13 سنة ثورة | نبلاء فرنسيون يشهدون المأساة السورية في ثلاثة كتب
بدرالدين عرودكي
ثلاثة كتب اتخذت على غير اتفاق مسبق موضوعاً واحداً: الحرب التي يشنها النظام السوري على شعبه، ومكاناً واحداً: مدينة حمص، أيقونة مدن الثورة السورية.
– أولهما لصحفي أمريكي / فرنسي، جوناثان ليتيل، دفاتر حمص
– ثانيهما لصحفية فرنسية، إديث بوفييه، غرفة مع إطلالة على الحرب، صدرا على غير ميعاد في شهر أيار/مايو 2012
– ثالثهما لصحفية فرنسية، كارولين بوارون: اغتيال عاجل، كتبته بالتعاون مع الصحفييْن سيد أحمد حموش وباتريك فاليليان، عن زوجها المصور والصحفي الفرنسي جيل جاكييه الذي قتل في حمص يوم 11 كانون الثاني 2012، وصدر في أيار 2013، أي بعد سنة من الكتابيْن الأولييْن.
وفي الوقت الذي وصل مؤلفا الكتابين الأوليين مع زملائهما من الصحفيين الآخرين إلى حمص سرّاً، بمساعدة الثوار الذين أشرفوا على نقلهم وإقامتهم ومعاونتهم على القيام بما أتوا من أجله، وسهروا على راحتهم وبذلوا المستحيل بما في ذلك التضحية بأنفسهم، كي يغادروا سورية سالمين، كان حضور جيل جاكيه بصحبة زوجته وصحفيين آخرين قد تمَّ بمعرفة حكومة النظام السوري وموافقتها المسبقة.
** ** **
تهدي إديث بوفييه كتابها إلى عددٍ مِمَّن تحب. ومن بينهم: “إلى السوريين الذين حملوني على ظهورهم، أو بين أذرعهم، أو الذين بأياديهم الموضوعة على جبيني، أعادوا لي القوة كي أؤمن به وأن أناضل”.
الإيمان بعملها كصحفية بالطبع
“لم يضع أحد البندقية على صدغي كي يرغمني على الذهاب إلى سورية. ولم يمنحني أحدٌ حقائب ملأى بالأوراق النقدية. إنه خيارٌ واع، نضج خلال زمن طويل. لا شيء من الجنون فيه، لا شيء من الغرابة”.
لم تكن وحدها في هذا الوعي الناضج بما تفعل. وبما أنها لم تكن وحدها في سورية، تنتقل من ضمير المفرد إلى ضمير الجمع: “نعرف أين نضع أقدامنا. لكننا نفعل كما لو أنه لم يكن ثمة شيء، كما لو أننا لا نسمع القنابل التي كانت تدوّي. نمزح، نلعب، كي نتجنب القدر. كان لابد من الذهاب إلى هناك. لأن الصراع قليل التغطية في الصحافة. لأنه يجب الحديث عما يجري فيها. لأن تلك هي مهنتنا.
“طبيعي أننا نخاف، وأننا على وعي بالمخاطر، لكن الرغبة في الفهم، في رؤية الحرب عن كثب، في أشدِّ مظاهرها رعباً، كانت أقوى.”
لم تكن وحدها إذن. حضرت مع المصور وليام دانييل الفرنسي، والصحافيين البريطاني بول كورنوا والإسباني خافييه إسبينوزا. كانوا على موعد مع الصحفي الفرنسي ريمي أوشليك في بيروت قبل أن ينطلق هذا الأخير قبلهم بيوم إلى حمص، وإلى بابا عمرو تحديداً، ثم يلحقوا به في اليوم التالي إلى المكان نفسه. كانوا جميعاً على موعد مع شبابٍ من الجيش الحر يتكفلون بنقلهم ذهاباً وإياباً ومرافقتهم خلال إقامتهم. أمرٌ لابد منه. فالنظام يحول بكل الوسائل دون حضور رجال الصحافة والإعلام إلى سورية إلا بشروطه وتحت رقابته. وليس الأمر كذلك مع الجيش الحر.
