أرشيف المجلة الشهرية

مفهوم العائلة السياسية: الحالة البكداشية في سوريا نموذجاً

د. أحمد عسيلي 

بالرغم من كل التطورات الديمقراطية التي شهدها العالم في دوله المختلفة، منذ بزوغ الفكر السياسي، ومفهوم الدولة، وفكرة الديمقراطية في العصر اليوناني، إلا أن السياسة ما زالت في كثير من بلدان العالم، حتى الديمقراطي الحر منه، ما زالت قائمة في كثير من تفاصيلها على فكرة العائلة، ولن أكون مبتعداً عن الحقيقة أو مبالغاً، إذا  قلت إن هذا الكلام ينطبق خاصة على العالم الحر، أكثر منه على العالم الديكتاتوري، وإن كان شكل هذا الانتقال، يختلف من نظام لآخر بالطبع، لكن فكرة توارث السلطات، وتشكل عائلات سياسية، تحكم في فترات مختلفة من تاريخ بلد معين، هي فكرة متجذرة في السياسة،  وأسلوب الحكم على اختلاف أشكاله.

سأحاول في الجزء الأول من  هذه المادة تحديد فكرة العائلة السياسية بشكل عام، مفهومها وطبيعتها، ثم في الجزء الثاني تطبيق هذا التعريف على عائلة بكداش، التي لم تترك منصب الأمانة العامة للحزب الشيوعي، منذ استلام الأب لهذا المقعد في عام ١٩٣٣، وحتى الآن (أي قرابة القرن)،  بل حتى أصبح اسم العائلة يطلق على أحد أجنحة هذا الحزب (البكداشيين).

مفهوم العائلة السياسية

يعتبر هذا المفهوم إشكالياً نوعاً ما، وتعود إشكاليته تلك إلى المعاني الفضفاضة التي يمكن أن يحملها، فباسكال بيرونو عالم السياسة والاجتماع الفرنسي، ذهب بهذا المصطلح إلى اتجاه أوسع مدى من معناه، فحوّل فكرة العائلة من تلك الرابطة المعتمدة على النسب والدم، إلى فكرة الإيديولوجيا، ودرس  تشكّل العائلة القائمة على أساس الرابطة الإيديولوجية، ويرى أن انبثاق هذا المفهوم يعود إلى بداية تشكل فكرة اليمين واليسار، وبالتالي أصبح هناك عائلة  تعرّف نفسها بأنها يمينية أو يسارية، ثم توسع أكثر في دراسة الأحزاب والمنظمات الأكثر تحديداً، وقيام علاقات عائلية بين أفرادها، بينما أخذت  آن موكسل، وهي أيضاً عالمة اجتماع، وسياسية فرنسية معاصرة، في دراسة انتقال  التوجه السياسي بين الأجيال، ودور السياسة في العائلة، وتشكل عائلات سياسية، لها توجه إيديولوجي واحد،  ومتابعة العمل السياسي في السلالة الواحدة، وبالتالي يصبح مفهوم العائلة السياسية، أشبه بدراسة دور التوجه السياسي في العلاقات العائلية. 

ضربت هذين المثلين، لأوضح مدى إمكانية توسع وتشعب هذا المفهوم، لكن دراستنا هنا  ستكون قائمة على أساس العائلة السياسية بمفهوم political dynasties، أي توارث العائلة ذاتها للمنصب السياسي نفسه عبر الأجيال، والعوامل التي تساعد على ذلك، فقد ذهب بعض المفكرين، أن هذا الأمر، عائد في أغلبه في الدول الديمقراطية،  أن السلوك السياسي، غالباً ما يتوارث مثل الدين والقيم إلى حد ما، فيقوم الجيل الشاب، بسلوك الطريق نفسها، التي تربى عليها من قبل عائلته، وأشارت آن موكسل، في كتابها (التجارب السياسية عند الشباب)، والصادر عن مطبوعات العلوم السياسية في باريس ٢٠٠١، إلى دراسة اجتماعية أجريت عام ١٩٨٩، دلت أن ٦٤% من الشباب، يتشاركون  الهوى نفسه، والسلوك السياسي لعائلاتهم، وهذا ما سيؤدي إلى تشكيل عائلات، تتوارث في انتخاب الأشخاص التي تحمل الأسماء نفسها عبر الأجيال، وذكر أحد الباحثين مثلاً ٧٠٠ عائلة أمريكية تتوارث المناصب منذ تأسيس الولايات المتحدة، بينما  تحدثت دورية هندية عن أهم ٣٤ عائلة سياسية هندية أيضاً، تتوارث المناصب عبر الأجيال بالرغم من أن الهند على مستوى الإدارة السياسية تعتبر دولة ديمقراطية. 

