الرأي العام

 بلاد تأبى أن تشبه جلاديها: ست سنوات في ظلال إيران

سلطةٌ تزعم أنها ظل الله، فوق أناسٍ يتوقون للتحرر من كابوس "ولاية الفقيه"

براء الجمعة – العربي القديم

ست سنوات عشتها في إيران، ما بين 2004 حتى 2010. حملتُ إليها قلبًا مثقلًا بالصور النمطية، وعدتُ منها شاهدًا على تناقضٍ مؤلمٍ يمزّق روح بلدٍ يخنقه حكم العمامة، فيما يضيء هو بثراءٍ لا يشبه جلاديه. لم أرَ إيران التي ترسمها شاشات الأخبار، بل عرفتها في دفء ناسها، في شغفهم الجارف بالحياة، في تنوعهم العرقي والمذهبي والثقافي؛ فرس وأتراك وأكراد وعرب ولور وبلوش وتركمان وغيرهم، يتنفسون في بلدٍ واحدٍ، بأرواحٍ موسيقيةٍ تبحث عن بصيص فرحٍ وسط العتمة. إنه بلدٌ يفيض بالشعر والمسرح والحرف وصنّاع البهجة… أسماء مثل حافظ وسعدي وجلال آل أحمد وفرخزاد لا تزال تتردد في الهمسات، رغم محاولات التشويه. بلدٌ عاشقٌ للّون والجمال، مكبّلٌ بالسواد.

أتذكر صباحًا في تبريز، رائحة الخبز المحلي تتسلل إلى غرف السكن الجامعي، وصوت موسيقى عذبٌ يصدح من هاتف زميلي الأذري. خالفت تلك اللحظات كل ما رسمته الشاشات: الحياة هنا نبضت في تفاصيلها اليومية البسيطة، بعيدًا عن جدران السياسة وصخب الشعارات.

هذا هو الجرح النازف

نظامٌ قاتمٌ فوق شعبٍ مشرقٍ. سلطةٌ تزعم أنها ظل الله، فوق أناسٍ يتوقون للتحرر من كابوس “ولاية الفقيه”. من السكن الجامعي في تبريز، إلى الحوارات في مقاهي شيراز، وصولًا إلى الأسواق النابضة في أصفهان، لمستُ بيدي حلمًا مجهضًا. لم تكن خطابات الثورة تعني شيئًا لزملائي. كانوا يعرفون عناوين السفارات أكثر من شعارات ثورة 1979 المغتصبة من قبل العمائم، وأحلامهم تلخصت في جملةٍ: “التخرج، ثم الهروب… إلى أي مكان خارج سجن الملالي”. فالوطن حين يُختزل في راية وقمعٍ، يصبح المنفى الداخلي قدرًا محتومًا.

في ليلة باردة، ونحن نحتسي شاي الكرز، همس لي صديقي بمرارة: “نحن نعيش ثورة على أنفسنا، لا ثورة على الطغيان.” كانت تلك الكلمات مفتاحًا لفهم الوجع الإيراني.

في زاوية خافتة ببازار شيراز، شاهدت رسامًا يرسم وجوهًا ملونةً في تحدٍ صامتٍ لسواد الحجاب المفروض. كل لمسة فرشاةٍ كانت ثورةً صغيرةً تعلن: الفن أكبر من أن يُسجن.

وكان زميلي جهان، طالب الهندسة اللامع، يقضي لياليه في تعلم لغات أجنبية بدل دروسه. قال لي: “هذه ليست لغات، بل مفاتيح لأبواب السجون التي تحيط بنا.” كانت كلماته صدى لجيلٍ يحاول الفرار من سجنٍ وطن مسلوب.

المرأة الإيرانية: صرخة التحدي النابضة

هي صرخة التحدي النابضة وسط الركام. ضُربت، سُحلت، اعتُقلت، لكنها ظلت واقفةً. رفعت صوتها، قصّت شعرها، خلعت حجاب الخوف. في شوارع طهران وأصفهان وكرمانشاه، سارت في مواجهة الرصاص، عاريةً إلا من كرامتها. لم تطلب حمايةً، بل نادت باسم الحياة نفسها.

