مقامات أمريكية | مخيم غزة الحرة ولغز نعمت شفيق!
د. حسام عتال
في المخيم الذي أسماه الطلبة المتظاهرون في جامعة ولاية متشغان، “مخيم غزة الحرة”، التقينا اليوم مع الطلبة الذين نصبوا الخيم وأقاموا فيها ليل نهار، يُنشدون أغانيهم ويلقون خطبهم على أرض الجامعة العشبي. مطالبهم صارمة، أن تتوقف الجامعة عن أي تعامل مع قوى الاحتلال الإسرائيلي، وأن تغلق أي نشاط مع الجامعات والإدارات والمؤسسات الإسرائيلية، وأن تتوقف الولايات عن تمويل الحرب وأن يتم الانسحاب من الأراضي المحتلة.
في عيون هؤلاء الطلبة حماسة وعنفوان، وفي صدورهم عزة وإباء، يتحدون إدارات الجامعة التي تهدد باعتقالهم وفصلهم من الجامعة. هؤلاء الطلبة الذين عملوا جاهدين لسنوات طويلة، ودفعوا أقساطاً عالية لكي يدخلوا أفضل الجامعات الأميركية، وهم الآن يضعون كل ما حققوه في حياتهم على المحك في سبيل قضية عادلة يؤمنون بها.
وكما توقعت وأنا أدردش مع بعضهم في المطبخ الميداني، الذي نصبوه لتوفير الطعام للجمع الغفير، سألتني إحدى الطالبات، وهي يهودية مناصرة لحقوق الفلسطينين، عن مينوش. وما أدراك ما مينوش – هي نعمت شفيق رئيسة جامعة كولومبيا الشهيرة في نيويورك.
مينوش التي، خلافاً لبقية رؤساء ورئيسات الجامعات الذين أدلوا بشهاداتهم أمام لجنة الكونغرس، التي تُتهم الجامعات بالتغاضي عن الممارسات المعادية السامية، وهي باختصار أي ممارسة تناصر حقوق الفلسطينيين وتطالب بوقف الحرب ضد غزة، خلافاً لهم جميعاً وقفت مينوش ضد مطالب الطلبة والأساتذة، ومشت مع رأي لجنة الكونغرس واعدة بالعقوبة لمن خالف معتقدهم. وفعلاً بعد عودتها للجامعة طلبت من شرطة نيويورك الدخول لحرم جامعة كولومبيا، وإزالة المخيم واعتقال الطلبة.
ولأن كولومبيا جامعة خاصة لا تستطيع الشرطة دخولها دون إذن ودون استشارة مجلس الجامعة المنتخب، اعتبر عملها غير مسبوقِ.
سؤال الطالبة اليهودية لي كان بسيطاً ومنطقياً: كيف لامرأة من عائلة مصرية مسلمة، وهي مهاجرة نفسها، وصلت إلى هذه الدرجة من العلم والثقافة والرفعة، أن تقف ضد حقوق الطلبة المناصرين للفلسطينيين؟
أردت أن أعطيها الجواب الذي أعرفه ولكني لم أجد الوقت مناسباً في وسط هذا المخيم المهيب. لم أستطع التهوين من شأنه فاكتفيت بأن قلت لها، أن هناك دوماً من هم ضعاف النفوس والقلوب من كل الأديان والنحل والاتجاهات، وأشرت إلى الوجه المعاكس الذي هو حولنا، متمثلاً في جمال المجتمع الذي تواجد في هذا المخيم حيث تآخى المسلم مع المسيحي واليهودي واللاديني لأجل نصرة قضية الحق ورفع الظلم.
وخبأت في نفسي الجواب الأصعب، وهو أن تصرف مينوش ليس غريباً وما هو غير معتاد؛ فمينوش، كما نحن جميعاً في بلاد الهجرة، ومهما حاولنا إنكار ذلك، نعمل في مصلحة الحضارة التي اخترنا العيش في كنفها، وتلك هي حال الحضارات منذ القدم، ونحن لسنا استثناء عن القاعدة.
نابليون، مثلاً، لم يكن فرنسياً (وكان يتكلم الفرنسية بلكنة)، وستالين لم يكن روسياً (وكان يتكلم الروسية بلكنه)، ولكن لم يخدم أحداً فرنسا كما فعل نابليون أو روسيا كما فعل ستالين.
وفي أيامنا هذه نرى ريشي سيناك الهندي المهاجر إلى بريطانيا يتزعم حرب المحافظين ويربد مهدداً أن يرسل المهاجرين الجدد لرواندا. ومن قبله ترأس أمريكا باراك أوباما، ابن المهاجر الأفريقي المسلم، فلم يجد فيه الأفارقة الاميركان السود ولا المسلمون الأميركان خيراً (ونحن السوريون أدرى بما فعله أوباما)، حتى أن الزعيم الأسود جيسي جاكسون قال أنه يجب إخصاء هذا الرجل.
والأمر ليس غريباً لأن من أهم صفات الحضارات أنها مسيطرة ومهيمنة، تجند الغادي والقاصي، من مواطنيها ومن غيرهم الذين يجدون فيها ملجأً للعيش والعمل، كلهم يعمل في خدمتها، لتحقيق أهدافها وتعزيز سيادتها.
ألم تجنّد الحضارة العربية الإسلامية الأفراد والشعوب من مختلف الجماعات القاطنة في أراضيها، والمهاجرة إليها، مستفيدة من خبراتهم الثقافية وأعمالهم المعمارية والفنية والأدبية، وقدراتهم العسكرية، وثرواتهم المادية؟
لماذا إذاً نرى أنه من المستغرب أن تنبطح مينوش أمام ممثلي السياسية الأمريكية واعدة بأنها ستكون خادمتهم المطيعة في تحقيق مآربهم؟
نحن المقيمون في الغرب، سواء كنا أصحاب أعمال أو أطباء أو مديرين أو خبراء معلوماتية، في النهاية، “مينوشات” في خدمة حضارة دفعتنا أسباب اقتصادية معيشية، أو أمنية وحقوقية، أن نكون عجلة اخرى في ترسانتها آلتها الضخمة؟
هل سيأتي يوم تستعيد فيه حضارتنا ألقها وسيطرتها ونعم، هيمنتها، كي نكف عن خدمة غيرنا ونعمل ضمن إطار حضارتنا؟ سؤال صعب، وهناك من يشكك بذلك ويدعي أن الركب قد سبقنا. لكن عندما ننظر إلى أمم أخرى كالصين التي كانت منذ أقل من مائة عام متخلفة الحال، بدائية الزراعة، عديمة الصناعة، أمية الشعب، تعاني من نزاعات داخلية، وحروب الأفيون، واحتلال اليابان وبريطانيا؛ ونجدها اليوم اقتربت من مركز الصدارة العالمية في كل المجالات، عندها نشعر بالأمل في قدرات الشعوب إن صممت وعملت وثابرت. شعور يشبه الذي اعتراني به في مخيم غزة الحرة، حيث الشباب والبنات (والذي قيل لنا أنهم من جيل مترف رخو مائع) ينقشون على الحجارة بأقلام من فولاذ كي يسجل التاريخ قصصهم البطولية.