الرأي العام

السوريون بين مجزرة مجدل شمس واغتيال هنية: حسن التموضع بعيداً عن تجّار السّياسة

حازم العريضي* – العربي القديم

● بوصلة مجدل شمس

الموقف الذي اتخذه أهل مجدل شمس في بادئ الأمر كان  الأكثر صوابية وهو الرافض لخياري الانصياع لرواية الاحتلال الإسرائيلي أو الإيراني لما جرى.

“دماء أطفالنا ليست للمتاجرة السياسية”، وأطفالنا شهداء الإنسانية.

موقف يؤسس لرؤية سياسية سوريّة، وفي الحدث الآني ينزع الشرعية عن اتجار بعض “السياسيين” التابعين لإيران في لبنان أم سوريا بقضية شهداء الإنسانية ضحايا الصاروخ الآثم الذي استهدف ملعباً لكرة القدم في مجدل شمس/ الجولان السوري المحتل، وتعقيدات ظروف السوريين بين خمسة احتلالات.

الموقف الشجاع من مجدل شمس حاول زجر السياسيين عن محاولاتهم المشبوهة لتحويل شهداء الإنسانية الى ضحايا على مذبح “تحالفاتهم”، بل ورقة تكرّس حظوة بعضهم واستزلامهم للمحور الإيراني، وفي ذات الوقت اتّخذ أهل الجولان السوري المحتل موقفاً جليّاً في رفضهم التاريخي للاستقواء بنتنياهو قائد معسكر اليمين الإسرائيلي وأزلامه، وحروبه المفتوحة على حساب الأبرياء باسم الانتقام لمدنيين إسرائيليين بداية وسوريين اليوم في سياق كل ما تبع 7 أكتوبر.

● توقيت المعركة مناسب وأما المكان فلا !

نتنياهو وخامنئي يستثمران في “حرب” تتصاعد يوماً بعد يوم بين حزب الله وإسرائيل.

والمفارقة أن كليهما مستفيدان من حرب مفتوحة ولكن ضمن “قواعد اشتباك” تحفظ مكاسب الطرفين ولا تفسدها مهما اشتدت نيرانها.

إذن، تحوّل نتنياهو وما يمثّله إلى وضعية سمكة القرش، إن توقّفت عن السباحة ماتت لتنتهي حياته السياسية، ولا مهرب له من قضايا فساد متراكمة ضدّه، ولا سبيل الى حفظ معسكر يميني متطرف في سدة الحكم بأقوى مستويات الهيمنة على السلطة تاريخياً إلا باستمرار وربما تتابع الحروب.

وفي المقلب الآخر ما يسمّى “محور المقاومة” تحت عباءة خامنئي يعاني ذات الإدمان، فلو توقفت حروبه الخارجية سيواجه الاستحقاقات الداخلية بوجوب تقاسم عادل للسلطة واستحقاقات أمام الشعب الإيراني المدجّن إلى حين.

ولم لا، طالما تستنزف حروب خامنئي أذرعاً تخوض معاركه بالوكالة، وتكوي كل المنافسين الحقيقيين لمشروعه في الهيمنة على الشرق الأوسط، والبقاء شريكاً رئيساً غير علني في التوازنات الأميركية، بل تكريس العمامة السوداء بوصفها الأكثر براغماتية مقارنة بسواها.

ولكن، وإن تلاقت مصلحة الطرفين في استمرار حالة الحرب إلا أن لا مصلحة للطرفين ورعاتهما في “الانجرار إلى تصعيد بأثر إقليمي وربما دولي” كما يُقال.

لا ننسى أن حزب الله و”شركائه” المحليين مثّلوا شريكاً موثوقاً في تقاسم حقول الغاز البحرية مع إسرائيل، بل إن تثبيت الاستقرار الأمني على الحدود المشتركة جنوبي لبنان لا ينافس ثباته إلا “الهدنة” شبه الأبدية التي كفلها حافظ الأسد وورثته بين دمشق وتل أبيب.