ما زلت أسمع صفارات الإنذار في تبريز يوم فضّ الأمن تظاهرةً سلميةً لنساءٍ يطالبن بحريتهن. رأيت امرأةً في الخمسين تسقط، وعيناها يحملان غضبَ قرون.

وفي طهران، مرت فتاة أمام دورية لشرطة الأخلاق، شعرها مكشوفٌ، نظرة عينيها تحدٍّ صارخ. كانت تلك اللحظة أبلغ من ألف خطاب سياسي، وأقوى من ألف شعار. لم يخفت صوت الشعب. انتفاضاتٌ متتالية هزت البلاد: “أين صوتي؟”، “المرأة، الحياة، الحرية”، “لا نريد جمهورية القمع”؛ نُطقت بدمٍ حيٍّ تحت سماءٍ تخنقها غازات الدموع. واجه الإيرانيون دولةً تملك سجونًا أكثر من جامعات، وعمائم أطول من أحلامهم.

وليّ الفقيه: الخنجر لا المظلة 

ولي الفقيه؟ ليس حاميًا، بل خنجرٌ مغروسٌ في ظهر شعبه. يدّعي حكمًا إلهيًا، وهو تاجر شعاراتٍ بارعٌ، اختطف ثورة 1979 الشعبية وألبسها عباءةً دجلٍ لا علاقة لها بالعدل ولا بالإسلام الحقيقي. بينما كان التلفزيون يهلّل لـ”تحرير فلسطين”، كانت أمهاتٌ في أحياء طهران الفقيرة يناضلن لتوفير رغيف خبزٍ لأطفالهن. الوطن كان البطن الجائعة، لا الحدود البعيدة. وحين حاول النظام حجب الإنترنت، اخترق الشباب جدران الرقابة، فصار كل هاتفٍ ثغرةً في سجن القمع.

النظام في فقاعته، الشعب تحت القمع 

خارجيًا، يواصل النظام نفخ فقاعة قوته الوهمية: صواريخ من زمن ‘الفيل’، طائرات كرتونية، مناورات تلفزيونية صاخبة. يبيع أوهام الردع، التي تحطمت على صخور الضربات الإسرائيلية التي مزّقت منشآته وقتلت علماءه دون أن يجرؤ على الاعتراف. بينما بث التلفزيون صور صواريخه الوهمية، كان الشباب يتبادلون سخريةً مريرةً منها عبر الإنترنت. “قوة الثورة” وهمٌ ينهار، واختراق بنيته من داخله (من أجهزته وحتى دعايته) أصبح جليًا.

أما في سوريـا، فجاء هذا النظام الظلامي لا كجارٍ، بل كمحتلٍ طائفيٍ، موّل الميليشيات الطائفية (كفاطميون وزينبيون)، وشارك في قتل السوريين، ورفع راية التقسيم الطائفي فوق أطلال المدن. قتل باسم “المقاومة”، وحمى الطغاة باسم “القدس”. كسوري هُجرت من أرضي، رأيت مأساة اللاجئين الإيرانيين تعكس مأساتنا. تساءلت: كم من الدماء يجب أن يسيل لندرك أن الظلم لا يعرف حدودًا؟

الجمال الحقيقي: إرث الشعب لا النظام 

دفع الشعب الثمن غاليًا: فقر مدقع، مخدرات، بطالة، انهيار التعليم والصحة، هجرة العقول. إيران التي صدّرت الجمال والإبداع، صارت تُصدّر الموت للجوار. إيران التي أبهرت العالم بحضارتها، سُرِق تراثها باسم العمامة. لكن الوجه الحقيقي لإيران هو ما رأيته في تفاصيل الحياة: في أسواق أصفهان وتبريز العتيقة، حيث تُحاك حكايا الشعب على خيوط السجاد. رأيتُ شيخًا ضريرًا، أنامله المرتعشة بالكاد ترى، لكنها تعرف طريق كل عقدةٍ، وكل لونٍ، وكل نقشٍ في سجادة عمرها قرون. حدثني عن خيوط تروي قصة قريةٍ، أو عشقٍ، أو همسة. لم تكن صوفًا وحريرًا، بل أرواحًا تتراقص على الرغم من القمع.

