علم النفس والسلوك

الفضيلة على منصة الإعدام: سيرة الأخلاق في زمن الاستعراض

بين إشارات الفضيلة وانفصام الثقافة: سردية الأقنعة التي نعيشها

براء الجمعة * – العربي القديم

تخيّل مشهداً غريباً: الفضيلة تُجرّ مُقيّدة إلى حتف عصري، ليس لارتكابها خطأ، بل لأن زمن الاستعراض طغى على جوهرها. في عالم تُقدر فيه الأفعال بعدد “الإعجابات” لا بعمق القيم، وتُستبدل فيه البوصلة الأخلاقية بخوارزميات التصفيق، يصبح السؤال أشد إلحاحًا: هل ما زلنا نمارس الأخلاق اقتناعاً، أم أننا أتقنّا فن تصدير “إشارات الفضيلة” كتذاكر قبول اجتماعي؟

في الكرنفالات، نرتدي الأقنعة لنمثل أدوارًا لا تُحاسَب. نرقص ونضحك دون خوف، لأن القناع يُحرّر. لكن ماذا لو التصق القناع بالجلد؟ ماذا لو صار جزءًا من ملامحنا؟ في الثقافة العربية، لا تُرتدى الأقنعة بغرض التسلية والمرح فحسب، بل بوصفها “ضرورة وجودية” في مجتمع يختلط فيه الصدق بالتمثيل، والنية بالعرض، والضمير بالسمعة.

ليست الفضيلة مجرد قيمة نبيلة في حد ذاتها، بل تتحول أحيانًا إلى طريقة تواصل معقدة، أو بتعبير جيفري ميللر: “إشارة اجتماعية” دقيقة. نحن لا نمارس الأخلاق دائماً لأننا نؤمن بها بشدة، بل لأن المجتمع ينتظر منّا أداءً معيّنًا، استعراضًا للقيم. وهكذا، تنشأ مسافة مُربكة بين الإنسان الحقيقي بتناقضاته، والإنسان الذي يلعب دور الفاضل، بين الضمير الداخلي وما يطلبه الآخرون.

هذا المقال ليس رثاءً لقيمة مهددة، بل محاولة لتشريح هذا التحوّل المُربك في مسيرة الأخلاق، حيث تتقاطع رغبتنا في الظهور مع انقسام داخلي عميق، وتغدو الأقنعة التي نرتديها هي الهويات التي نُعرَف بها. ولكن، ماذا لو لم تكن هذه الأقنعة تغطي وجوهنا، بل أصبحت هي وجوهنا ذاتها؟ وهل نملك بعدُ الجرأة للنظر في المرآة، لا بحثًا عن مظهرٍ جيد، بل عن وجهٍ لم نعد نعرفه؟

الفضيلة كلغة إشارات: “أخلاق الميكروفون

في كتابه الجريء The Mating Mind، يقترح ميللر أن بعض مظاهر الأخلاق ليست إلا إشارات جنسية واجتماعية غير واعية تهدف إلى زيادة جاذبيتنا في “سوق العلاقات” المعقد. الفضيلة هنا لا تُعاش وتُمارس في الخفاء بقدر ما تُعرَض وتُبث على الملأ، كمن ينشر صورًا مكثفة لأنشطة العمل التطوعي على “فيسبوك” أكثر مما يمارسه بتفانٍ في الواقع. نحن نمارس ما يمكن تسميته بـ “أخلاق الميكروفون”: نُكثر من الشعارات الرنانة والعبارات المثالية في المجالس العامة ووسائل التواصل، ونُقلّل بشكل ملحوظ من المواقف الفعلية التي تتطلب تضحية حقيقية أو مساءلة الذات.

هذا ليس غريبًا على مجتمعاتنا، حيث اللغة الأخلاقية تُستخدم كزينة لفظية لا تعكس دائمًا عمقًا في الفعل: “الله يكرمك” تُقال أحيانًا دون نية صادقة بالكرم، “عيب تحكي هيك” قد تُستخدم لقمع الرأي الآخر أكثر من الحفاظ على الأدب، “الستر زين” قد يُوظف للتغطية على أخطاء جسيمة بدلًا من الحفاظ على الخصوصية. إنها عبارات نُطلقها كي لا نصمت في المواقف الاجتماعية، لا لأنها نابعة بالضرورة من قناعة أخلاقية راسخة. والمفارقة المؤلمة أن الإفراط في هذه اللغة الأخلاقية المنمقة قد يساهم تدريجيًا في إفراغ الأخلاق من مضمونها الحقيقي، فتصير الأخلاق مجرّد “طقس اجتماعي” يتم أداؤه ببراعة، لا علاقة له بالضرورة بالفعل الصادق والمسؤول.

