الرأي العام

دلالات وقضايا | موقع الفيلسوف وموقفه بين علماء الدِّين وعلماء الدُّنيا

مهنا بلال الرشيد

لا يمكننا التَّعرُّف إلى موقع الفيلسوف بين علماء الدِّين وعلماء الدُّنيا قبل تحديد الفرق بين كلٍ من عالم الدِّين وعالم الدُّنيا وتحديد موقع قطبي هذه الثُّنائيَّة؛ لأنَّ موقع الفيلسوف من قُطبي هذه الثُّنائيَّة مسألة بينيَّة أو مسألة نسبيَّة في توصيف أدقّ، وهذا شأنُ كثير من القضايا، الَّتي لا يمكن الحديث فيها عن موقع ثابت أو حقيقة مطلقة في وقتنا الرَّاهن؛ لذلك لن نعرف موقع الفيلسوف حتَّى نعرف المقصود بكلٍّ من عالِم الدِّين وعالم الدُّنيا؛ ويكفينا أن نعرف موقع أحد هذين العالِمين؛ لنحدِّد موقع الآخر؛ لأنَّ عالِم الدِّين نقيض عالِم الدُّنيا من نواحٍ متعدِّدة أوَّلًا؛ وبضدِّها تتميَّز الأشياء ثانيًا، وإذا ما حدَّدنا موقعًا لأحد طرفي هذه الثُّنائيَّة؛ سنتمكَّن من تحديد موقع الطَّرف الثَّاني؛ وسنحدِّد كذلك موقع الفيلسوف بينهما.

قدرة رِجال الدِّين على التَّأثير في شرائح المتديِّنين

ينطوي الدِّين بوصفه منظومة فكريَّة شاملة على كثير من القيم الأخلاقيَّة والعادات الاجتماعيَّة والأنماط السُّلوكيَّة، وغالبًا ما ترتبط هذه القيم والعادات والأنماط بثنائيَّة (الخير والشَّرِّ) وما يتفرَّع عنها من ثنائيَّات أخرى؛ مثل: (الثَّواب والعقاب) و(القبيح والجميل) و(النَّافع والضَّارِّ) وغيرها؛ ولهذا يتداخل الدِّينيُّ بالأخلاقيِّ والسُلوكيِّ والاجتماعيِّ، ويصعب الفصل بينها؛ ليغدو الدِّين أفيون الشُّعوب وفقًا لآراء (كارل ماركس Karl Marx) (1818-1883.م)، ويصير الدِّين كذلك واحدًا من أهمِّ العوامل المؤثِّرة في توجيه الشُّعوب وقيادتها، وكلَّما زاد فهم القائد السِّياسيُّ لتأثير الدِّين في تفكير الشُّعوب وتوجيهها وقيادتها ارتفعت قدرته على التَّأثير في جمهوره؛ ومن خلال وجهة النَّظر هذه سنفهم الأسباب التَّي دفعت (سرجون الأكديَّ Sargon of Akad) (2334-2279 BC) والبابليِّين لاتِّخاذ مردوخ إلهًا لهم بدلًا من آلهة السُّومريِّين؛ مثل: أنليل وإنو، وسنعرف ما الَّذي دفع (نارام سين Naram-Sin) (2254-2218 BC) و(حمورابي Hammurabi) (1792-1750 BC) إلى استقطاب الكهنة والاعتماد على رجال المعبد وبناء القلاع لهم؛ ليحفظوا فيها ما يكنزونه من المحاصيل لهم ولسلطانهم؛ لقد وجدوا في علماء السُّلطان خير وسيلة لتسهيل قيادة الجماهير؛ وهنا برز واضحًا موقع علماء الدِّين وتأثيرهم عندما يؤيِّدون السُّلطان، أو  يثورون ضدَّه، وعندما يكون موقفهم منه حياديًّا أيضًا.