ثلاثة أيام مضت على وصولهم كانوا خلالها يزورون المدينة والحيّ على إيقاع القصف المتواصل، وتحت الحصار الذي فرضه جيش النظام على حيِّ بابا عمرو. كان عليهم كي يصلوا إل قلب الحيّ أن يعبروا نفقاً يمتد على ثلاث كيلومترات عرضه متر واحد وارتفاعه 60 ر1 متر. لكن الأمر لم يجر كما كان الجميع يتوقعون. ثلاثة أيام قبل أن يحدث ما كانوا يحسبون حسابه ويتلافون التفكير فيه. اليوم 22 شباط/فبراير. الساعة الثامنة صباحاً. انفجارٌ عاصف يمسّ المركز الإعلامي حيث كانوا جميعاً فينقلب المكان والفضاء غباراً كثيفاً كان يكشف مع تلاشيه عن هول الكارثة: جسدان لامرأة ورجل: ماري كولفان الصحفية الأمريكية، وريمي اوشليك، الصحفي الفرنسي. تراهما إديث وهي محمولة على ذراعي صديقها وليام دانييل لإسعافها بعد اكتشافهما أن الدم كان يفور من ساقها المنتفخة بغزارة. ثوانٍ من التردد قبل خروجها حالت دون سقوطها إلى جانبهما، مثلهما.
في المستشفى الميداني الذي نقلت إليه عرفت الأمر: كسرٌ في ساقها بفعل الانفجار تستحيل معالجته محلياً. لا بد من نقلها إلى بيروت وبأسرع وقت ممكن. هكذا تكتب القصة من جديد. لا قصة الشعب الذي يستميت في الدفاع عن حريته فحسب، بل قصة هؤلاء الشباب الذي يستميتون من أجل تأمين عودة الصحفيين إلى لبنان قبل الانقضاض المنتظر على حي بابا عمرو حيث كانوا.
وهي تطل يوماً بعد يوم، وساعة بعد ساعة، خلال عشرة أيام، من نافذة الغرفة التي تنتظر فيها بحيِّ بابا عمرو المُحاصر على الحرب الدائرة ليل نهار، كانت تراقب وتنتظر وتخاف وتأمل مستعيدة أياماً أخرى في بلاد أخرى قريبة، تعيش مآس شبيهة، راوية في الوقت نفسه محاولات الشباب الساهر عليها كي يخرجوها ورفاقها آمنين وبأسرع وقت ممكن، بينما يقومون بتأمين نقل التموين والأدوية والجرحى من الحي وإليه، تزيد قناعتها رسوخاً بجدارة ما تعمله، لا بل بضرورته المطلقة. تلك هي مهنتها وهكذا تكون.
سيُضَحّي عددٌ من الشباب السوري في الجيش الحرّ بحياته كي ينقذها ورفاقها، وستصل إلى برّ الأمان وستعود إلى باريس لتحتفل وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية بها وحدها دون الاهتمام بالمكان الذي أصيبت فيه، لكنها في كل مرة كانت ترفض الحديث عن نفسها لتقول بصراحة: إنما جئت هنا لأتحدث عن سورية وعن نضال شعبها من أجل الحرية..لتجعل من الثوار الشباب ونضالهم فحوى كلِّ حديث أو حوار.
كأنما جاءت إديث بوفييه، من حيث لا تدري، لكي تبرئ، من دون أن تقصد أيضاً، الثوار من دم جيل جاكييه. فقبل مجيئها ورفاقها بنيّف وشهر، أي في مطلع شهر كانون الثاني/يناير2012، وصل جيل جاكيه، الصحفي الفرنسي، بصحبة زوجته كارولين بوارون، الصحفية أيضاً، وعدد من الصحفيين الآخرين، بصورة رسمية إلى دمشق. أي بموافقة السلطات الرسمية في النظام السوري. أي الأمن السياسي. كان جيل جاكيه يتطلع إلى لقاء بشار الأسد، ورامي مخلوف، بل وكذلك مناف طلاس، مثلما كان يروم زيارة المدينة التي انطلقت منها شرارة الثورة، درعا. ظنَّ، وقد زينت له مَنْ سهّلت له مهمته، أن بوسعه تحقيق ذلك. لكنه يُفاجأ وقد وصل دمشق، أن عليه الذهاب إلى حمص، وأنه لا خيار له في القبول أو الرفض. يُقال له: “إما حمص أو الرحيل!”. يُرسَلُ إلى قدره. يُرسل لكي يُحال بينه وبين أن يكتب شيئاً عما كان قد رآه أو سيراه، هو الصحفي المتمرس في مناطق الأزمات والحروب والمآسي. سيلقى حتفه جراء قصف شبه منتظر، شبه مُخطط له في الزمان وفي المكان. سيُتهم الثوار بقتله، على الرغم من أنه قتل في منطقة محمية من جيش النظام. لكن زوجته كانت هنا، شاهدة على مقتله وعلى كيفية مقتله. لكن زملاءه كانوا هنا أيضاً شهوداً على مقتله وعلى كيفية مقتله. ومن حيث لا يحتسب من قتلوه تحوّل الكتاب إلى مهمة تحقيق يقوم بها صحفيون حرفيون يستوون مع المحققين القضائيين إن لم يكونوا أشد بلاء في هذا المجال منهم. ككتاب إديث بوفييه، استحال الموضوع إلى تسليط الأضواء كلها على النظام، وعلى ممارساته، وعلى تكتيكاته، وعلى جرائمه خصوصاً.