في الحالة العربية

في الحالة العربية، ربما يعتبر هذا بديهياً؛ لأن أصل الحكم عند العرب قائم على أساس العصبية، كما أشار ابن خلدون، والعصبية القبلية والعائلية هي من أساس الاجتماع في المنطقة، مهما حاولنا الالتفات إلى ذلك، ربما أخذت فكرة القبيلة عبر العصور أشكالاً أخرى، لكن أساسها العصبي مازال واحداً، ربما يكون أشهر أشكال الحكم العائلي في بلداننا هي لبنان، حيث تتوارث العائلات نفس المناصب الحزبية منذ عشرات السنين، رغم محاولة بعض تلك العائلات إضفاء صبغة حزبية عصرية على هذا الحكم، لكنه بقي طلاءً باهتاً، لا يخفي الأساس العائلي الطائفي على ذلك الحكم، ولكي تحكم أي عائلة، هي بحاجة لعصبية ما، أستطيع الذهاب أنها في حالتنا العربية، ستكون إمّا قبلية أو طائفية، وبشكل أقل مادية، تقوم على أساس تمجيد شكل أو عائلة غنية، وغالباً ما تذهب هذه العصبية، وتتشتت فور ضياع، أو خسارة الثروة لدى العائلة، وجميع مناطقنا شهدت هكذا نوع من العصبيات المؤقتة.

ربما تأخذ بعض العصبيات الشكل الحزبي أو القومي في فترة ما، بل وتذهب خطابات تلك العصبيات بعيداً في فكرها القومي أو الحزبي، لكنها سرعان ما تتكسر عند أول امتحان،  هنا سأذكر مثال الحزب التقدمي الاشتراكي في الحالة اللبنانية، والذي احتل لفترات طويلة مكانة هامة في الفكر التقدمي حتى على المستوى العالمي، لكن الأساس العصبوي يبقى في الإطار الدرزي، والحالة الكردية في الحزب الديمقراطي والوطني،   التي تخفي تحتها انتماءً قبلياً، وصلت إلى حالة الحرب الأهلية القبلية أحياناً. 

الحالة البكداشية

العائلة مكان الدراسة هنا، هي عائلة خالد بكداش، التي تشكلت من زواج هذا الأخير من ابنة خالته وصال فرحة، وأنجب منها ولداً، اسمه عمار بكداش استلم زعامة الحزب الشيوعي (جناح بكداش)، بعد وفاتها، وابنة اسمها سلام، وهي طبيبة عيون، لم يُعرف لها دور سياسي معين، سوى زواجها من سياسي سوري اسمه قدري جميل، انفصلت عنه لاحقاً، وانشق هذا الأخير عن العائلة، وشكل تياره الخاص. 

شكلت عائلة بكداش إذاً، واحدة من العائلات التي دخلت التاريخ السوري، باعتبار أفرادها تسلموا عبر جيلين الأمانة العامة للحزب الشيوعي السوري، منذ لحظة وصول خالد بكداش، وهو بعمر ال٢١  سنة لهذا المنصب عام ١٩٣٣، وانتقال هذا الدور بسلاسة نوعاً ما إلى زوجته عام ١٩٩٥، (هناك شائعات دارت على مستوى محدود إلى محاولة وليد معماري لفترة ما لاستلام المنصب، لكنها تبقى شائعات وحكاوي)، ومن ثم انتقاله إلى الابن عمار بكداش بعد وفاة الأم عام ٢٠١٢، لكنه هذه المرة استلم بقايا حزب، بعد خروج الصهر عن عباءة العائلة، وتشكيله لتيار قاسيون، ولاحقاً حزب الإرادة الشعبية، وانشقاقات كثيرة شتتت الحزب، ربما يعرف أكثر السوريين قصتها، من الترك، والمكتب السياسي، وجناح يوسف فيصل، وغير ذلك من التفاصيل التي لن ندخل فيها الآن. 

لكن السؤال: هل عائلة بكداش عائلة سياسية، على نمط جنبلاط في لبنان، أو البرزاني في كردستان العراق مثلاً،  أو نمط العائلات السياسية في الدول الديمقراطية، كعائلة بوش في أمريكا، ولوبان في فرنسا؟

للإجابة عن هذا السؤال، علينا أن نتذكر أن العائلات السياسية في الدول الديمقراطية، هي عائلات استحوذت على الصوت الانتخابي، ولها أتباع مخلصون يصوتون لها دوماً، بالإضافة إلى بعض الناخبين ذوي المزاج المتغير، والتي تتغير ميولهم حسب ظروف البلد، وهي حالة غير موجودة عندنا في سوريا للأسف؛ لأنه لا ديمقراطية مدنية منذ عشرات السنين، إذاً هنا ننفي الحالة الأولى بكل بساطة لعدم توفر ظروفها أصلاً.

