العربي الآن

في تحقيق خاص للعربي القديم: الاكتئاب يفترس سكان المخيمات والسوريون مهددون!

العربي القديم | مريم الإبراهيم – الشمال السوري

تنظر فيحاء إلى الماضي بملامح شاحبة، دون أن تحرك ساكناً، تتأمل ذكرياتها وكأنها صور باهتة، تتدافع أمام عينيها وكأنها شبح عالق بين الماضي والحاضر، ترى نفسها قبل ثلاث سنوات، امرأة في منتصف الثلاثينيات، تعيش حياة عادية وسعيدة مع زوجها واطفالها الثلاثة إما الآن فهي  تنسى جدا لاتذكر المواقف حتى تذكر التفاصيل.

فيحاء الدمشسقية: اكتئاب تدريجي

تقول” فيحاء37 عاما “من مدينة دمشق مهجرة في ريف إدلب،  بدأت غمامة ثقيلة تغلف حياتي، كل شيء بات يبدو صعباً، مرهقاً، حتى الأشياء التي كنت أحبها  استمتع بها من قبل لم تعد لها قيمة. لم أكن أعلم أن هذه الغمامة هي الاكتئاب، كما اكتشفت فيما بعد، هجرنا من بلادنا، وزوجي لا يجد عمل، الاوضاع التي مررت بها صعبة جداً، أدركت إن ما أعاني منه ليس مجرد حزن عابر، بل هو حالة مغايرة تماماً، أودت بي  إلى أعماق مظلمة حيث يبدو كل شيء بلا معنى.

بدأت معاناة فيحاء مع الاكتئاب تدريجياً، في البداية، لاحظت أنها لم تعد تستمتع بالأشياء التي كانت تفرح بها من قبل، ثم بدأت تفقد اهتمامها بواجباتها اليومية، خاصة تجاه أطفالها، لم تعد تستطيع اللعب معهم أو الاهتمام بتعليمهم كما كانت تفعل سابقاً، كانت تشعر بالذنب والحزن لأنها لم تعد تلك الأم الحيوية والمشاركة.

نظرة المجتمع نحو فيحاء زادت من معاناتها، كان هناك من يعتبرها ضعيفة أو متخاذلة، ولا يفهمون أن الاكتئاب ليس خياراً بل مرضاً، كانت تجد صعوبة في شرح حالتها للآخرين، وكانت نظراتهم وأحكامهم تزيد من إحساسها بالعزلة. تفاقمت حالتها لدرجة أنها أصبحت تنام لساعات طويلة وتعاني من قلة الكلام والتواصل، شعرت أن العالم أصبح مكاناً غريباً وبارداً، ولم تعد تجد فيه راحتها أو أمانها.

في محاولة للحصول على مساعدة، بدأت فيحاء تراجع الطبيب موفق العموري، الذي كانت تزوره كل ثلاثة أشهر، كانت تتناول الأدوية المضادة للاكتئاب التي وصفها لها، وشعرت ببعض التحسن مع مرور الوقت، إلا أنها كانت تشعر دائماً بأن حياتها القديمة قد ضاعت منها، وكانت تفتقد تلك الأيام التي كانت تشعر فيها بالنشاط والسعادة. فيحاء ليست وحدها في تعاني من الالم النفسي، الاكتئاب هو عدو خفي يهاجم الكثيرين، يسلب قوة شخصياتهم ، مثلها “ياسر من درعا “اردت به ظروفه المعيشية، وعدم توفر عمل لإعالة عائلته إلى اصابته بالاكتئاب.

الدكتور موفق العموري: النساء أكثر عرضة للإصابة

 التقينا الطبيب النفسي”موفق العموري” يشرح لنا: إن الاكتئاب حالة مرضية تؤدي فيها النواقل العصبية والعوامل الحياتية دوراً مهماً، فقد يرتبط الاكتئاب باختلال توازن النواقل العصبية مثل السيروتونين والدوبامين وأدرينالين، في الدماغ.

هذه النواقل العصبية ضرورية لتنظيم الحالة المزاجية، لكنها تؤدي أيضاً أدواراً مهمة في العمليات المعرفية مثل التفكير والذاكرة والتعلم و الانتباه، ومن ثم يمكن أن يؤدي اختلال توازنها فترات طويلة إلى تغييرات في بنية الدماغ ووظيفته، ما يؤثر في القدرات المعرفية.