سجاد القبائل البدوية في زاجروس يحكي عن حرية تأبى القيود، وسجاد تبريز الحريري يشهد على حضارةٍ بنيت بالعلم والفن، لا بالإكراه.

في شيراز، مدينة حافظ وسعدي، لم تكن الأشعار حبيسة الكتب. كانت أغنياتٍ تتردد في زوايا المقاهي القديمة بشارع زند، رغم الرقابة، وهمسات عشقٍ تتبادل في حدائق الورود المستترة. أتذكر شابًا في حديقة حافظ يقرأ بصوتٍ خافت: “إن كنت لا تعلم كيف تصنع الشاي، فما فائدة إبريقك؟” ثم يبتسم قائلاً: “نحن نصنع الحياة، وهم يصنعون الموت.”

سمعتُ موسيقى كردية شعبية، إيقاعاتها تنقر على أوتار الروح، ورقصاتهم المفعمة بالحياة تتحدى الكآبة المُفروضة.

وفي زوايا طهران المظلمة، عزف شباب موسيقى “فيوجن” تدمج الأصالة بالمعاصرة، تضيء بالإبداع رغم الظلام.

في بيت زميلي الأذري بتبريز، حيث رائحة “كباب تبريزي” تفوح، وضيافة أهله تذيب حواجز الخوف، تحدثنا عن تاريخٍ يحكيه المطبخ لا السياسة.

 في أصفهان، وقفتُ في ساحة “نقش جهان” كأني في ملحمة بصرية. قبابها الفيروزية، وزخارفها الزرقاء المتقنة، تصرخ في وجه الظلم: “الحياة أجمل من أن تُسجن في سواد!” حتى “كنيسة فانك” بروائعها الأرمنية-الفارسية، كانت شاهدةً على تعايشٍ ثقافيٍ ودينيٍ يحاول النظام طمسه، لكنه منحوت في جدار الزمن.

جثة ترفض الاعتراف بموتها

واليوم، يتعرى هذا النظام. أعمدة سلطته تتآكل من الداخل، وهيبته تتساقط في الخارج. هو الآن أشبه بجثةٍ ترفض الاعتراف بموتها. لكن ما بقي حيًا نابضًا هو الشعب الإيراني. شعبٌ يرقص على جراحه، ويكتب الشعر على جدران زنزانته.

في احتفالات النوروز (رأس السنة الفارسية)، كانت الشوارع تضج بالحياة، والعائلات تحتفل حول مائدة “هفت سين” المليئة برموز الأمل. الأطفال يركضون بملابسهم الزاهية، يضحكون في وجه الكآبة المُفروضة. النساء يعدن الحلوى بحبٍ، والبيوت تتزين كأنها تقول: “الربيع قادمٌ مهما طال الشتاء”. تلك التفاصيل الصغيرة هي البرهان الأكبر: روح هذا الشعب لا تُقتل.

هذا الشعب لا يحتاج إلى تصفيقٍ لصموده، بل إلى وقفةٍ حقيقيةٍ مع كفاحه. فلا سلامَ للمنطقة، ولا استقرارَ للإنسانية، ما دامت هذه الشجرة السوداء تلقي بظلالها المسمومة. تحرير الشعب الإيراني من هذا النظام الطائفي الظلامي ليس حدثًا عابرًا، بل معركةٌ مصيريةٌ من أجل خلاص وحرية البشرية جمعاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى