أرشيف المجلة الشهرية

أكرم الحوراني وملامح النخبة السياسية في حماة

العربي القديم – فايز سارة

يتفق كثير من السوريين على المكانة الرفيعة التي احتلها أكرم الحوراني في الحياة السياسية السورية، ويتفقون ايضاً على اثره وتأثيره على النخبة السياسية السورية، وفي مدينته حماة خصوصاً، وهو أثر مازالت بعض تعبيراته حاضرة وملموسة في سلوك وأقوال أحفاد الذين عرفوا الحوراني وعملوا معه، بل وبعض من عاصروا وتأثروا بتجربته العريضة والعميقة، في زخمها الكبير الذي قاربت مدته عقدين من حياة استمرت أكثر من ثمانية عقود، عاش منها أكثر من ثلاثة منفياً مبعداً عن بلده، الرازح تحت نير الاستبداد والدكتاتورية.

أهمية مكانة وتجربة الحوراني لا تتصل بآرائه وأفكاره ومواقفه وجهده فقط، وهي الاهم، بل تتصل أيضاً بالبيئة التي رافقت حياته في مدينته حماة وعموم سوريا، التي صار الحوراني أحد أبرز السياسيين فيها، وتتصل بما تركته البيئة العربية على حياته وخاصة في الدول التي كانت في خريطة حركته السياسية ومنها العراق وفلسطين ومصر ولبنان، وقد عاصر فيها  أحداثاً وتطورات مفصلية على نحو ما كانت الأحداث السورية التي عاشها وتابعها.

عندما بدأ وعي الحوراني المولود في العام 1911، يتفتح كانت سوريا في فترة مخاض تبحث عن مستقبلها، وقد خرجت قبل سنوات من نطاق السيطرة العثمانية الطويلة، وسعت الى قيام الدولة السورية تحت سلطة الملك فيصل بن الحسين، وسط مساعي فرنسا للسيطرة على البلاد، مما عجل باحتلالها سوريا، وطرد الملك فيصل، ووضعها تحت الانتداب الفرنسي، وكلها إجراءات حرضت السوريين على مقاومة الفرنسيين، فاشتعلت ثورتهم في مناطق عدة كانت بينها مدينة حماة، التي قاد الثورة فيها فوزي القاوقجي، والتي تحولت الى جزء من الثورة السورية الكبرى (1925-1927) بقيادة سلطان باشا الأطرش، وكان بين القادة الحمويين فيها سعيد العاص وجميل العلواني ومنير الريس الصحافي المعروف وصاحب بردى.

وإضافة للثورة المسلحة التي شاركت فيها النخبة السياسية، فان الأخيرة بدأت الكفاح السياسي ضد الفرنسيين، وشارك فيه حشد كبير من النخبة الحموية بينهم نجيب الريس الصحافي والسياسي صاحب ومحرر القبس، والشيخ محمد الحامد الذي كان مرجع حماة الديني، والشخصية الجامعة، والدكتور محمد توفيق الشيشكلي أحد الزعماء الكبار في الكتلة الوطنية، ونجيب البرازي، أحد مؤسسي الكتلة الوطنية والنائب عن حماة مرات كثيرة، وقد وصفه السياسي السوري خالد العظم بالقول: “كان نجيب البرازي بين سبعة قواد كبار، يقررون المسائل الخطيرة على مستوى سوريا، وعثمان الحوراني أحد السياسي البارز، ومؤسس حزب الشباب، وأبرز رجال التعليم الذين غرسوا في أذهان طلابهم “روح الحرية والاستقلال والمقاومة المسلحة والفخر بالعروبة”، وهي التوجهات التي تشربها قريبه وتلميذه أكرم، وترسخت في وعيه السياسي، وكانت بين دوافع انخراطه في العمل العام فور انتهاء دراسته الحقوق في الجامعة السورية عام 1936.

