الرأي العام

بصمات | لماذا رفضت الكتابة عن حنا مينه؟

د. علي حافظ

سررت كثيراً حينما طلب مني الكاتب والصحفي محمود الوهب مسؤول الصفحة الثقافية في “جريدة النور” حينذاك، كتابة مقالة أو تقديم دراسة عن أدب حنا مينه بمناسبة بلوغه الثمانين من عمره…

لقد وجدتها فرصة مناسبة لاستعادة ما قرأته لهذا الكاتب في سنوات شبابي الأولى، وما صدر له بعد غيابي عن الوطن لفترة طويلة.

بدأت اتصالاتي لأجمع أكبر قدر ممكن من كتبه.. اتصلت بصديق، وأخبرته عن الموضوع، فقال: حسناً، يكفي أنه لم يشتم رفاق الأمس بعد تركه صفوف اليسار.. أنا جاهز لتأمين ما تيسر من أعماله فهو كاتب جيد على كل حال!

اتصلت بآخر يدعي الاهتمام بالأدب وقضاياه.. عرضت عليه الفكرة، فأجاب: حسناً، إذا أردت أن تكتب شيئاً جيداً عن هذا التقدمي، فأنا جاهز!

أصبت بصدمة الجواب؛ إذ يمكن لصاحبه أن يصطاد في الماء العكر، ويصف إلى جانب الشرطة الثقافية الرسمية المتمثلة بـ “وزارة الثقافة” و”اتحاد الكتاب العرب” وغيرها من المنظمات، التي أدت إلى انحدار أدبنا في السنوات الأخيرة وانحطاط قيمته كلياً:

آه، ما أصعب أن تكون مبدعاً في وطن كسورية – أرسلت أنفاسي المحترقة!

بعد هذه المفارقة ازددت رغبةً في إكمال المهمة بالوقت المحدد، لكنني عرفت نفسي حين تدخل عتبة القراءة؛ فلا تخرج من أجوائها بسهولة، لاسيما إذا صخبت بالضجيج، وطفت بالمتعة والأمل، واتسعت بالزوايا المنفرجة؛ وسمحت لي بالغرق عميقاً في أجواء الكتابة الأنيقة، والوقوع تحت تأثيراتها المخدرة…

مر الوقت سريعاً وأنا أقرأ، وأقرأ… بعد فترة قصيرة أدركت أن المهمة صعبة الإنجاز؛ فبعدما قرأت جُل ما كتبه سابقاً، حاولت الحصول على كتبه الجديدة، لاسيما تلك الرواية التي نشرها على حلقات في جريدة “الثورة”، وتعرف بـ (عاهرة ونصف مجنون). وما إن بدأت بقراءتها حتى توقفت.. هذه الكتابات لا تشبه كتابات حنا مينه.. إنها أشبه بفيلم هندي رخيص!

راحت الأسئلة تدور في رأسي: هل استهلك نفسه، وكان عليه أن يتوقف ويعلن اعتزاله في الوقت المناسب، كالطيب صالح وسومرست موم وخوان رولفو وغيرهم؟! ماذا جرى له؟ كيف يكتب بهذه الطريقة المملة والمقززة؟..

ربما، أراد حنا أن يكون كالممثل كلينت ايستوود الذي عمل دون كلل أو ملل حتى نهاية حياته، وأجاب عن الأسئلة التي تتعلق بعمره وعمله بالتالي:

– ما الذي ستفعله يا مستر في سن 93؟

– طبعاً، سأبدأ فيلماً جديداً كعادتي.

– ما الذي يجعلك تستمر بهكذا شغف؟

– أنا أستيقظ كل يوم ولا أسمح للرجل العجوز بالدخول!

قد يكون لكبر السن أيها الراحل فائدتان عظيمتان: “الأسنان لم تعد تؤلمك ولا تسمع كل الأشياء الغبية التي تقال حولك” – كما يقول جورج برنارد شو!

وهكذا، كتبت في البداية خاطرة تحت عنوان “حنا مينه قبل وبعد”؛ أي مقارنة ناقدة بين كتاباته قبل أن أسافر للدراسة في روسيا، وكتاباته بعد عودتي من هناك. إلا أنني لم أنشرها؛ وبالتالي حتى لو أعطيتها لـ جريدة “النور” فلن تلاقي القبول؛ لأن الصفحة خصصت حينها للاحتفال بصاحب الذكرى وتمجيده!  

عذراً يا حنا مينه على عدم كتابتي دراسة أو بحثاً عن مؤلفاتك؛ فهذا لأنني لم أستطع أن أمدحك هكذا بالمجان، أو أن أكتب عملاً تجارياً سريعاً أقوم بتوليف الأشياء والتواريخ الجميلة من الذاكرة لرواياتك الأولى التي حفرت في قلبي.. ها أنا أؤجل المهمة لزمن آخر، تكتمل به الحقوق والواجبات، وينضج القارئ، وتتوضح الصورة بعدسات قراء الكلمة الماسية الساحرة!

لن أتحجج بـ “الظروف الاستثنائية” كالمختار جريس في روايتك “المصابيح الزرق”؛ بل سأقول لك مباشرة كما تتحدث النحلة إلى الزهرة: “طويل طريق العسل؛ وهذا يحتاج إلى موسم ربيع جديد!”.

زر الذهاب إلى الأعلى