هذا بالإضافة إلى عوامل معقّدة كثيرة تجعل سحق تابع ولاية الفقيه في لبنان خارج حسابات تل أبيب، وإن طالت قيادات في الدائرة الضيقة حول نصر الله، بينما الحفاظ على “قواعد الاشتباك” مع حزب الله ووليه الفقيه أفضل المعادلات الأمنية بالنسبة لإسرائيل وهنا تكمن المعضلة، فكلا الطرفين تناسبه الاستمرارية دون إسقاط أحدهما الآخر.

وقد يكون حل المعضلة هو نقل العمليات العسكرية إلى غير الساحة اللبنانية، أو إلى “خاصرة رخوة” وفق مصطلحات مروّجي الدعاية الإيرانية.

إذن الزمان مناسب، فماذا عن المكان؟

● الحدود السوريّة – الإسرائيلية !

نجاح عصابة الأسد في تحييد التهديدات الداخلية لاستبدادها، وفشل بشار الأسد في الحفاظ على الدولة السورية جعل البلاد معزولة عن العالم ومدمرة، والأخطر ساحة رخيصة وسهلة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية.

ولا يتطلب نقل المعركة إلى الجنوب السوري سوى المبادرة بعملية عسكرية صغيرة على الحدود، وتبادل الرد والرد المعاكس بالصواريخ والمسيّرات والقوى الجويّة وفق “قواعد اشتباك جوّي” مفتوحة فيما يتعلّق بضرب ما تبقى من بنية تحتية، وذلك لن يزيد من التوتر الأمني الإقليمي بأكثر من المستمر على الساحة السورية منذ عقد ونيّف.

أما “قواعد الاشتباك البرّي” المباشر، فليست مضطرة إلى أكثر من تكرار مشهد الميركافا التي تحاول جاهدة قطع الحدود لبضعة أمتار، ثم تلتف كما كان في المشاهد الهزلية لحرب 2006 حين لحق التدمير الممنهج كثيرا من البنى التحتية اللبنانية بينما المناورة البرية “المسرحية” أتاحت لاحقاً لنصر الله إقامة احتفال مهرجاني بما زعم أنه “نصرٌ إلهي”!.

إذن اشتباك بري، بنسخة معدّلة بعض الشيء، لن يكون مكلفاً لإسرائيل، فلا هي مضطرّة لاجتياح وخسائر في الجنود، أو تكاليف لإدارة توسّع الاحتلال، ولا هي ستنفّذ ما يروّجه أبواق إيران منذ شهور عن اقتطاع مناطق عازلة في عمق الأراضي السورية (القنيطرة، درعا، السويداء، ريف دمشق)، ويكفي التذكير بأزمتها الاقتصادية المتفاقمة توازياً مع حربها لشهور على غزة وباقي العمليات الإقليمية.

وعلى المقلب الآخر، لن توفّر طهران عشرات الآلاف من مرتزقتها عراقيين كانوا أم لبنانيين أم باكستانيين بأرخص الأثمان ترميهم إلى المحرقة وكل ذلك يخدم استعادتها المبادرة في تفاوض على كافة ملفّاتها الإقليمية والدولية مع سيد البيت الأبيض المقبل سواء كان امتداداً لعهود الوفاق مع أوباما وبايدن أو كان تجديداً ليد ترامب القاسية والموصوفة بالمزاجية.

وبذا تكون الجبهة السورية – الاسرائيلية الساحة الأنسب لاستعادة وتكريس طهران متحكمة بـ “كامل الأراضي السورية “، فإن خسرت في التكتيك اليوم تراهن على نجاحات مستقبلية استراتيجية.