بدأ أكرم الحوراني مع دخوله بوابة العمل العام، تلمس الموضوعات السياسية المهمة والحساسة، والسير في علاجها، فبدأ السعي الى العصرنة والتحديث في المجتمع في مواجهة الأنماط التقليدية، واهتم بواقع الفلاحين داعيا الى إصلاح زراعي، وقام بتوزيع أملاكه عليهم، وعزز شبكة علاقات المدينة مع الريف، وأقام علاقات مع الضباط الشباب، واضاف اليها الاهتمام بما يحدث في الجوار العربي، فذهب مع بعض رفاقه الى العراق يناصر ثورة رشيد عالي الكيلاني عام 1941، وذهب تالياً عام 1948 للقتال في صفوف جيش الإنقاذ بقيادة فوزي القاوقجي، ورافقه في تجربة الذهاب إلى فلسطين رفاق وأنصار عسكريون ومدنيون، أطباء وطلاب وشباب من حماة، بينهم خليل كلاس النائب في البرلمان لاحقاً والوزير في عهد الوحدة، ومصطفى حمدون وعبد الغني قنوت الذين سيلعبان ادواراً سياسية مهمة في عهد الوحدة، وفي زمن الحكم البعثي في العراق وسوريا، وكان بين المشاركين صديق الحوراني أديب الشيشكلي الذي سيقود انقلاباً، ويصبح لاحقاً رئيس سوريا، وعبد الحميد السراج الذي لعب دوراً امنياً وسياسياً خطيراً قبل وخلال الوحدة السورية – المصرية (1958-1961) وكان ثاني شخصية حموية بعد اكرم الحوراني، تتولى منصب نائب الرئيس عبد الناصر، وزياد الحريري الذي سيقود في دمشق انقلاب 8 آذار 1963، وبهيج كلاس أحد مؤسسي الجيش السوري، وفيصل الركبي الشخصية الحموية المميزة سياسياً واجتماعياً وثقافياً طوال العقود الاخيرة.

لقد سبقت التطورات، وتداخلت مع نشاطات الحوراني في ميدان العمل العام الذي بدأه عام 1939، ومنها انتخابه لأول مرة نائباً في برلمان عام 1943، وصار وزيراً للمرة الاولى منتصف الأربعينيات، قبل ان يؤسس الحزب العربي الاشتراكي 1950، ويقيم اتحاداً لحزبه مع حزب البعث العربي بقيادة ميشيل عفلق وصلاح البيطار، حيث أطلقوا حزب البعث العربي الاشتراكي عام 1952، وامتد نفوذ الحوراني الى الجيش، فصارت له كتلة فاعلة من الضباط، شارك بعضهم في الفريق العسكري الذي سافر الى القاهرة، وأجرى محادثات الوحدة مع عبد الناصر، وقد تولى مقربون منه مناصب بارزة حكوماتها، بينما تولى الحوراني منصب نائب الرئيس، واستقال منه اعتراضاً على سياسات عبد الناصر.

وثمة جانب مثير في تجربة الحوراني والاشتراكيين الملتفين حوله في علاقتهم مع الإسلام السياسي وخاصة الإخوان المسلمين، التي ظهر أول تشكيل لها عام 1937، وكان وجهها الأبرز في حماة الشيخ محمد الحامد، مرجع حماة الديني، وصاحب علاقات قوية مع مؤسس الإخوان في مصر حسن البنا، ووقفت إلى جانب الحامد (الذي ابتعد عن الجماعة لاحقاً) شخصيات فاعلة بينهم سعيد حوى، وقد تولى لاحقاً منصب المراقب العام مرتين، وعدنان سعد الدين، وتولى منصب المراقب العام الرابع، ومحمود الشقفة الذي صار نائب الإخوان عن مدينة حماة في البرلمان السوري، وكان من الطبيعي قيام صراع بين الاشتراكيين والإخوان لأسباب منها الاختلافات الأيديولوجية والسياسية، ولأن الإسلاميين كانوا الأكثر قوة في منافسة الاشتراكيين، ولأن صراع الطرفين كان يجري وسط قاعدة اجتماعية واحدة، تراوح بين التغيير والتقليد.

وإذا كانت نخبة الاشتراكيين الأقوى في حماة حتى الوحدة السورية المصرية 1958، فإن ما أصابها بعد حل الأحزاب، والسياسة الأمنية والعزل من جانب سلطات الوحدة، ثم البعث بعد استيلائه على السلطة عام 1963، والانقسامات والتشتت في صفوف النخبة السورية بما فيها نخبة حماة، التي قبل بعض رموزها العمل تحت واجهة الجبهة الوطنية التقدمية، التي أنشأها حافظ الأسد عام 1972 لإحكام قبضته على سوريا، وكله ساهم في إضعاف الاشتراكيين في حماة، وعزز فرصة ولادة نموذج متطرف ومسلح من الإخوان بدأ نشاطه في العام 1964، كان قائده مروان حديد الذي انقلب من التنظيم الاشتراكي، والتحق بالإخوان المسلمين، وأسس لجيل أخواني، يتبنى العنف المسلح طريقاً للوصول إلى السلطة، وبرز من بين قادة الطليعة المقاتلة حسني عابو وعدنان عقلة، وبينهم من الحمويين عبد الستار الزعيم ثم هشام جنباز ومهدي العلواني، وكان بين  الأقرب لهم من الأخوان سعيد حوى.

وللحق فإن هذا التحول، وإن سعى الإخوان إلى تأكيد أنه منفصل عنهم، فانه كان سبباً رئيسياً في صراع دموي مسلح شهدته سوريا بين منتصف السبعينات وأوائل الثمانينات، كلف البلاد الكثير من الخسائر، ما زالت بعض آثارها حاضرة، وأعطى نظام حافظ الاسد فرصة تصفية الجماعات الإسلامية وخاصة الإخوان والطليعة المقاتلة، واضعاف كل قوى المعارضة في سوريا.

بقي أن أشير الى خلاصات موضوعنا: أكرم الحوراني وملامح النخبة السياسية في حماة،

 أولها: أن مسار النخبة السياسية الحموية انقسم بصورة أساسية إلى اشتراكيين وإسلاميين، فيما كان المنتمون إلى الجماعات الأخرى محدودي الحضور والفاعلية.

والثانية: بمضمون نشاط الطرفين، حيث اتبع الاشتراكيون فكرة النضال الشعبي، وربطوا نضالهم باحتياجات الناس ومطالبهم وطموحاتهم، فإن الإسلاميين ركزوا على الجانب الديني، وعملوا على الوصول إلى إقامة سلطة دينية سواء عبر العمل السياسي أو بواسطة العنف المسلح.

والثالثة: تتعلق بما بقي من ظاهرة النخبة الحموية من الإسلاميين والاشتراكيين في حماة. ففي الوقت الذي انحسر وجود ونفوذ الجماعات الإسلامية وخاصة الأخوان والطليعة في حماة، فإن أبناء وأحفاد الاشتراكيين ظلوا حاضرين في أنشطة المدينة بما فيها الأنشطة السياسية، سواء فيما تبقى من جماعات أصولها الحزب العربي الاشتراكي، ومنها أكثر من تنظيم يحمل اسم حركة الاشتراكيين العرب اثنان منهما في الجبهة وثالث في المعارضة، أو الذين ذهبوا نحو أحزاب معارضة مثل حزب العمل الشيوعي الذي ذهب إليه كثيرون من قادة وكوادر الاشتراكيين، وبين الأسماء التي ترتبط بصورة او بأخرى بإرث الاشتراكيين الحمويين من الناشطين المعاصرين فداء الحوراني، حزامي عدي، لمى قنوت، سحر البني من النساء، ومن السياسيين أكرم البني وأمجد كلاس وإياس عياش الذي اختطفته أجهزة النظام مع عبد العزيز الخير وماهر طحان في العام 2012، ومن الناشطين الحقوقيين أنور البني…. لقد خلفت حماة كثيراً من القادة والنشطاء المميزين فعلاً وما قدمناه بعض من كثير!

_____________________________________________

 من مقالات العدد الثامن من مجلة (العربي القديم) شباط/ فبراير 2024

زر الذهاب إلى الأعلى