هكذا يقودنا الكتاب إلى الإجابة عن تساؤلات كانت تبدو للوهلة الأولى بلا جواب أو تكاد. كيف حدث أن قبل النظام استقبال صحفيين غربيين ينتمون إلى دول غير صديقة فجأة؟ كيف زيّنَ لهم قبل وصولهم أن بوسعهم أن يتحركوا كيف يشاؤون كما يشاؤون ليكتشفوا إبان وصولهم أن ثمة برنامج مُعَدٌّ لهم طوال فترة إقامتهم؟
نكتشف شيئاً فشيئاً عناصر الإجابة كما لو كانت عناصر لغز تتكشف أمام أعيننا. كان المراقبون الذين أرسلتهم جامعة الدول العربية بقيادة الفريق الدابي هناك. وكان النظام يريد أن يبرهن على ضلال ما يقال عنه حول رفضه تواجد الصحافة الحرة في سورية. ها هو يبرهن لمن يريد أن يرى أن صحفيين أوربيين، بل ومن دول معادية كفرنسا، يتواجدون في سورية ويعملون بمعرفة وموافقة حكومة النظام. بعض بنود البرنامج المعدِّ سلفاً لجيل جاكيه ورفاقه تكشف الأمر. إذ فجأة يجد نفسه ورفاقه بلا سبب أو مبرر في فندق شيراتون حيث يتواجد المراقبون العرب، بل كما لو أن الأمر محض صدفة، في اللحظة التي يخرج فيها الفريق الدابي من غرفته مغادراً الفندق بطريقة لا يستطيع معها تلافي رؤية الصحافيين الغربيين أو تجاهل وجودهم. في تلك اللحظة، أدى جيل جاكيه ورفاقه من دون أن يدروا ما كان منتظراً من وجودهم في دمشق وعليهم الآن أن يتوجهوا إلى حمص مثلما قُرِّرَ لهم، شاؤوا أم أبوا، ولم يكن جيل جاكيه يشاء ذلك.
سيصير الكتاب تحقيقاً بوليسياً حول مقتل جيل جاكيه يوم 11 كانون الثاني 2012 لدى وصوله إلى حمص سيستمر سنة كاملة قبل أن يُنشر. وسيستخدم كل الوسائل المتاحة أمام الصحفيين الغربيين وخبرتهم في مثل هذا المجال. وسيكشف التحقيق عن عناصر لا تمت للتحقيق بصلة بقدر ماتمتُّ إلى لبّ الموضوع: زعْم النظام قتاله جماعات إرهابية مسلحة تعيث في البلاد فساداً. يكتشف أن هذه الجماعات المسلحة التي يحاربها النظام لا تهاجم إلا المظاهرات المناهضة للنظام في حين تعفُّ عن مهاجمة المسيرات الموالية! يكتشف أنه يقابل على الدوام في السجون التي يزورها سجناء جاهزين من كل فئات الجماعات الإرهابية، وأن تلفزيون الدنيا يتواجد على الدوام قبيل الحدث (جرائم الجماعات المسلحة) بدقائق معدودات، مثله في ذلك مثل رجال الإطفاء! وأن كل الوسائل تبرر الغاية، بما في ذلك مثلاً الحيلولة بين مراقبي الجامعة العربية وبين القيام بوظيفتهم من خلال دسِّ العقاقير في طعامهم الصباحي كي يصابوا بإسهال يحول دونهم والخروج من غرفهم ما داموا لم يستسلموا في العشية لإغراءات الفتيات اللواتي يمتهنَّ الصحافة نهاراً ومحاولة السهر على راحة المراقبين ليلاً!
كان جيل جاكيه يعرف أنه سيكون حبيس شبكات الأمن التي بناها النظام السوري وهي أشدّ قوة وأكثر صلابة من تلك التي بناها القذافي أو بن علي، وأنه لن يفلت منها. ولا بدّ أنه قد استسلم بقدر من السذاجة إلى شعوره بأن مهنته وجنسيته تحميه من اعتداء مباشر على شخصه. لكنه كان بلا أي شك على وعي كامل بمخاطر مهنة اختارها ولم يكن يفكر حتى في اتخاذ الحيطة من خطر كان يتجسّد أمام عينيه حين قيل له: “إما حمص أو الرحيل!”. فكر بالأحرى بما يمكن أن يثري المهمة التي جاء من أجلها والتي كانت تصطدم بكل العثرات التي لم يكن ينتظرها..ولاسيما تلك التي لم يكن قادراً على التغلب عليها، تلك التي أودت بحياته بكل صفاقة..
“ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة”.
يستوون في ذلك جميعاً، نساءً ورجالاً، حين تتماهى أنفسهم في مهنتهم، في ما يعتبرونه رسالتهم. صارت خصاصتهم أن يؤدوا الأمانة كما رأوها، كما شهدوها، كما عاينوها، كما تألموها، كما بكوها، كما يليق بهم أن يحملوها وأن يؤثرونها على أنفسهم.
تلك، كذلك، حال الروائي والصحفي الأمريكي الفرنسي جوناثان ليتيل. يصل هو الآخر بلا إذن من السلطات الأمنية السورية (ولكن بمعونة الثوار الذين استقبلوا من قبل صديقه مانون لوازو الذي حقق فيلماً وثائقياً عن حمص خلال شهري تشرين الأول وتشرين الثاني 2011) إلى حمص يقيم فيها بين 16 كانون الثاني/يناير و 2 شباط/فبراير 2012 ويعيش يوماً بعد يوم حياة شعب ثائر في مدينة ثائرة، بكل ما تنطوي عليه من بطولات وما تواجهه من فظائع ترتكبها قوات النظام وشبيحته.
لن يكتب جوناثان رواية ولم يأت إلى حمص كي يفعل. كانت حصيلة ما نشره خمسة تحقيقات مثيرة بصدقها وبواقعيتها في صحيفة اللوموند التي رعت مهمته. لكنه سينشر كتابه الأساس، دفاتر حمص، بعد ثلاثة أشهر من عودته. كتابٌ كتبه لحظة بعد لحظة، ويوماً بعد يوم. يُسجِّل اللحظات اللاهثة على إيقاع القصف وفي زحمة الحوادث وتحت وطأة أشباح الموت. لن يكون جوناثان روائياً في طريقة كتابته لكنه سيكون ماهراً في تصوير الوجوه والشخصيات بخطوط سريعة لا ترسم ملامحها الخارجية فحسب بل تسبر في الوقت نفسه خصوصيتها الخفية. سيضع أقنعة على أسماء من التقاهم، كي يحميهم. لكنه سيسَمّي في ما وراء ذلك الأشياء بأسمائها بلا محاباة أو مراعاة أو خوف.
لأنه شاهد. شاهدٌ رأى بأمِّ عينيه كيف يتم تلوين بعض البيوت حماية لها من قصف الطائرات أو الحوامات أو مدافع الهاون، بيوت يسكنها الموالون أو العملاء أو الشبيحة.. شاهدٌ لا يصادق على ما يسمعه إلا بعد أن يعاينه بنفسه: كيف يقتل شابٌّ أثناء وجوده ضمن مظاهرة سلمية على أيدي قناصة الجيش النظامي وكيف نقل التلفزيون الرسمي مقتله على أيدي “العصابات المسلحة”! شاهدٌ على قطع الرؤوس واغتصاب الفتيات وقتل الناس من طوائف مختلفة في محاولة من أجل تسعير الحرب الطائفية. شاهدٌ على قتل الأطباء والممرضين وعلى تدمير كل مستوصف أو مستشفى يمكن أن يستقبل جريحاً أو قتيلاً. شاهدٌ على نظام يستدرج الأطفال كي يعلم منهم كيف يعيش آباؤهم وعن ماذا يتحدثون ومن يستقبلون وأي قنوات تلفزيونية يشاهدون! شاهدٌ على إخلاء البيوت بالتهديد وبالقتل عندما لا ينفع التهديد..شاهدٌ أيضاً وأيضاً على صحفي بلجيكي جاء برعاية النظام وتحت رقابته وهو يعيد إنتاج رواية النظام عن “الجماعات المسلحة” و”الإرهابيين” الذين “يروعون الآمنين”!
ولأنه يستمع فيصغي، أمكنه أن يفهم ما لم يفهمه كثيرون. في مدينة تكاد تجتمع فيها طوائف سورية كلها يتظاهر فيها الناس جميعاً، ويشكلون حلقات كحلقات الذكر بلا أي مضمون دينيّ، فيها المسلمون والمسيحيون، يغنون ويرقصون ويهتفون، نساءً ورجالاً، في انسجام وحيوية، “…محتدين، متوترين، مستوى من طاقة فرح ويأس لم يسبق لي أن رأيت مثله من قبل أبداً” كما يقول. يشهد جوناثان في مدينة/بلد على واقع اعتقال شاب فيها وتعذيبه لأنه رأى نفسه في حلم يقود فيه موكب الرئيس.
عندما كتب زكريا تامر عن حلم مماثل قبل أكثر من ثلاثين سنة حسبه الناس خيالاً!
سيقابل عبد الرزاق طلاس. وسيشهد الخصومات العابرة لكن الكاشفة بين الثوار أنفسهم مسجلاً تعليقاً شديد البلاغة على إحداها: “يجب أن تفهمهم يا سيدي. أربعون عاماً من الخوف”. ليعلق بدوره: “قبل أن يقتلوا بشار الحقيقي لابد من أن يقتلوا البشار الموجود في رؤوسهم”! سيقابل ضباطاً علويين انشقوا عن الجيش، خمسة منهم يتواجدون في الجيش الحر بحمص، وسيسمع أحدهم يقول له: “لم أسمع أبداً: نريد أن نقتل العلويين. فقط أشخاصاً محددين قاموا بارتكاب الجرائم”.
يرى جوناثان ليتيل ويعاين يوماً بعد يوم كيف يحيطه الثوار بعنايتهم، هم الذين اتهمهم جورج مالبرونو بقتلهم جيل جاكيه اعتماداً على قول مصدره في حمص. يحاول أن يحصل من مالبرونو على اسم هذا المصدر كي يناقشه مباشرة حول المسؤول عن مقتل جاكيه، مادام موجوداً في حمص، بخلاف مالبرونو، لكن هذا الأخير يرفض الكشف عنه لأسباب لا يعلمها إلا هو.
يستيقظ يوم 26 كانون الثاني على القصف. طفل في الثانية عشرة من عمره يقتل. “إنهم يطلقون النار على الأطفال. من أجل لاشيء. لاشيء على الإطلاق. إلا من أجل معاقبة هذا الشعب الجموح، اللعين. الذي يرفض أن يحني رأسه بصمت لسيده ومعلمه. يعاقبونه على نار هادئة”. سيرى جثامين الأطفال وقد ثقبتها ضروب الرصاص، وقوافل الجرحى لا يجدون من يسعفهم إلا ممرض وحيد بعد مقتل الأطباء أو اعتقالهم أو هرب من بقي منهم خوفاً من شبيحة النظام وجنوده.
** ** **
ثلاثة كتب كالمأساة الإغريقية في وحدة شخوصها وزمانها ومكانها. لكنها هنا المأساة السورية، كتابها هم أبطالها، هؤلاء “الشباب المبتسمون، الذين يفيضون حيوية وشجاعة، الذين لا يمثل لهم الموت أو الجراح الفظيعة أو الدمار أو الانحطاط أو التعذيب شيئاً بالمقارنة مع السعادة المذهلة التي يشعرون بها جراء رفض ما أثقل كواهل آبائهم طوال أربعين عاماً”. ومكانها حمص أيقونة مدن الثورة، وزمانها هو زمان هذه الثورة الفريدة.
أما شهودها فهم بعض نبلاء هذه المهنة، مهنة الكتابة في الميدان، مهنة الصحافة.