عن معلمي الذي سجنه حافظ الأسد
كان ملاحقاً أمنيّاً ومختفياً عن أنظار المخابرات خلال الاحتجاجات الشعبية التي بدأت في ربيع عام 1979وشاركت محافظة إدلب فيها بقوة
عبد الرزاق دحنون – العربي القديم
مصطفى الحسين معلمي في المرحلة الابتدائيَّة في مادة العلوم الاجتماعيّة في مدرسة النهضة الإسلاميّة عند أطراف التلة الشرقيّة في مدينة إدلب في الشمال الغربي من سورية، وقد تحوّلت هذه المدرسة إلى فرع المخابرات الجويّة الذي فُجّر بسيارة مفخخة يوم الاثنين 30 أبريل/نيسان 2012 ممّا أسفر عن مقتل العقيد “علي يوسف” رئيس فرع المخابرات الجويّة في إدلب يوم ذاك، وتدمير القسم الأكبر من مدرستي الابتدائيّة بفعل التفجير الذي كان أشبه بزلزال هزَّ مدينة إدلب في صباح ذلك اليوم، وهذا الأمر أحزنني كثيراً، أقصد تدمير مدرستي. ومن المفارقات المذهلة في دلالتها أنّ بعضاً من أفرع المخابرات في مدينة إدلب كانت في الأصل مدارس، وحتى مبنى فرع حزب البعث العربي الاشتراكي في حيّ “القصور” كان مدرسة وقد قصفته الطائرات الحربية الروسية بعد تحرير مدينة إدلب في ربيع عام 2015.
معلمي في مدرسة النهضة الإسلاميّة مصطفى الحسين سُجن ثمانيّة عشر عاماً (1980 – 1998) بتهمة الانتماء إلى المكتب السياسي في الحزب الشيوعيّ السوريّ أو بما بات يُعرف بجماعة “رياض الترك” والتهمة حقيقيّة، فقد كان فعلاً من أعضاء المكتب السياسيّ في هذا الحزب المحظور-الدولة السورية تلك الأيام كانت تعترف فقط بالحزب الشيوعيّ السوريّ جماعة الرفيق “خالد بكداش” أحد أحزاب الجبهة الوطنيّة التقدميّة- كان مصطفى الحسين ملاحقاً أمنيّاً ومختفياً عن أنظار المخابرات السوريّة خلال سنوات الاحتجاجات الشعبية التي بدأت في ربيع عام 1979والتي كانت محافظة إدلب قد شاركت فيها بقوة، و جوبهت هذه الاحتجاجات تلك الأيام بعنف شديد وتغوّل صارم من قبل فرق الجيش السوريّ -الفرقة الثالثة بقيادة شفيق فيّاض مثلاً- وأفرع المخابرات السوريّة المتعددة.
قد يسأل سائل: كيف استطاع مصطفى الحسين الاختباء في مدينة صغيرة كلّ تلك الفترة؟ سيداتي سادتي أفرغ خزّان الماء من مائه والمبني في الأصل من حجر على سقيفة حمّام بيته في المساكن الشعبيّة الجنوبيّة التي قصّ شريط افتتاحها عام 1970 الرفيق “عبد الله الأحمر” محافظ إدلب في تلك الأيام. وصار مصطفى الحسين يختبئ في هذا الخزان بعد أن موَّه باب السقيفة فصار الباب والحائط سواء. وكان مصطفى الحسين كلَّما شعر بأن دورية المخابرات اقتربت من مدخل البناية يصعد بلمح البصر ويختبئ في خزان الماء الفارغ قبل أن يفتحوا لهم باب المنزل. واستمر الأمر فترة لا بأس بها. ولكن دوام الحال من المحال كما يُقال، وسبحان مُغيّر الأحوال، فقد كان عنده جار “الحيط ع الحيط” وهذا الجار من الغيورين على مصلحة الوطن ويُحب فعل الخير لوجه الله-لن أذكر اسمه لأنه مات رحمه الله، وقد أوصانا السلف الصالح بذكر محاسن موتانا، فقد كان مسرحيَّاً وشاعراً، نعم، سمعتُ منه قصيدة بعنوان “فاض نهر في الشمال” كان يكتب الشعر والمسرحيات ويُمثل أيضاً على خشبة مسرح الخنساء في مدينة إدلب- وذات مساء خابر دورية أمنية باتصال على الهاتف الأرضي وهو متأكد مئة في المئة بأن جاره مختبئ في بيته الآن، وقد سمع صوته من خلال الجدران. كَبَسَتْ دورية الأمن البيت ووجدت مصطفى الحسين في خزان الماء الفارغ: فكانَ ما كانَ مما لستُ أذكرهُ/فظنّ خيراً ولا تسألْ عن الخبرِ. ورحم الله الشاعر العباسي ابن المعتز على هذا البيت الأنيق.
مصطفى الحسين من بلدة “الفوعة” وأهلها شيعة نزحوا عن ديارهم نتيجة الحرب السورية صيف عام 2018و الفوعة وكفريا بلدتان متجاورتان في الأرض والمذهب، وتقعان إلى الشمال من مدينة إدلب. وكنتُ أظنُّ في صغيري أنّ أهل “الفوعة” شيوعيَّة مش “شيعة” تحت تأثير هذا المُعلّم الشيوعي. وكان مصطفى الحسين صديقاً لوالدي يسهر عندنا سهرات طويلة جداً وخاصة في الشتاء، يخوض مع والدي راشد دحنون -الذي كان ذات يوم من جماعة خالد بكداش- حتى الركب في حديث السياسة الذي لا ينتهي، ويعبق أثناء النقاش بيت الضيوف برائحة التبغ المميزة والتي تبقى في هواء الغرفة ومقتنياتها لأيام، فقد كان مصطفى الحسين مدخناً شرهاً، وأبي لم يُدخن ولو سيجارة واحدة في حياته.
بعد أن خرج مصطفى الحسين من سجنه رأيته في خريف عام 2000 وكان يجلس على الرصيف أمام دكان والدي يشربان الشاي ويتحدثان في السياسة كما كانا في عهدهم السابق، ومصطفى الحسين يُدخن سجائر “حمراء قصيرة” المشهورة في سورية. سألته: كيفك. قال: مليح. كان قد تغيَّر كثيراً والدُّنيا تغيَّرت هي الأخرى. ثمَّ بعد حين سمعت من والدي بأنه مات ودفن في بلدة الفوعة. وقد ترك مصطفى الحسين مخطوطة من ألف صفحة عن الصراع الطبقي في الإسلام. حاولت أن استفسر من ابنه “مالك” -قُتل فيما ما بعد أثناء الحصار الطويل لبلدة الفوعة- عن مصير المخطوطة والذي جمعتني به مصادفة سعيدة في مكتبتي في زقاق المسيحين قرب كنيسة الروم الأرثوذكس يوم الثلاثاء 13/5/2014 وقد باح بخبر مفرح فحواه أن المخطوطة موجودة عند صديق له يعمل على رقنها على جهاز الكمبيوتر وستصدر في كتاب قريباً. والظاهر أن كلمة “قريباً” في سورية لها دلالات غير معناها ولا نُدرك ذلك، وهي أبعد في الزمن مما نأمل ونطمح. والمثل يقول: لا تقول كمّون حتى تصرّ عليه، أي تجعل الكمّون في صرّة. فهل ضاعت المخطوطة كما ضاع صاحبها الرفيق مصطفى الحسين في زحمة الأيام والسنيين؟