نماذج من الكهنة ورجال الدِّين

بعد هذا العرض يمكننا أن نميِّز ثلاثة أنماط من الكهنة، أو نشير إلى ثلاثة من نماذج علماء الدِّين؛ وهم: عالم الدِّين المقرَّب من السُّلطان؛ وهو الِّذي يُفتي له بما يُريد، ويتلو على الجماهير نصوص الدِّين، الَّتي توجب طاعته، وتُحرِّم الثَّورة ضدَّه حتَّى وإن كان سلطانًا جائرًا. والنَّموذج الثَّاني هو عالم الدِّين الواعي، الَّذي لا يعترض على علماء السُّلطان في تأويل النُّصوص الدِّينيَّة إلَّا عندما يُجيِّر أولئك العلماء تلك النُّصوص الدِّينيَّة أو القانونيَّة لاستعباد الجماهير ووزجِّها في خدمة مصالح علماء الدِّين ومصالح سلطانهم؛ عندها ينتفض العالم الواعي في وجه السَّلطان الجائر، ويقود ثورة الجماهير ضدَّه. أمَّا النَّموذج الثَّالث من علماء الدِّين؛ فهو نموذج قُرَّاء النُّصوص أو حُرَّاسها وببَّغاوات مُردِّديها من المنفصلين عن الواقع، يردِّدون نصوصهم دون أن يعرفوا كثيرًا من معانيها أو دلالاتها ومقاصدها؛ وهكذا يبدو لنا أنَّ السُّلطان الجائر يستفيد من مردِّدي النُّصوص في تزييف الوعي وتضليل الجماهير، مثلما يستفيد من علماء السُّلطان في توجيه الجماهير وقيادتها، ولا يخشى السُّلطان الجائر إلَّا من عالم الدِّين الواعي؛ لأنَّه المحكُّ الرِّئيسي لعدالة السُّلطان أو جوره.

دور علماء الدُّنيا في تكريس العبوديَّة

لمَّا نتحدَّثْ عن علماء الدُّنيا حتَّى هذه اللَّحظة، وإن كان علماء السُّلطان أقرب إلى مفهوم علماء الدُّنيا من مفهوم علماء الدِّين؛ لكنَّهم محسوبون على علماء الدِّين تصنيفًا أو تدليسًا وتزويرًا إن صحَّ هذا القول، وعلماء ترديد النُّصوص وتلاوتها دون فهم مقاصدها أُناس أشبه بالببَّغاوات؛ لا يستحقُّون لقب العلماء أساسًا، وإن كان العالم الواعي هو عالم الدِّين الحقُّ؛ فمَن هم علماء الدُّنيا؟ نقصد بعلماء الدُّنيا في هذا المقال طائفة من أصحاب المخترعات وأرباب الإنجازات العلميَّة في العلوم التَّطبيقيَّة؛ كمخترعي الأجهزة الطِّبيَّة ووسائل النَّقل الحديثة وتقانات التَّواصل والاتِّصالات العصريَّة المتطوِّرة وغيرها من المخترعات الكثيرة، الَّتي لا يستغني الإنسان عنها في عصر الحداثة أو عصر ما بعد الحداثة، وتنبع أهمِّيَّة هذه المخترعات من حاجة الإنسان لها؛ لأنَّ الإنسان أسير حاجته، وقد كانت الحاجة أمَّ الاختراع قديمًا، ولكنَّها صارت في يومنا هذا أمَّ الاختراع وأباه أيضًا؛ ولأنَّ علماء الدُّنيا من أرباب العلوم التَّطبيقيَّة أقدرُ النَّاس على تقديم المخترعات المفيدة للبشريَّة فإنَّ دورهم يتجاوز دور عالِم السُّلطان وعالِم ترديد النُّصوص، ويضاهي دور عالم الدِّين الواعي، وقد يتجاوزه، إذا وضعوا مخترعاتهم لتسهيل حياة البشريَّة، وقد يفوق تأثيرهم تأثيرَ عالِم الدِّين الواعي؛ لأنَّهم يقومون بأعمال لا يستطيع غيرهم أن يقوم بها؛ ولهذا يقدِّم عالم الدُّنيا العبقريُّ المعنى الحقيقيِّ لكلمة: (أَعقِلْ) في قول الرَّسول الكريم محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم: (أَعقِلْ! وتوكَّلْ!)؛ فهي ضدَّ التَّسليم بالأمر الواقع، الَّذي يريد علماء السُّلطان تكريسه من خلال الدَّعوة إلى الصَّبر والخنوع والاستكانة والتَّسليم بإرادة السُّلطان الجائر، (أعْقِلْ) هنا ضدُّ التَّواكل الَّذي يكرِّسه علماء ترديد النُّصوص دون فهمها؛ لذلك يبدو لي ههنا أنَّ أصدق شرح لكلمة (أَعقِلْ) يشير إلى تفاعل كبير بين العقل والعمل معًا، أو يدلُّ على العمل العقلانيِّ المنظَّم.

