زكريا تامر ومعركة افتتاحيات المعرفة
محمد منصور – العربي القديم
تكشف الافتتاحيات القصيرة والمكثفة التي كتبها زكريا تامر، لمجلة (المعرفة) الثقافية الشهرية التي تصدر عن وزارة الثقافة بدمشق، خلال فترة ترؤسه لتحريرها، عن طبيعة المعركة التي كانت تخوضها الصحافة الثقافية في تلك الفترة من ثمانينات القرن العشرين، حيث أخذ قمع نظام حافظ الأسد يتمدّد شيئاً فشيئاً؛ ليتّخذ بُعداً دموياً ووحشياً بالغ الصرامة.
تسلّم زكريا تامر رئاسة تحرير مجلة (المعرفة) في صيف عام 1978، وظهر اسمه كرئيس تحرير لأول مرة في العدد (199) الصادر في أيلول 1978. أمّا أوّل افتتاحية كتبها، فكانت بعنوان (سوريا تشرين) التي تصدّرت العدد (200) الصادر في تشرين الأول/ أكتوبر من العام نفسه. لا يمكن تخيّل اليوم أن أحداً تحدّث عن حرب تشرين، ولم يذكر “الرفيق المناضل حافظ الأسد”، لكن زكريا تامر فعلها، كتب افتتاحية كاملة عن حرب تشرين في ذكراها الخامسة، دون أن يذكر اسم حافظ الأسد البتة، لا في المتن ولا في العنوان. أكثر من ذلك، بدل التغنّى ببطولات الحرب التي كانت مقدّسة في تلك الفترة، تحدّث عن ضرورة إعطاء الحرية للمواطن، وممّا قاله:
“إن المواطن الجائع المُهان المُقيّد بالأصفاد، لا يستطيع أن يحمل سلاحاً ويحارب عدواً، فالوطن ليس تراباً وأشجاراً خضراء، وسماء زرقاء فقط، كما أنه ليس خُطباً حماسية، وأغنيات وطنية، إنما هو بالتأكيد عدلٌ، وحريةٌ وفرح. وسيظل ما يمنحه الوطنُ للمواطن من حقوق هو الذي يحدّد مدى ارتباط ذلك المواطن بوطنه”.
وفي افتتاحية العدد التالي، يكتب زكريا تامر تحت عنوان “ثورة بلا أخطاء”، فيتحدّث عن مَهمّة المثقف، إزاء الثورات التي تسلّم أبناؤها السلطة، ومعيار إخلاصه قائلاً: “ثمّة امتحانٌ لإخلاص المثقف لشعبه وثورته، ويتجلّى في تقويمه للحاكم، من خلال ما يُقدّمه لشعبه، لا من خلال ما يظفر به من مغانم شخصية”!
أي أن تقويمك لإنجازات الحاكم “حافظ الأسد مثلاً”، يجب أن يكون، من خلال ما يُقدّمه للشعب، لا ما يُقدمه لك ولباقي المثقفين من رشاوى، وبيوت وامتيازات!
وحين كتب افتتاحيته عن المجازر الطائفية ذهب للقول: “من البديهي أن يكون دور هؤلاء الانتهازيين دوراً مخرّباً مشوّهاً، ولكن دورهم المسيء هذا، لا يعني أن يُتخَذ ذريعة؛ للبطش بكل ما حققه الشعب من انتصارات، في شتى مجالات الحياة اليومية”.
بهذه الحدّة والوضوح كان يعلو صوت زكريا تامر، وعلى صفحات مجلة تابعة لإحدى وزارات الدولة، لقد كانت هذه الافتتاحيات تعبيراً عن صوت المثقف الذي يريد أن يتّخذ موقفاً نقدياً من السلطة، لا أن يكون بوقاً لها، وعندما أُقيل زكريا تامر من رئاسة تحرير (المعرفة) في حزيران 1980، بعد نشره مقتطفات من (طبائع الاستبداد) للكواكبي، ودُفع للخروج من سورية، حلّ محلّه رؤساء تحرير كانوا أبواقاً ومُطبّلين، فلعلّ معركته التي كان يخوضها بصمت، كانت آخر المعارك التي خاضتها الصحافة الثقافية، ضد التدجين والترويض، قبل أن تصبح مداساً ونعلاً، لا بوقاً وحسب.
إنّ “العربي القديم”، إذ تحتفي بزكريا تامر في هذا العدد الخاص، ليست رائدة في هذا السياق، فقد سبقها للاحتفاء بأدب هذا الرجل منابر وصحف، ومجلات كثيرة عربياً وعالمياً، لكن يحقّ للعربي القديم أن تفخر بأنها تُقدّم لزكريا تامر باقة ورد من أبناء البلد ومن أهله؛ لأنّ زمّار هذا الحيّ يُطربنا، وطالما أطربنا، محاولين أن نتتبّع تفاصيل محلية عنه، وأن نُقدّم صورته بريشة دافئة، من نسيج سوريّ حرّ ومتنوّع ومستقلّ، لا يموّله أحدٌ، ولا ينفق عليه نظامٌ حاكمٌ، أو شيخٌ أو أمير.
_______________________________
زاوية رئيس التحرير في العدد الحادي عشر من مجلة (العربي القديم) الخاص بزكريا تامر – أيار / مايو 2024