المستشرف: فصام القيم في الجسد الاجتماعي

وحده علي الوردي رحمه الله التقط هذا التناقض بدقّة حين وصف شخصية “المستشرف”، ذلك الإنسان الذي يتبنّى خطابًا مثاليًّا وعالي النبرة في العلن، لكنه في خلوته وسلوكه اليومي قد يغرق في تناقضات صارخة لا تمت لتلك القيم المعلنة بأي صلة. المستشرف هنا ليس كاذبًا بالضرورة أو منافقًا عن عمد في كل الأحيان، بل هو في كثير من الأحيان ضحية لانقسام ثقافي داخلي عميق: صراع دائم ما بين نموذج المدينة الحديثة بتوقعاتها وبين قيم القبيلة التقليدية، ما بين الإرث المجتمعي الذي يحمله وبين الحداثة المتعثّرة التي يحاول التكيف معها، ما بين الهوية المثالية التي يُفترض به أن يظهر بها أمام الآخرين، وذاته الحقيقية التي قد يُمنَع عنه التعبير عنها بحرية.

إنه نوع من الفصام الجمعي الذي تعيشه مجتمعاتنا: حين يُطالَب الإنسان بشكل مستمر بأن يكون مثالًا أخلاقيًّا ونموذجًا للفضيلة في العلن، بينما يُحاصَر يوميًا بظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية قد تُلزمه ضمنيًا أو صراحةً بأن يكون عكس ذلك تمامًا من أجل البقاء أو تحقيق مصالحه. في هذا السياق المعقد، يصبح النفاق في بعض الأحيان شكلًا من أشكال النجاة النفسية والاجتماعية، لا مجرد رذيلة شخصية. يصبح فنًّا ثقافيًّا يتم إتقانه بمرور الوقت أكثر منه خللاً أخلاقيًّا فطريًا.

عندما يصبح النفاق حاجة ملحة

لا أحد يحب بطبعه أن يوصف بالنفاق أو الازدواجية. ولكن ماذا لو كان هذا النفاق الظاهري نفسه صرخة خافتة للضمير في وجه نظام أخلاقي فاسد أو غير منصف؟ في مجتمعات تُقاس فيها السمعة بناءً على المظهر والسلوك أمام الناس، وليس على أساس الأفعال الصادقة والمسؤولة، يصبح الإنسان تحت المراقبة والتدقيق، ويُحاسب على صورته الاجتماعية أكثر من حقيقته. هذا ليس بالضرورة من قبل سلطة قمعية، بل من مجتمع يفرض رقابة وتقييماً شديدين. وهكذا، يصبح الإخلاص للذات والتعبير عن المشاعر الصادقة تهديداً الصورة الاجتماعية، ويصبح التظاهر بالفضيلة نوعًا من الدفاع و”الفضيلة” المقبولة.

في علم النفس، يُعتبر “النفاق الأخلاقي” (Moral Hypocrisy)  آلية دفاع نفسية لا شعورية، يستخدمها الفرد لتجنّب القلق والتوتر الناتجين عن التباين بين قيمه ومبادئه وسلوكه، وهكذا، يصبح الرياء الظاهري أقل ضرراً على للسلامة النفسية من المواجهة الصادقة مع الذات والاعتراف بالضعف. نحن لا نكذب دائمًا لأننا سيئون، بل لأن قول الحقيقة قد يكون مكلفًا جدًا في نظام اجتماعي لا يتقبل الضعف الإنساني والاعتراف بالخطأ.

الفضيلة المنتحَلة: ذاتٌ مشتّتة تبحث عن نفسها

ليست هذه التباينات بالضرورة وصمة عار على مجتمعاتنا. ربما هي أثر جانبي طبيعي لتحوّلات اجتماعية وثقافية لم تُحدد معالمها بعد. إن العربي المثقل بالفضائل المعلنة ليس كائنًا مزدوجًا بالضرورة بقدر ما هو ضحية لصراع حتمي: صدام مستمر بين ماضٍ مُثقل بالتقاليد والأعراف وبين حاضر مُرهق بالتحديات والازدواجية، بين ثقافة “يجب” الأخلاقية الصارمة وثقافة “أريد” الفردية التواقة للتحرر.