تعرَّفنا إلى أنواع علماء الدِّين في وقتنا الرَّاهن؛ وبقي علينا أو لنا أن نشير  إلى نوعين من علماء الدُّنيا مثلما أشرنا إلى أنواع من علماء الدِّين؛ فعالِم الدُّنيا الأوَّل إنسان لديه من الفهم والإتقان ما يكفيه للإبداع في عمله وتقديم مخترعات من مجاله تساعد البشريَّة، وتسهِّل حياتها، وتصنع حضارتها؛ ونحن ههنا، ومن وجهة نظري أيضًا، أمام مجموعة كبيرة من العباقرة؛ فمخترع السَّهم والقوس-في مرحلة تاريخيَّة قديمة-إنسان عبقريٌّ، ومخترع الرَّحى إنسان مبدع، ومخترع المحراث القديم إنسان فنَّان؛ وقد كان الشَّاعر محمود غنيم محقًّا حين شبَّه المحراث القديم بالرِّيشة حين يحملها الفنَّان المبدع:

يُخطِّطُ الأرضَ في نظمٍ وإتقان   كأنَّه ريشة في كفِّ فنَّانِ

تلك السُّطورُ سطورٌ بات ينقشُها         في صفحة الأرض بالمحراثِ ثورانِ

لقد تفنَّن الشُّعراء في تمجيد العلماء، ومدحوا مخترعاتهم، وأحسنوا وصفها؛ فتحدَّثوا عن ظلام ليل المخترع العبقريِّ الحسن بن الهيثم  (965-1040.م) وعن السَّهر في ظلام الَّليل، الَّذي دفعه لاختراع عدسات المجهر وتأسيس علم البصريَّات، وأشادوا كذلك بمخترع الطَّائرة والمذياع والتِّلفاز والكِبْتَار؛ لكنَّ القسم الثَّاني من عُلماء الدُّنيا وعلومها التَّطبيقيَّة أُناس انتهازيُّون؛ أولئك الَّذين لا يأبهون بمخاطر مخترعاتهم بقدر جموحهم نحو تسجيلها بأسمائهم والحصول على الشَّهادات أو براءات الاختراع؛ ليستفيدوا من المقابل المادِّيِّ بعد بيع حقوق براءات الاختراع؛ ولا فرق عندهم إن باعوا براءة الاختراع هذه لمجرم حرب أو دولة احتلال أو شركة لتوظيف المرتزقة، ونشرِهم لقتل الأبرياء وقرعِ طبول الحرب؛ وههنا يستغلُّ قادة الدُّول العظمى طمَعَ بعض العلماء المهووسين بأبَّهة التَّقدير والمال بسبب خوائهم الرُّوحيِّ؛ ليشتروا منهم مخترعاتهم أو براءات اختراعاتهم؛ ويصمِّموا بها أو من خلالها آلاتهم الحديثة؛ الَّتي تساعدهم على استغلال حاجات الشُّعوب لهذه المخترعات، واستعبادهم بها؛ لأنَّ الإنسان عبد حاجته كما أسلفنا؛ وههنا تتوافق مصالح عالم الدُّنيا الجشِع مع مصالح السُّلطان الجائر؛ فيؤكِّد سلوك أحدهما أنَّ: (الحاجة أمُّ الاختراع)، ويؤكِّد سلوك الآخر مقولة (نيكولو مكيافيللي Niccolo Machiavelli) (1469-1527.م) بأنَّ: (الغاية تبرِّر الوسيلة) أيضًا.