الاكتئاب هو اضطراب نفسي شائع يؤثر على ملايين الناس حول العالم، كما تتزايد أعداد المرضى بشكل واضح كما أنه عند النساء ضعف عدد الإصابات عند الرجال. الظروف الحياتية والحرب والخوف وتشتت الأسر عوامل مساعدة جداً لزيادة معدلات الاكتئاب عند الافراد .

غالبية المرضى من النازحين وسكان المخيمات

النسبة العالمية تصل الى ٢٠ بالمية زمن السلم، شخص من كل خمس اشخاص، تتزايد هذه النسب خلال الحرب والنزاعات ولكن لايوجد لدنيا مرجعية واحدة للاحصاء ونسبة دقيقة في الشمال السوري المحرر بحسب الطبيب “موفق العموري” يتميز الاكتئاب بالشعور المستمر بالحزن وفقدان الاهتمام أو المتعة في الأنشطة اليومية، وقد يصاحبه تغيرات في النوم والشهية، والشعور بالتعب وفقدان الطاقة، وصعوبة التركيز، والشعور باليأس أو العدمية، يعتبر الاكتئاب من الأمراض التي يمكن أن تؤثر بشكل كبير على حياة الأفراد وعائلاتهم، ويمكن أن يؤدي إلى مضاعفات خطيرة إذا لم يتم التعامل معه بشكل مناسب.

 معاناة ياسر النفسية

“ياسر40 عاماً” بدأ بمراجعة العيادة النفسية منذ حوالي عام، تتسم حالته بالشعور بالضيق والاضطراب، ويزداد هذا الشعور حدة كلما اقترب موعد الذهاب إلى الطبيب، يعاني ياسر من ألم نفسي عميق يجعله يشعر بعدم الاتزان وأنه ليس إنسانا سوياً،  تعود جذور معاناته إلى الأزمات والصدمات التي مر بها في حياته، والتي كانت قاسية لدرجة أنها أثرت بشكل كبير على سلامته النفسية.

تحول هذا الألم النفسي إلى دافع قوي للبحث عن المساعدة الطبية المتخصصة، حيث شعر ياسر بأنه بحاجة إلى دعم حقيقي ليستطيع مواجهة التحديات التي تراكمت عليه، إلا أن استخدام الأدوية النفسية لم يكن سهلًا عليه، فقد كانت تسبب له شعورًا بالضيق وعدم الراحة، ما زاد من إحساسه بعدم التوازن النفسي.

رغم كل هذه المعاناة، لم يفقد ياسر الأمل في التعافي والعودة إلى حياته الطبيعية، كان يطمح إلى الوصول إلى مرحلة يشعر فيها بالسلام الداخلي ويستطيع التعامل مع صعوبات الحياة بشكل أفضل، كان يرى في زيارة الطبيب النفسي بارقة أمل تساعده على تجاوز أزماته النفسية واستعادة جزء من عافيته المفقودة.

أدوية مكلفة ومرضى دخلهم محدود

 يضيف الطبيب “موفق العموري” الأدوية متوفرة وهي مضادات الاكتئاب منها صنع محلي بشكل كبير ومنها المستورد وهي أدوية معتمدة عالميا.. لكن يواجه المرضى من ذوي الدخل المحدود صعوبة بالحصول على الأدوية لأنها مكلفة وأحيانا نواجه انقطاعاً للأدوية بالسوق… كما أن توزيع الادوية وانتشارها جغرافيا من قبل المنظمات فيه عجز كبير جداً، ونعاني في الشمال السوري من قلة الكوادر الطبية المتخصصة، بما يتناسب مع عدد السكان الموجود ضمن المنطقة.

مدة العلاج النموذجية لمرضى الاكتئاب تتراوح بين تسعة إلى  اثني عشر شهرا بشكل دوائي، ونسبه الشفاء جيدة في حال لم تكن حالة المريض متكررة أو ناكسة تلك مدة العلاج في عيادة الطب النفسي.

دراسات حديثة: تدهور مهارات التفكير والذاكرة

يبدو السوريون الذين يعانون هذه الحالات أمام خطر محدق، يهدد بجيل من المرضى النفسيين، إذ كشفت دراسة  حديثة نشرتها الأكاديمية الأميركية حديثة المنشأ لعلم الأعصاب في دورية علم الأعصاب (Neurology) في منتصف يونيو/ حزيران 2024، أن الأشخاص الذين يعانون أعراض الاكتئاب الطويلة الأمد بدءاً من مرحلة الشباب، قد يعانون تدهور مهارات التفكير والذاكرة في منتصف العمر.