وبالتالي، يُراد من كلا الطرفين على مقلبي الحدود، أن تكون المنطقة الجنوبية في عين العاصفة: القنيطرة، درعا، السويداء. ولاحظ عزيزي القارئ، كيف سوقت أبواق النظام، على مر شهور، لكون حراك السويداء “عميل ” ووليد مؤامرة اسرائيلية لانفصال الجنوب السوري، وكأن تل أبيب معنية بإدارة جغرافيا إضافية مكلفة اقتصاديا وغير مجدية سياسيا، خاصة وأنها تستبيح الأجواء السورية ليل نهار، فيما بات يتندر السوريون بتسميته “ماسات كهربائية ” يختبئ بشار الأسد في جحره بالمهاجرين دون حتى التعليق عليها!

● تخسر إيران اليوم لتكسب غداً

يحتفل كثر بهز شباك إيران اليوم، إذ تصطاد يد الخصوم هنية من حضن طهران، في حين كان شبه إجماع عالمي يحاول كبح “ردّ تل أبيب على استهداف مجدل شمس”، ويضغط علناً على نتنياهو بشأن استثناء بيروت من الضربة.

وبينما حرصت أبواق “محور المقاومة” على التهويل بأن الرد يهدد لبنان الدولة، حين تتبرع مثلا شركة طيران “الميدل ايست” اللبنانية بتأجيل رحلات طيران إلى مطار رفيق الحريري، وغير ذلك من تصريحات بعض السياسيين اللبنانيين بأن الخطر محدق بالجميع، وتكرّر قنوات مناصرة للمحور عواجل إخبارية مثل:

 “نحن في حالة حرب وعلينا توقع كل شيء من إسرائيل”!..

 كل ذلك لتبدو المعركة معركة الأمة الجامعة لكل العمائم، وجاء استثمار استهداف هنية لإعادة شد عصب “الأمة ” لتنخرط في اصطفاف يشبه اصطفافات الماضي الغابر بين مسلمٍ ويهودي، والأخطر أن القيادة في كلا المقلبين، ولا مفر من ذلك، هي لأقصى اليمين في اسرائيل ومقابلها أقصى اليمين “الثوري ” في القيادة الإيرانية!.

تخسر إيران اليوم جملة من قيادات الصف الأول في لبنان وسوريا وفلسطين وربما لاحقاً في العراق واليمن، وتلقى قواعدها العسكرية الضربة تلو الضربة خصوصا في سوريا، فيما بات يوصف ب” تتطاير الخواتم” في وتيرة شبه يومية، ولكن لم لا يكون سلوك طهران هو الهروب إلى الأمام والتضحية بكل ما سبق من خسائر قد تنقلب نجاحات تكرّس يدها العليا في سوريا؟

وكيف ذلك؟

تتابعت المبادرات لدخول دمشق دبلوماسياً في عام وأزيد بقليل، من أولاها كانت ما تدعى “المبادرة العربية” وتكشّفت لاحقا الاتصالات التركية، حتى أن ذلك التوجه وصل مؤخراً إلى بضع دول أوروبية!

تضاربت القراءات والتحليلات بين من أصر بأنها مبادرات لسحب البساط من تحت كرسي الأسد بالسياسة ،وبين من تشدد عاطفيا في وصفها ب”الخيانة ” لإعادة تعويم الأسد المجرم على حساب الضحية.

ولكن ثلاث ملاحظات أساسية تربط بين كل هذه المبادرات: 

ـ أولاها: قربها إلى المواقف الروسية.

ـ ثانيها: ارتباط تمامها بنتائج الانتخابات الأميركية.

ـ وأما ثالثتها وضوح مساعي التعطيل الإيرانية.

خيار الضعفاء

لم تتردد إيران للحظة في العشرية الأخيرة في التمدد بشتى نشاطاتها الإرهابية والميليشيات المهيمنة على أربعة دول عربية (العراق، لبنان، اليمن وسوريا).