هكذا يُسهم نفرٌ من علماء الدِّين مع نفر آخر من علماء الدُّنيا في تكريس عبوديَّة الجماهير وشقاء البشريَّة مقابل بعض المكاسب الشَّخصيَّة الصَّغيرة أمام التَّضحية بمكسب حرِّيَّة الجماهير وصناعة مدنيَّتها وحضارتها، ويقدِّمون مكاسبهم الدِّنيئة على نهضة المجتمع، ويدفعون نحو استعباد أبنائه ببعض تلك المخترعات؛ كقذائف النَّابالم الَّتي تُلقيها الطَّائرات على البشريَّة بدلًا من ترفيهها وإسعادها، وقذائف البارود الَّتي حاول ألفرد نوبل التَّكفير عن ذنوبه بعد اختراعها برصد ريعيها لجوائز نوبل العالميَّة الشَّهيرة؛ نعم هي مكاسب شخصيَّة صغيرة وهزيلة ودنيئة يستفيد منها المخترع إذا ما قورنت بأضرارها في تدمير البشريَّة أو استعبادها وتدجينها واستغلالها من قبل سلاطين جائرين يتحكَّمون بالعالم لمراحل تاريخيَّة طويلة، وإذا ما قورنت بفوائد الحرِّيَّة ومنافعها؛ تلك الحرِّيَّة؛ حرِّيَّة الإنسان؛ الَّتي يضحِّي بها علماء السَّلاطين وعلماء الدُّنيا مقابل مكاسب شخصيَّة محدودة ورخيصة؛ تلك الحرِّيَّة الَّتي لا يعلم عنها علماء ترديد النُّصوص شيئًا؛ لذلك-وههنا تحديدًا-يبرز موقف الفيلسوف وموقعه المهمُّ لنشر الوعي الحقيقيِّ في مجابهة الوعي الزَّائف، الَّذي ينشره بعض علماء الدِّين وبعض علماء الدُّنيا أيضًا؛ وهنا تتجلَّى مهمَّة الفيلسوف الحقيقيُّ بوصفه حكيمًا متجرِّدًا من الانفعالات والأهواء الذَّاتيَّة والرَّغبات والمكاسب الشَّخصيَّة، ومنحازًا لحرِّيَّة الإنسان وجملة القيم النَّبيلة الَّتي يؤمن بها الشُّرفاء، ويدافعون عنها.

موقع الفيلسوف ودوره

حين يعرف الفيلسوفُ الحقُّ دورَه وموقعه ومكانته سينبري لنشر الوعي الحقيقيِّ، ونقد العبوديَّة في واقع يعجُّ بكثير من مظاهرها وعلاماتها، ولن يأبه بحديث النَّاس عنه، إن اتَّهموه بالانفعال أو التَّشاؤم والسَّوداويَّة كما فعلوا مع آرثر شوبنهاور حينًا، أو إن وجدوا في فلسفته عنفًا ثوريًّا أو أخلاقيًّا أو نقديًّا كما في فلسفة نيتشه حينًا آخر؛ وإن كان الفيلسوف الحقُّ تشاؤميًّا أو ثوريًّا لن يأبه بعلماء السَّلاطين في الحالتين، وقد يتَّهمونه بالإلحاد؛ برغم إعلانه أمام الجماهير وبصراحته المعهودة؛ بأنَّ إيمانه بالله ثابت لا يتزعزع، وأنَّ مشكلته ليست مع خالق هذا الوجود، وإنَّما مع السَّلاطين الجائرين ومَن والاهم من المرتزقة وأنصاف العلماء المنفاقين أو أدعياء العِلمٍ الدَّجَّالين؛ أولئك الَّذين راحوا يظلمون النَّاس، ويجورون على العباد باسم الخالق؛ وهم أبعد النَّاس عن الإيمان بأيِّ شيء عدا مكاسبهم الشَّخصيَّة ومنافعهم الذَّاتيَّة؛ لأنَّ جوهر الإيمان إخلاص لخالق هذا الكون، وتسليم بعدالته، ودفاع عمَّا أمر به من قيم نبيلة، ولا يظهر جوهر الإيمان إلَّا إذا صدَّقته أقوال العلماء والسَّلاطين وأفعالهم؛ فشتَّان بين رفع الشِّعارات وتطبيقها، شتَّان بين القول والفعل؛ لذلك لا يأبه الفيلسوف الحقُّ بكلِّ ما سيُحكى ويُقال عنه ما دام مخلصًا لإنسانيَّته ومبادئه السَّامية، ويكفيه أنَّه يهدي البشريَّة، ويُنير عقولها قبل إنارة دربها؛ لتعرف عدوَّها من صديقها؛ وههنا سنتذكَّر كثيرًا من الفلاسفة المبرِّزين، الَّذين انتقدوا الظُّلم والعبوديَّة كما فعل (إيتيان دي لا بويسيه Etienne de La Boetie) (1530-1563.م) في مقالته حول: العبوديَّة الطَّوعيَّة أو العبوديَّة المختارة، ولم يأبه باتِّهامات الآخرين وأقوالهم؛ ولعلَّه من الجميل أن تجد حسًّا فلسفيًّا عاليًا لدى عالِم واعٍ يُصنَّف بين علماء الدَّين؛ لتكتشف في فكره لذَّة اجتماع كثير من المحاسن: (قوَّة الفكر مع ورع الدِّين وحكمة الفلسفة ورقَّة الأدب ورهافة إحساس أهله)؛ كما بدا ذلك في قول الإمام محمَّد بن إدريس الشَّافعيِّ (767-820.م):