تتبعت الدراسة نحو 3,100 مشارك، بمتوسط ​​عمر يبلغ نحو 30 عاماً، جرى تقييم هؤلاء الأفراد بحثاً عن أعراض الاكتئاب كل 5 سنوات على مدى 20 عاماً، وذاك باستخدام استطلاع رأي مفصَّل يغطي التغيرات في الشهية والنوم ومشكلات التركيز ومشاعر انعدام القيمة أو الحزن أو الوحدة.

وقد قسّم الباحثون المشاركين إلى 4 مجموعات بناءً على تطور أعراضهم بمرور الوقت إلى:

  1. أعراض منخفضة مستمرة،
  2. أعراض متوسطة تتزايد مع مرور الوقت
  3. أعراض متوسطة مستمرة
  4. أعراض مرتفعة تتزايد مع مرور الوقت.

وبعد 5 سنوات من التقييم النهائي للاكتئاب، أي عندما كان المشاركون في سن الـ 55 تقريباً، خضعوا إلى اختبارات معرفية. وجد الباحثون أن الأشخاص الذين ينتمون إلى المجموعة التي تعاني أعراض اكتئاب مرتفعة ومتزايدة، كانوا أسوأ أداءً على نحو ملحوظ في الاختبارات المعرفية، من أولئك الذين عانوا أعراضاً منخفضة على نحو مستمر.

إذا يمكن القول إن التعرض الطويل الأمد إلى أعراض الاكتئاب المرتفعة في مرحلة الشباب قد يؤثر سلباً في الوظائف الإدراكية، مثل الذاكرة اللفظية وسرعة المعالجة والوظيفة التنفيذية بحلول منتصف العمر، وقد يتجلى هذا التدهور الإدراكي في صعوبات تشمل أداء المهام اليومية وحل المشكلات وبطء معالجة المعلومات.

علاوة على ذلك، وجد الباحثون أن أعراض الاكتئاب كانت أكثر شيوعاً بين البالغين الذين يعانون أوضاعاً اجتماعية واقتصادية متردية مقارنة بالبالغين ذوي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الأفضل.

ضغوط نفسية هائلة!

في الشمال السوري المحرر، يعاني السكان من ضغوطات نفسية هائلة بسبب الحرب المستمرة والنزوح والظروف المعيشية القاسية، الاكتئاب هو أحد الأمراض النفسية الشائعة في هذه المنطقة بسبب العوامل التالية:

-الصدمة النفسية: التعرض للقتل والدمار وفقدان الأحباء يسبب صدمات نفسية عميقة.

الظروف المعيشية الصعبة: نقص الغذاء والماء والرعاية الصحية يزيد من الشعور بالعجز واليأس.

القلق المستمر: الخوف من المستقبل وعدم الأمان يزيد من مستويات التوتر والقلق.

نقص الدعم النفسي: قلة المرافق الصحية المتخصصة في العلاج النفسي وندرة الدعم الاجتماعي يزيد من صعوبة التعايش مع الاكتئاب.

الكوادر الصحية في الشمال السوري

لا يوجد في المحرر سوى طبيبين مختصين في الطب النفسي، ويوجد مركز علاج (النفس المطمئنة) في مدينة الدانا، ومشفى (سرور) في سرمدا الذي يعمل كعيادة خارجية، ومركز في خربة الجوز، وعيادة في إدلب، ومشفى في إعزاز، وآخر في الباب، ولا يوجد عيادات خاصة بسبب قلة الاختصاصيين أو الأطباء المقيمين النفسيين.

البنية التحتية الطبية تعاني من نقص حاد في المرافق الصحية العاملة في سوريا المستشفيات والمراكز الصحية الأولية تعمل بكامل طاقتها، وهناك نقص كبير في الأدوية الأساسية والمعدات الطبية كما أوضح د. موفق العموري

بالمجمل الوضع الصحي والنفسي في الشمال السوري المحرر يبقى حرجًا ويستدعي مزيدًا من الاستثمار والدعم من المجتمع الدولي لضمان تقديم الرعاية اللازمة للأشخاص الذين يعانون من آثار الحرب والنزاع.

تتضاعف معاناة المصابين بالاكتئاب بسبب الظروف المعيشية القاسية وانعدام الأمن، آمنة (اسم مستعار)لم تعد تذكر من حياتها المسبقة سوى دميتها وهي صغيرة وبقية من ليال قضتها بصحبة والدها، كان تعرضها للاكتئاب لفترة طويلة مايقارب خمسة عشر عاماً، دون مراجعة طبيب مختص كفيلة بتدهور منظومة دماغها وتفكيرها ما جعلها بين النسيان والذاكرة تائهة دوماً.

زر الذهاب إلى الأعلى