أمّا في الدول الدكتاتورية، وشبه الديمقراطية، فالعائلة السياسية تقوم إمّا على أساس عصبي قبلي أو ديني، أو حتى مناطقي كعائلة الحوراني في حماة، والكيخيا في حلب، ربما تتشكل  في بعض الظروف، عائلات سياسية حسب تعريف باسكال بيرونو، بمعنى أن علاقات أشبه بالعائلة  تتشكل على أساس إيديولوجي صلب  في أكثر الأحيان، لكن غالباً ما تكون دون زعامة تاريخية معينة، وتنتهي  بسرعة، وهنا يخطر ببالي شباب حزب العمل الشيوعي مثلاً، أو بعض التجمعات الشعرية والسينمائية والإلحادية التي شهدها المجتمع السوري، وشكلت روابط قوية بين أفرادها، تنتهي بسرعة لاحقاً، وربما تتحول إلى عداوة في مرحلة أخرى، (وهو شكل ليس مجال دراستنا، كما نوهت في المقدمة، لكن أحببت الإشارة السريعة إليها  كي تتوضح الصورة بشكل أفضل). 

هناك بعض التجمعات طبعاً التي تقوم على أساس فكري، قائمة على كاريزما الزعيم التاريخي المؤسس، أو المساهم الأكبر في انتشار فكرة ما، لكن غالباً هنا المنصب لا يورث؛ لأنه قائم على كاريزما الزعيم فقط، وليست كاريزما عصبية، وأقرب مثال لهذه الحالة أنطون سعادة، الذي شكل بكاريزميته زعامة تاريخية للحزب القومي السوري، لكن لم تنتقل إلى أحد بناته، وجمال عبد الناصر، الذي لا ينكر أحد كاريزميته الطاغية،  مدى تأثيره في تغذية الفكر القومي العربي، لكن هذه الزعامة لم تنتقل أيضاً إلى أي أحد من أبنائه؛ لأنها كاريزما شخصية قائمة على أساس فكري، وفي الحالة السورية  لدينا مثال، وإن كان أقل في مستوى قوة الشخصية، وهو أحمد الأسعد رئيس ما كان يسمى الحزب الوحدوي الاشتراكي الديمقراطي، والذي حاول ابنه فراس استغلال كاريزما والده (على تواضعها)، لكنه فشل لاحقاً، ولم يستطع وراثة منصب والده. 

أسطرة بلا كاريزما

بالعودة إلى عائلة بكداش، نرى أن خالد بكداش حاول رسم شخصية أسطورية لذاته، مع غض نظر حافظ الأسد عن ذلك، وشكل رابطة شبيبة خالد بكداش، ومراكز ثقافية باسمه، بل إن صورته في جريدته صوت الشعب لم تكن صورة شخصية، وإنما رسم وبخطوط خارجية، وهو أسلوب تتبعه بعض الشخصيات لمنح نفسها  بُعداً رمزياً، أي  أنهم ليسوا بشراً بصور ومعالم واضحة، وإنما خطوط ورموز فوق بشرية، لكن  الأب خالد نفسه لم يستطع فرض كاريزما خاصة به، فمعظم الشخصيات التاريخية، تتشتت أحزابهم بشكل كبير بعد وفاتهم، مثل الاتحاد الاشتراكي بعد عبد الناصر، وانقسامه إلى عدد لا يحصى من الأحزاب الناصرية،  أيضا تشتت الحزب السوري القومي بعد رحيل المؤسس، وهناك قائمة كبيرة من الأحزاب في العالم أجمع التي شهدت هذا المصير، لكن زعامة بكداش الأب نفسها كانت محل خلاف في حياته، وقبل سنوات من رحيله، فخروج المكتب السياسي، وتشكيله لزعامات شيوعية تاريخية جديدة،  كانت في عصر الأب نفسه، وحدوث العديد من الانشقاقات، كانت في عهد الأب نفسه، وربما يشكل فشل عمار في الدخول إلى مجلس الشعب في الدورة الأخيرة، رغم أن الأسماء غالباً ما تكون محددة سلفاً، هي إشارة من النظام الحاكم في سوريا إلى رغبته في طي هذه الصفحة، وجاء طيها بشكل سهل وسلس جداً؛ لأنها بالأصل صفحة ممزقة، وملصقة بشكل اعتباطي في دفتر السياسة السورية. 

_________________________________

من مقالات العدد الرابع عشر من (العربي القديم) الخاص بالأسر السياسية في التاريخ السوري – آب / أغسطس 2024

زر الذهاب إلى الأعلى