أعرِضْ عن الجاهلِ السَّفيهِ      فكلُّ ما قال فهو فيهِ

ما ضرَّ بحر الفرات يومًا         إن خاض بعض الكلاب فيه

لم يأبه الشَّافعيُّ بما قاله السُّفهاء عنه وعن مذهبه وآرائه، ويروى أنَّه أفتى بجواز استئجار الفقيه سفيهًا كي يسافه عنه أمام السُّفهاء! وكذلك لم يأبه نفرٌ كبير من الفلاسفة بما قاله عنهم السُّفهاء حين اتَّهموهم بالإلحاد حينًا أو بعداء الكنيسة حينًا آخر، ناهيك عن اتِّهامهم بالتَّشاؤم والسَّوداويَّة والتَّحريض على العنف؛ لأنَّهم قاموا بمهامهم التَّنويريَّة كما فعل (باروخ اسبينوزا Baruch spinoza) (1632-1677.م) حين دبَّج كتابه (علم الأخلاق)، وكشف دور الانفعالات والأهواء في استعباد البشر، و(جورج وليهالم فريدريك هيجل Georg Wilhelm Friedrich Hegel) (1770-1831.م) الَّذي بيَّن دور الدِّيالكتيك وصراع الأضداد في سيرورة التَّاريخ وقدوم حتميَّاته بعكس أهواء السَّلاطين الجائرين ومَن حاباهم مِن علماء الدِّين والدُّنيا، و(آرثور شوبنهاور Arthur Schopenhauer) (1788-1860.م) في واقعيَّته أو تشاؤمه خلال حديثه عن: فنِّ العيش الحكيم، ثمَّ جاء (كارل ماركس Karl Marx) (1818-1883.م)، وأكمل درب هيجل في: (رأس المال)، وتكلَّل اجتماع العلم مع الفلسفة الحكيمة لدى (ألبيرت آينشتاين Albert Einstein) (1879-1955.م) الَّذي أكَّد على إيمانه، وكشف ملامحَه في ردٍّ واضح على كلِّ من اتَّهموه بالكفر أو الإلحاد؛ فقال: (أؤمن بإله اسبينوزا).  

كيف يُكرِّس بعض العلماء عبوديَّة الجماهير الطَّوعيَّة؟

قد يظنُّ بعض القرَّاء أننَّا نطرح سؤالًا جائرًا لا يخلو من بعض التَّجنِّي على العلماء ورجال الدِّين أو على بعضهم مقابل محاباة الفلاسفة أو الانحياز لهم، وقد يرى آخرون أنَّ هذا السُّؤال يحتوي على مغالطة كبرى؛ أو يُحيل إلى مغالطة على أقلِّ تقدير، لكنَّ ما يؤلمني حقًّا أنَّ هذا السُّؤال-من وجهة نظري-يحيل إلى حقيقة واقعيَّة، ولا أقول حقيقة مطلقة؛ لأنَّ كثيرًا من العلماء ورجال الدِّين في البلدان المتخلِّفة وقصور الأمراء والسَّلاطين يسهمون بشكل أو بآخر في تكريس عبوديَّة البشر بدلًا من تحريرهم وتوعيتهم بأكثر من شكل وطريقة؛ وهكذا يؤدِّي بعض رجال الدِّين وبعض العلماء وظيفة عكسيَّة؛ ويُكرِّسون العبوديَّة بدلًا من الدِّفاع عن الحرِّيَّة، أو قيادة الثَّورة وتوجيهها من أجل حماية الحرِّيَّة أو صناعتها؛ ولهذا أيضًا حظي عالِم الدِّين الحقيقيُّ بأهمِّيَّة كبرى وموقع بارز في الحضارات القديمة والدِّيانات السَّماويَّة والقوانين الوضعيَّة أيضًا؛ فالعلماء الحقيقيُّون -علماء الدِّين وعلماء المعارف التَّطبيقيَّة النَّافعة- ورثة الأنبياء؛ ولا شكَّ أنَّ الأنبياء قادوا مجتمعاتهم، الَّتي أثَّروا فيها؛ وحين يرِثُ العالمُ النَّبيَّ في قيادة المجتمع يجب عليه أن يحافظ على دوره الرِّياديِّ، ويقود الشُّعوب نحو حرِّيِّتها وتقدِّمها وخلاصها ورفاهها، لا أن يتخلَّى عن مهمَّته، أو يغدو أداة لاستعباد الشُّعوب وقمعها؛ وهنا لا فرق بين عالم الدِّين وعالم الدُّنيا؛ لذلك يُحدَّد موقع أيِّ واحد من هذين العالِمين بمقدار ما يُخلص لوظيفته الرِّياديَّة، ويؤدِّي مهمَّته القياديَّة.

متى يستعيد العلماء الحقيقيُّون دورهم؟

ترغب نخبة المخترعين ومبدعي العلوم التَّطبيقيَّة بالحصول على الاحترام والتَّقدير مقابل خدماتهم الفريدة، ولا شكَّ أنَّ الدُّول المتقدِّمة تتفوَّق على دول العالم الثَّالث المتخلِّفة في رعاية العلماء واستقطابهم وتقديم الرِّعاية والتَّقدير لهم مقابل مخترعاتهم؛ وههنا يستغلُّ بعض السَّاسة حاجة هؤلاء العلماء، ويضيفون مخترعاتهم النَّبيلة في أساسها إلى ترسانة جيوشهم وأسلحتهم التَّقنيَّة الحديثة؛ فيصير الاختراع ذاته أداة لتكريس العبوديَّة، ويصبح وبالًا على الشُّعوب المستضعفة. أمَّا رجال الكهنوت أو رجال السَّلاطين فلا ينطبق لقب العالم على غالبيَّتهم العظمى، وليس لديهم من عالم الدِّين الحقيقيِّ إلَّا شكله أو لقبه، وقد لا يحمل بعضهم شيئًا من هذا ولا ذاك؛ وكثير منهم قُرَّاء نصوص ونَقلة أحاديث ومردِّدو روايات، وشُرَّاح قوانين العقاب والثَّواب في العالم الآخر؛ فهم بعيدون كلَّ البعد عن واقعنا المرير ومشكلاته، وهم قريبون جدًّا من مفهوم (شرطة الدِّين) أو (بوليس الأخلاق)، وبعيدون عن العلم والعلماء؛ وهم خلاف الفيلسوف المتنوِّر وعالم الدِّين المجدِّد، اللَّذَين نستثنيهما من زحمة (أصحاب السَّعادة) من الزَّاحفين نحو الألقاب الوهميَّة أو المشغوفين بها؛ لأنَّهما يحملان شعلة الفكر والتَّنوير، ولا يكتفيان بترديد النَّصوص وتكرار قوانين ثوابها وعقابها في العالم الآخر، بل يَنْقُدان النُّصوص ذاتها إذا صارت هذه النُّصوص أدوات لتكريس العبوديَّة؛ ومن هنا يمكن للعالِم المجدِّد والمخترع العبقريِّ مع الفيلسوف المتنوِّر أن يرتقوا بالمجتمع، عندما يقومون بوظائفم التَّنويريَّة؛ فالجماهير بحاجة إلى مخترعات العلم وحكمة الفلاسفة ودهاء العلماء؛ لتصون بها حرِّيَّتها، وتتخلَّص بها ومن خلالها من عبوديَّتها، وكذلك تعتنق الجماهير العقائد الَّتي تحرِّرها من عبوديَّتها، وتقدِّس نصوصها، الَّتي تُخلِّصها من شقاء الدُّنيا قبل خلاصها من شقاء الآخرة؛ وليست بحاجة إلى مردِّدي نصوص يدعون الجماهير إلى الصَّبر على شقاء الدُّنيا للفوز بسعادة الآخرة، ولا يروِّج مثل هذه المقولات التَّعيسة إلَّا أنصاف العلماء أو رجال الكهنوت من أنصاف رجال الدِّين، الَّذين انحرفوا عن وظيفة التَّنوير بعدما أعمتهم عزلتهم في صوامع منافعهم أو قصور سلاطينهم عن ملامسة هموم الجماهير وآلامها؛ فراحوا يتشدَّقون في المجالس بأحاديث عن ضرورة الانصياع للأمر الواقع وما ينتظر العُصاة من أنواع العذاب في الآخرة؛ وكأنَّ النَّاس لا تعاني هذا العذاب ولا تُقاسيه في الدُّنيا قبل الآخرة.

زر الذهاب إلى الأعلى