فيصل القاسم ومعادلة (الضحية - المنتصر): الحقيقة بين براثن الخوف والتناقضات!
نوار الماغوط – العربي القديم
الدقائق الأولى من لقاء “فيصل القاسم ” تكفي لتقديم شخصيته، إذ يحكي خلالها قصة “فيصل”، الشاب الذي يعمل معاون نجار باطون ويدرس بكلية الآداب في نفس الوقت، ومن حين لآخر يعثر على عمل عتّال مُياوم في ساحة البلدة. بينما حلمه القديم بأن يصبح شخصاً مشهوراً في أي مجال، رغم أنه فاشل في كل شيء وخاصة في اللغة العربية التي يقول متندراً عليها أنه لم يسمع بالمضاف إليه إلا وهو يحضر نفسه لامتحان البي بي سي… وبالتأكيد فهذا ليس تواضعاً يضاف لعصاميته وكفاحه، وخصوصاً أنه تدرج في التعليم النظامي ولم ينقطع عن الدراسة، وكان يزعم أنه من المتفوقين، ولكنه جهل يخجل منه المرء!
كان بعيداً عن اللغة والثقافة والسياسة إذاً… وكلمة الماركسية تدخلك السجن إذا سمعك جارك تلفظها… إنه يبحث عن أي شيء في الحياة بعيداً عن فقره وفقر أسرته التي يعيش أفرادها الكثر جميعهم في غرفة واحدة، وعن موطئ قدم تحت أضواء يبدو أنه يحلم بها، وهو حلم مشروع بالتأكيد.
يبدأ بالحديث بتوثيق يومياته المزرية ومعاناته مع صعوبة الحياة وهو يسبح بحبات المسبحة مطمئناً إلى أنه يتحدث على منصة تابعة لشبكة الجزيرة هي منصة (أثير) فيستطيع أن يقول ما يشاء وأن يأخذ الوقت الذي يشاء، فتزيد هذه السبحة من صدقيَّته لدى الجمهور… فهي ذات مدلول ديني لدى قسم كبير من الناس، وحتى لو لم يكن فيصل القاسم يشارك معتقدات هذا القسم فإنهم يطمئنهم بصرياً: أنا أحمل السبحة التي يذكر فيها اسم الله وان شاء الله سأكون صادقاً معكم.
وكأنه يؤكد لنفسه قبل الآخرين أن ما فعله للوصول لما هو عليه الآن شرعي وبنفس الوقت لا يستحقه، ويجيب عن شكوك البعض التي يتخيلها بذهنه أن ما وصل إليه كان على أنقاض تنازلاته، السابقة وسلوكيات لا يخجل منها ولكن لم يذكرها، كالاتهامات له من زملاء بوجوده في الجامعة في الاتحاد الوطني لطلبة سورية. ولا يجهل جامعي درس في سوريا أن هذا الاتحاد هو بؤرة لكتيبة التقرير، وهو فرع أمن لا علاقة له بالطلبة سوى من ناحية التجسس عليهم والوشابة بهم… ومن هنا يمكن فهم الشكوك التي تثار أيضاً حول المنحة التي حصل عليها فيصل قاسم إلى بريطانيا؛ لأن ملف المنح بالذات هو ملف مقعد لا يمكن اختصاره بالواسطة فقط رغم أنها رأس الحربة فيه، بل تدخل فيها شبهات أمنية وطائفية ورد خدمات قدمها المبعوث للنظام مسبقاً، فكيف إذا كانت البعثة لدولة مثل بريطانيا لا تربط سوريا بها أي علاقات ودية في تلك الفترة!
لا أحد يطرح على فيصل قاسم مثل هذه الأسئلة والشكوك حين يروي تفاصل تنطوي على كم كبير من التناقضات التي يعرفها السوري، ويعرفها جيداً السوري الجامعي على وجه الدقة، فقد أحسن فيصل القاسم اختيار محاوره هذه المرة في الاتجاه الموافق والموالي لا الاتجاه المعاكس، اختار كويتياً يعمل في منصة ممولة قطرياً، لا يعرف شيئاً عن سوريا ولا حتى ما هي السويداء ولا ما هي الحصيدة والرجيدة وما هو واجب الوظيفة المدرسية… بمعنى إذا قال له فيصل قاسم أي معلومة لن يصدقها وحسب بل سيطلق صيحات الدهشة والبهجة!
