسة أصابع غادرها النداء طويلاً؛ أبقي شيئاً من وهم يوقظ حاسة الحرمان… أو يكاد!
أنتم وجدتم أنفسكم البائسة، أما أنا فما زلت أبحث عني؛ وعن بوصلة وطن ضاعت وراء ظل سمتها الدموي… لا يوجد أي شيء مهم.. كل ما أراه هو شاحب يشبه وجه الموت.. لا أرى شيئاً سوى أثار المجازر، والدماء، والأرواح الممزقة بالآه.. لا لون لنا إلا لون الدم.. لا مكان في هذا الوطن الذي يسمونه وطني؛ إلا للبكاء والتأبين!
منذ صغري وأنا أبحث في نفسي عن شجاعة ذلك السكير الذي خرج من خمارة “حنا كعدة” *، متوجهاً إلى تمثال حافظ الأسد ليلقي عليه بعضاً من حجارة أنفاسه المحترقة. ومن ثم تمدد على بلاطات الرصيف، ليغرق بأحلامه… وعندما نهض عاد التمثالُ تمثالاً، والبشرُ بشراً………….؛ وأنا صحوت من نومي الطويل، وصرخت لأشق سقف المدينة الصامتة في مظاهرتي الأولى: لا تنحني إلا للريح!
* حنا كعدة: خمارة كانت موجودة في حلب ومن ثم تحولت إلى مقهى ارتاده المثقفون عادة.