وتتوسط دمشق العقد جغرافياً وزمنياً، فحاربت طهران بلا هوادة وسفكت الدماء ودمرت البلاد لتبلغ غايتها، وتصارع مؤخراً لتحفظ يداً عليا في بلاد اقتسمتها خمس احتلالات، في مشهد يراد منه أن تكون طهران الحلقة الأضعف، فتبادر هي لتعيد نفسها إلى المركز الأول كقائدة للجبهة الأخطر والأبهظ ثمناً، ولو كلفها ذلك كل الخسائر الباهظة اليوم مقابل مكاسب جدارتها في ضمان هدنة في الغد، تكون أكثر مضاء في تكريس سلطتها على دمشق عبر خطة مجرّبة كفلت لحافظ الأسد وورثته خمسة عقود في قصر المهاجرين وأذرع ممتدة في بلدان الشام البقية.

يغيب ويغيّب أي احتمال ثالث، مع أنه الأجدر بأن يكون البديل.

نعم، السلام كهدف وربما أيديولوجية يبدو خيار الضعفاء اليوم بغياب قوى تحمله تفرضه وآليات تنفيذية واقعية.

هذا مقابل الاحتفال بالموت والانتقام يفرض نفسه في الفضاء العام بوصفه الأكثر إثارة، كيف لا وقد أوغل كلا الطرفين في دماء عشرات الآلاف من المدنيين.

لكن الحقيقة حين تسأل أي إنسان في أرجاء المعمورة فيما يطمح إليه في حياته، فتجدها مرادفات الاحتفال بالحياة، العيش بكرامة وكسب عيش رغيد وعائلة وحياة صحية.

أممنوع ذلك على أبناء وبنات الشرق الأوسط؟ أهو طرح خيالي؟ أم أنه رؤية تشبه “الطريق إلى دمشق” و”الصعود إلى القدس “؟

لطالما كانت دمشق حاضرة الشام تاريخياً، الشام كل بلاد الشام أو ما يسمى اليوم سوريا، الأردن، لبنان، فلسطين وإسرائيل.

وحين تكون سوريا معافاة فإنها الأجدر في فرض إيقاع المنطقة حرباً كان أم سلاماً وازدهارا.

دمشق اليوم في أسوأ حالٍ من تاريخها الطويل حد الأبدية، بوجود عصابة مهزومة، فتحكم دمشق تحت ظلال احتلالات متعدّدة تجثم على الأرض السورية، إيراني، إسرائيلي، أميركي، تركي، روسي وجملة ميليشيات وتنظيمات مخترقة من كل ما سبق ذكره من دول.

وقد أنهكت السوريين سنون حربٍ فرضها النظام بمعية كل قوى الاحتلال على السوريين، عانوا من ذلك بعد بدء تاريخهم الحر الأول في عام 2011، وتمردهم على الذل طالبين الكرامة فيما شكّل أولى التعبيرات الناضجة والأكثر تماسكاً عن هوية سورية.

اليوم، لا تزال بعض الأصوات تطلب التغيير في أكثر من حراك سوري محليّ تبدو متفرّقة وقليلة الحيلة، ومحط اتهامات بالتبعية الخارجية أو على الأقل هدفاً لاختراق أجندات أجنبية.

هل يعني كل ذلك أن على السوريين إعلان حرب استقلال؟ أم الرهان على محتلٍّ ضد آخر؟ أم التسليم بالامر الواقع؟ والبحث عن مخرج للهروب من البلاد والانضمام الى أزيد من 13 مليون سوري مهجّر من بيته نصفهم لاجئون ومئات الآلاف منهم نالوا جنسيات بلدان جديدة؟

نسبة لا يستهان بها ممن تبقى في البلاد هم من تأخروا في الهروب أو لم تسعفهم الظروف في إيجاد مخرج أو نسبة استطاعت بظروف استثنائية البقاء، ويرى هؤلاء أن التغيير طريق إجباري للبقاء.

 فأي الرهانات يأخذون في معمعة حروب تتصاعد نيرانها وتحاصرهم أطرافها؟

فهل يميلون إلى مقلب طهران أم تل أبيب أم غير ذلك؟

_________________________________

*صحفي سوري عمل في الصحافة الاستقصائية (دمشق) وفي الإعلام المرئي في لندن واسطنبول وعمّان.

زر الذهاب إلى الأعلى