استطرد فيصل القاسم طويلاً في ابتكار أمثلة مدهشة عن الفقر والحاجة والعوز الذي عاشه، فمن يصدق أن طالباً جامعياً في جامعة دمشق لم تتوفر معه ربع ليرة ثمن فنجان أو كاسة شاي في كافتيريا كلية الآداب ولا مرة واحدة خلال دراسته لأربع سنوات؟ من يصدق أن طالباً مُجِدّاً، وكان الأول على جامعته كما يزعم، ليس لديه أصدقاء يحبونه ويدعونه ولا مرة واحدة لدخول الكافتيريا على حسابهم ليخسروا عليه ربع ليرة ثمن فنجان شاي أو قهوة؟!
ثمة من سيقول لي الآن: تركت كل ما في الحوار الغني الحافل بالكفاح ووقفت عند هذه النقطة؟ هو ربما يقصد أنه لم يدخل ولا مرة بمفرده ولكن بالتأكيد هناك أصدقاء دعوه. ومع أنني لا أستطيع أن أجزم أن هذا هو قصده، فإنني أدعوكم لتأمل كيف أن حالة الإطلاق في تصوير الحالة: “طالب جامعي في أول طلعة شبابه لم يدخل الكافتيريا ولا مرة واحدة خلال كل دراسته كي يشرب فنجان قهوة أو كاسة شاي” هذا الإطلاق كان مقصوداً لاستدرار عطف المشاهد من شدة انكسار وفقر المتحدث. فلو قال لم أدخل الكافتيريا إلا بدعوة من أصدقائي لخف وقع الحالة المثيرة للشفقة على المشاهد، فقد كان فيصل يبحث عن عطف مطلق، وعن شفقة تقطع نياط القلوب، وإلا لما تحدث بهذا الإطلاق وهذه المبالغة التي ينفيها منطق الأشياء.
هذه المبالغة في استدرار العطف والشفقة لها ما يبررها في حديث فيصل القاسم عن فقره، إنه يدرك أن هذا الكلام بالنسبة لشخص أصبح الآن في بر الأمان، هو في ثقافة السوريين وسام كفاح وعصامية يستحق أن يعلق على صدره بإعجاب، بخلاف شعوب أخرى ثقافتها مختلفة، لا تثق بالفقير إذا نجح؛ لأنها تعتبر أنه سيبقى جائعاً مهما جمع من أموال… ولهذا لو لم يعرف السوريون أن فيصل قاسم هو أغنى مذيع عربي على الإطلاق بما يملكه من أموال وعقارات وقصور، لتدفقت عليه التبرعات بعد هذا بث هذا البودكاست لكثرة ما يثير من أسى ويستدر من شفقة!
إن هذه الحالة التي يعيشها فيصل تتحطم باقحام صوت الواقع المؤلم كانت طاغية على البودكسات كله، لكن من يعرف الوسط الإعلامي والثقافي في سوريا والذين رأوه كالعازف الأعمى، الذي يضرب بأصابعه على أوتار النشاز أو الرسام الذي تشوّه ريشته اللوحة عرفوا تماماً أنه كان يضرب على الوتر الحساس الذي جعله مثار إعجاب البسطاء بعد أن أخفى ما أراد إخفاءه أمام محاور غير معني بتقصي أي شي عن حياته، وأظهر ما أراد أن يظهر بعد أن أضاف إليه من المنكهات ما لذ لجمهوره وطاب.
يخرج فيصل قاسم بعد ثلاث ساعات و في نهاية اللقاءـ منهزماً بعد كسر حصالته أمام من يعرفة قبل اتجاهه المعاكس، معتقداً أن عدداً لا نهائياً من النقود ستخفي عدداً لا نهائياً من قصصه، التي لم يخبر المشاهدين عنها، والتي أوصلته ليجلس وبيده السبحة على منصة (أثير) القطرية.
كان يكفي أن يذكر ماله وما عليه لنحترم صدقه، ولنقدر موقفه بعدم انحيازه للنظام بعد الثورة مثل كثير من زملائه… ولكنه لم يفعل، واختبأ داخل شرنقة الضحية المنتصرة التي يحنو عليها المشاهد بالشفقة والتعاطف بقدر ما يطمئن إلى أنها أصبحت بمنأى عن الجوع االفقر بعد أن انتصرت عليه.
هذه هي معادلة هوشة العرب الشعبوية التي لجأ إليها فيصل بمكر ودهاء.. وهي تبدو مفهومة قياساً للصدى الذي حصده هذا البودكسات، من مشاهدات وتعليقات وسجالات. لقد سدد ورمى وأصاب أهدافه…
أخيراً: يبدو أن الانتهازيين والساسة والحزبيين من المشاهير هم وحدهم الذين يمكن أن يرتكبوا الجرائم الكاملة لأنهم حين يتحدثون يستطيعون بكل بساطة تبرير كل أفعالهم وسلوكياتهم بإعطائها سمات الكفاح والإرادة والتصميم وعلو الطموح.