الفضيلة هنا تتحول أحيانًا إلى وسيلة للحفاظ على تماسك اجتماعي ظاهري، لا دليلًا قاطعاً على نقاء الضمير. فهي ليست دائماً تعبيراً عن صدق أخلاقي راسخ، بل نداء ضمني لحماية الهوية الجماعية والفردية من التشظي في وجه التحديات. وعندما تكون الأخلاق جزءًا من الاستعراض العام، وليست جزءًا أصيلًا من السلوك اليومي، نكون قد انتقلنا ببطء من منطقة القيم الحقيقية إلى منطقة الأزياء الاجتماعية المتغيرة.

الوجه خلف القناع: هل نملك الشجاعة لنكون على حقيقتنا؟

لكن هل يمكن العيش في هذا العالم المعقد دون ارتداء بعض الأقنعة؟ قد لا يكون ذلك ممكنًا دائمًا. بل لعل المشكلة الأساسية ليست في وجود القناع بحد ذاته، بل في درجة التصاقه بوجوهنا الحقيقية وتأثيره على قدرتنا على التواصل الصادق مع الذات والآخرين. الفضيلة الحقيقية لا تُقاس بغياب التناقض الإنساني، بل بكيفية تعاملنا بوعي ومسؤولية مع هذا التناقض. وما يميّز الإنسان ذو الأخلاق الرفيعة ليس كماله، بل قدرته على رؤية جوانب الضعف والعيوب فيه دون أن يحوّلها إلى عذر مستمر للسلوك السيء أو التنصل من المسؤولية.

الفضيلة ليست إعلانًا علنيًّا يُبث عبر وسائل التواصل، بل ممارسة صامتة تتجلى في الخيارات اليومية الصغيرة وفي التعاملات الإنسانية الخفية. نكون فاضلين حقًا حين نكفّ عن المبالغة في إعلان فضائلنا المتوهمة. نكون صادقين مع أنفسنا والآخرين حين لا نخجل من الاعتراف بهشاشتنا الإنسانية ونقائصنا. قد لا ننجح دائمًا في التمسك بالمثل العليا، لكن مجرد الاعتراف بتعقيدنا الإنساني هو خطوة أخلاقية شجاعة بحد ذاتها.

الوجه الإنساني المنسي

في فيلم Gladiator، إذاً، لم يكن قناع “ماكسيموس” المعدني في حلبة الموت الرومانية مجرد درعٍ واقٍ، بل مرآة مُقعّرة تعكس روحًا محطمة من الخيانة والخذلان. خلف المعدن الصامت، كان قلبٌ موجوع، وروحٌ تتشبث ببقايا عزة في عالم لا يصفح ولا يرحم. القناع، إذًا، لم يكن وهماً؛ بل صرخة مكتومة لوجهٍ يُحاول البقاء.

وربما نحن، في “زمن الاستعراض الكبير”، لا نرتدي أقنعتنا الفاضلة لنُضلل، بل لنحمي ما تبقى فينا من عُري هشاشتنا أمام أعين عالم لا يرحم الضعفاء. هذه الأقنعة ليست دائماً زيفًا مُتقنًا، بل أحيانًا جلدٌ ثانٍ نلوذ به خوفًا من الانكشاف في مسرح اجتماعي لا يتعاطف مع الجروح الداخلية، ولا يتسامح مع الاعتراف الصادق بالضياع.

المعضلة ليست في نزع القناع قسرًا، بل في استدعاء ملامح الوجه الذي يختبئ خلفه. ذلك الوجه الذي ربما نسيناه في زحمة الأداء والتمثيل، في صخب الإعجاب الزائف، وفي سباق محموم نحو تقييمات أخلاقية سطحية. الفضيلة الحقيقية اليوم لا تُقاس بمدى النقاء المُدّعى، بل في شجاعة النظر إلى التناقضات الداخلية، وفي الاعتراف بالضعف الإنساني العميق. فهل ما زال فينا من يملك الجرأة على مواجهة المرآة، لا لتجميل الصورة، بل لرؤية – ولو للحظة وجيزة – وجهًا بشريًا أصيلًا، يستحق الحب رغم صدقه المُربك، ويستحق الاحتضان رغم شقوقه الظاهرة؟

ربما حان الوقت لأن نكفّ عن إتقان فن نحت أقنعة مثالية، والبدء في رحلة البحث المضني عن الوجه الذي نسي كيف يكون… ببساطة… إنسانًا.

__________________________________

* مختص في الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي

تعليق واحد

  1. مادة صحيحة ومفيدة وحقيقية. ولكن احياناً نرتدي القناع حتى نعترف بالحقائق التي لا نجرؤ أن نعترف بها بالوجه الحقيقي .
    سلمت اناملك أستاذي وسفير الإنسانية، الأستاذ//براء الجمعة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى