أرشيف المجلة الشهرية

أورينت منَ الداخل والخارج...

محمد منصور – العربي القديم

وُجِدت وسائلُ الإعلام كي تنقل الأخبار وآراء الناس، وتتموّل من متابعاتهم وإعلاناتهم، وفي عصور الكذب والدجل والأنظمة التي تُخفي الحقائق، وتعتم على الوقائع، وتمنع الحديث عمّا يجري؛ لأن ما يجري أشبهُ بالفضيحة، صارت وسائل الإعلام عواملَ تغيير، ووسائل دعم لحركات الاحتجاج وأحيانا مُفجِّرة ثوّرات. وقد وُلِدتْ أورينت أولاً وقبل كل شيء، كمشروع تجاري لرجل أعمال يبحث عنِ الربح، ويأمل بأن يكون له حصّةٌ في سوق الإعلان، كما قال مالكها في وثائقي (أورينت حكاية 10 سنوات)، لكنْ في بلد مثل سوريا، ومع نظام يغرق في الفساد والضغائن والتسلّط كنظام الأسد، لا بدّ لكل من يدخل سوق الإعلام أن يكون عدواً. فإن لم تدخل هذا السوق كتابع أو أجير، ويكون لديك استعدادٌ دائمٌ للكذب والتضليل، فأنت بلا شكّ مشروعٌ انتحاريٌّ ثمنُك رصاصةٌ، أو قرارٌ من سطرين بإغلاق مكاتبك، أو من ثلاثة أسطر بمنع التعامل معك، أو الإعلان لديك.
هذه هي المُعادلةُ التي صاغت باختصار ولادة تلفزيون أورينت، ثم منعه، ثم تحوله إلى أداة من أدوات التغيير، بفعل تصنيف السلطة له كعدو مُحتمَل أو مسبق، حتى قبل أن تشتعل الثورة، التي سرعان ما وجد هذا التلفزيون المغضوب عليه نفسه وقضيته فيها. منذ اندلعت شرارة الربيع العربي، ومنذ تأكّد بسقوط نظام حسني مبارك أنّ مصر مثل تونس، وليست مُختلفةً عنها، كما زعم المسؤولون المصريون، وكما سيزعم المسؤولون الليبيون ثم السوريون ثم اليمنيون، وهم يحاولون الإيحاء بأنّ القطار سيقف هنا أو هناك، ولن يمتدّ إلى بلدانهم.
صنع هذا الظرف التاريخيّ أهميةً استثنائيةً لتلفزيون أورينت في المشهد الإعلامي، وصنع منه مالكُه رجلُ الأعمال غسّان عبّود، بؤرةَ قلق وتوتر وظيفيٍّ وإداريٍّ ومهنيٍّ في آن معاً. وبمقدار ما خلق هذا القلقُ والتوترُ حالةَ عدم استقرار، بمقدار ما فجّر طاقات السوريين الباحثين عن صوت، والمؤمنين أنهم وُلدوا من جديد مع ولادة ثورتهم المُتعثرة الدامية، التي أخرجتْهم من انسداد الأفق، ومملكة الصمت والجحيم، إلى آفاق ودروب ومسالك حملتهم لهم من منافع التغيير الكثير، ومن شروره وآلامه ما هو أكثر. لكنّها الحتميّةُ التاريخيّةُ التي تصنع مصائر الشعوب، من ذا الذي يستطيع أن يحول دونها.
كانت أورينت ومازالت تجربة استثنائيةّ مهمةً، بأخطائها وإنجازاتها، وبقدرتها على أن تكون منبراً يحفظه السوريون ويتابعونه سواء أحبّوا خطابه أم لا. وداخل كل عثرات أورينت وأخطائها، وداخل ذلك التخبّط الذي عاشته القناةُ، وهي تُبدع يومياتها ومعاركها ونشرات أخبارها وبرامجها، وتغيّر وجوهها، ويدخل إليها مَن يدخل، ويغادر مطروداً أو مُكرَّماً مَن يغادر، كان ثمّة روحٌ سوريةٌ نبيلةٌ مُشعةٌ بالخير، وحبّ الناس والدفاع عنهم، والغضب من أجلهم، وكان جوهر أورينت الحقيقي الذي لم تخنه لحظة، وأشهد أن مالكها لم يتهاون فيه قيد أنملة، هي تلك الهويةُ السوريةُ التي كان يحرص عليها، وينتمي إليها ويجلّها، ويأمل بأن تكون رافعتَنا كبشر ننتمي لهذه الأرض وهذه الثقافة، قبل أن نكون مُوظّفين في مؤسسة إعلامية… لكن ذلك لم يمنَعُه من الفصل بين الهويةِ كشعار، وبين السوريين كقابضي رواتب يمكن اضطهادهم وظيفياً!
عشتُ في قناة أورينت أحدَ عشرَ عاماً، قدّمتُ استقالتي خلالها أربعَ مرّات، ودُعيتُ للعودة إليها، وكنتُ أعود، يسكنني الشغفُ بتلك الروح السورية التي لا تعلو عليها أيُّ روح، أو انتماء في هذا المكان. وكنتُ أعتدّ بكل ما أنجزتُه فيها؛ لأنني أنجزتُه بكامل الحرية… ولهذا وضعتُ اسمي على ما أنجزتُ من برامجَ وتقارير وأفلام وثائقية، في زمن تعفيك معظمُ المحطّات من وضع الاسم إن كنتَ لا ترغب. فقد مثّلتْني أورينتُ بخطابها وتوجهها وأخطائها، وإن لم تمثلني بسياساتها الإدارية دائماً وبتجنيها… وفي كل الأحوال بقيتْ أورينت تجربةً تستحقّ الاهتمام، وتستحق أن تُدرَّس؛ لأنها آمنتْ بأهمية الحرية، واستخدام العقول المُختلفة داخل البيت الإعلامي الواحد، بدل التفكير بعقل واحد، وهي حقيقةٌ ستؤكدها العديدُ من الكتابات، التي ننشرها في هذا العدد الخاص بأقلام إعلاميين عملوا فيها وغادروها، أو واكبوا لحظة إغلاقها قبل عام مضى، أو كانوا مجرد متابعينَ لها.
إن هذا العدد الخاص بتجربة أورينت، لا يهدف للنيل منها وشتمها، أو المبالغة في تقديسها والفخر النرجسي بإنجازاتها، بل هو جهدٌ نقديٌّ حرٌّ، قال كتّابُه آراءهم بمطلق الحرية والمسؤولية الشخصية، فامتدحوا ما رأَوا أنّه يستحقّ المديح، وانتقدوا ما رأَوا أنّه كان يستلزم التصويبَ، وكانت (العربي القديم) أمينةً في تعاملها وتوثيقها للتجربة، ولحقّ الاختلاف المشروع في الرأي والتعبير والتقييم.


افتتاحية رئيس التحرير في العدد السابع عشر من (العربي القديم) الخاص بتلفزيون أورينت، تشرين الثاني – أكتوبر 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى