نصوص أدبية || طفلة العيون الزرقاء والجندي الروسي
قصة قصيرة كتبها: محمد المير إبراهيم
اليوم التقيت مجددا بسيدة ألمانية كنت قد تعرفت عليها في ذاك المكان الذي نجتمع فيه عادةً.
الڤيلا مكانٌ يجمع المتعثرين في هذه الحياة. وبحكم أنني منسجم مع تقلبات الحياة فدائماً متعثر ومتواجد هناك بشكل متواتر (حسب تلك التقلبات)
نلتقي عند الثانية عشرة والنصف ظهراً حين تنهي عملها كمدرسة للغة الألمانية لغير الناطقين بها.
مرتديةً شالها الأحمر المُعتاد وقميصها الطحيني اللون. تأتي محمومة كي تدخن سيجارة. فنخرج إلى الشرفة الصغيرة كي ندخن ونتحادث قليلاً.
أعادت عليّ حديث يوم الثلاثاء الماضي فهي تنسى أن اليوم السادس والعشرين من الشهر الجاري، يصادف عيد ميلادها الحادي والثمانين. كم هي متململة من يدها اليُمنى التي لم تعد تُطاوعها في الكتابة. عينها اليُسرى أيضاً أصبحت لا تعمل بشكل جيد وهي بحاجة لتغيير نظارتها. ضحكت اليوم كما يوم الثلاثاء الفائت.
قلتُ لها إن هذه الأمور طبيعية الحدوث لإنسان في مثل عمرها. وكما نقول نحن العرب: “العمر اله حقه”
ابتسمت وأجابت:
– بالرغم من كل شيء. مازال يعمل بشكل جيد.
وأشارت بيدها المتعبة إلى رأسها وضحكنا. لا أعلم لم خطر لي أن أسألها السؤال المعتاد:
إذاً قد رأيتِ الكثيرين خلال ثمانين عاماً. أومأت بالإيجاب واستطردت بأنها رأت الكثير من الناس من كل دول العالم، واستثنت كندا لأنها لم تزرها من قبل ولم تلتقِ أحداً من هناك.
فجأةً استرسلت في الحديث. كانت المرة الأولى التي تتحدث فيها عن هذه الأشياء. قالت:
– ولدت في مدينة صغيرة على الحدود البولندية الألمانية في عام ١٩٤٣ قبل سنتين من انتهاء الحرب العالمية الثانية. كان عمري سنتين حين نزح أهلي باتجاه ألمانيا بعد نهاية الحرب. كنت وأمي وخالتي وابنة خالتي التي تكبرني بسنة، تلك الطفلة التي ماتت جوعاً. مازلت أذكر وجه ذاك الجندي الروسي الذي ما انفك يطعمني طوال طريق نزوحنا. ابنةُ خالتي كانت ذات شعر بني وعينان عسليتان، وأنا كما ترى عيناي زرقاوان وشعري ذهبي فاتح. ذاك الجندي اختار لي الحياة طبقاً للون شعري ولون عينيّ حين أطعمني.
حتى هذه اللحظة مازلت أسأل لمَ عشت!؟ ولمَ ماتت ابنة خالتي الصغيرة جوعاً؟! من قرر من يحيا ومن يموت؟ ذاك الجندي أم شيءٌ آخر!؟ ولمَ؟!
سكتت، لم أنطق بحرف أمام هذا السؤال الرهيب الذي طرحته تلك المرأة وهي في سن الحادية والثمانين. ثم قالت: لا بأس.
حينَ أنهت كلمتها تلك، عدتُ إلى حالة الصلابة المعتادة التي أنا عليها. كانت كلمات صارمة لامرأةٍ في الثمانين من عمرها. ربّتُ على كتفها وقررت أن أنهي الحديث هنا، خوفاً عليها من الحزن… لكنها تابعت. وكأنها تريد أن تطلق حكايتها إلى العالم. لم أمتلك سوى الاستماع:
– لا أعلم بالضبط متى وأين؟ لكن أذكر الرعبَ الذي عشته حينما كنت أدفع عربتي الصغيرة التي خصصتها لدميتي، التي اعتبرتها ابنتي، انتهى بي الطريق في ساحة رملية تتوسطها أرجوحة مثبتة على وتدين طويلين من الخشب وسلاسل من الحديد الصدئ، ومقعد بسيط، مازال قادراً على اللمعان في ضوء الشمس. كان نظري منجذباً نحوه. لمعانه شدني بقوة. دفعَ بنظري أن يرتفعَ إلى الأعلى. كأنه (المقعد) أراد تنبيهي للرؤوس المسلطة عليّ من الأعلى. كانت الساحة الرملية أمامَ مبنى خصص للعسكر الروسي. هناك، ومن على شرفة طويلة ممتدة على جانب المبنى بأكمله، كانت تقف مجموعةٌ من الجنود والجنديات الروسيات. لم أرَ سوى القليل من شعرهم ووجوهم البيضاء وعيونهم الواقعة عليّ.
لن أنسى خوفَ تلك اللحظة. حين أغارت عيونهم عليّ. وأنا طفلة! أحسست بالعُري التام، بل باغتصاب النظرة، حتى أكون أدق. لم أتخلص من تلك العيون، إلا قبل فترة قريبة.
أعلم ما تقصدين! أنا آت من بلدٍ مُتخم بالعيون والآذان. لا شيء أقسى من اغتصاب النظرة وقتل السمع وإخفاء الكلمة.
***
للحظات لم أستطع الجزم بأنها تسمعني، كأنها تتحدث مع نفسها. عيناها غرقتا بدمعٍ جاف،
جففته مرارة سنين. لا تُرى لكن تُحس. وتصل إلى القلب دون سبب.
تمالكت نفسي ودعوتها لنشرب القهوة وافقت وتابعت حديثها:
– أمي! لم أعرفها. تركتني مع جديّ واختفت، بعد أن وصلنا ألمانيا. هي وصلت للشمال وأنا سكنت الجنوب مع جديّ.
كانَ الناس في ذلك الوقت يبحثون عن بقايا أهلهم. لم نمتلك ما تراه اليوم من الأدوات والتقنيات التي تربط العالم ببعضه بلمسة على لوح.اعتمدوا على آلية بدائية للبحث. حيث خُصّصت أماكنَ معينة يمكن أن تترك ورقةً فيها اسمك عنوانك واسم الشخص الذي تبحثُ عنه. هذه الأماكن أو محطات البحث تتواصل مع بعضها عبر البريد، الذي لم يتوقف حتى أثناء الحرب وفيما بعدها.
آه.. أوك. رُبما كلامك يفسر مدى ارتباط الألمان ببريدهم، فهم حتى هذه اللحظة مصرون على الورقيات والرسائل المكتوبة.
قاطعتها قاصداً دفعها إلى الهدوء. بعد أن شاهدت تأثرها بما تقول.
رُبما.. أو ممكن أن هذا الجانب من تاريخنا قد لعب دوراً ما وزاد ارتباطنا بالبريد والرسائل
على العموم. في ذلك اليوم دخلتُ إلى المنزل فوجدت جدتي وجدي جالسين في غرفة الضيوف الصغيرة التي امتلكاها. طلبا مني الاقتراب والجلوس رغبةً منهم في الحديث معي عن موضوع هام.
لم أعرف لم سقطَ قلبي بين يدي حين أخبراني بأنهما سمعا اسم أمي واسمي في المذياع الكبير المثبت في وسط المدينة. على برج الكنيسة الجديد الذي رممه الأهالي بعد نهاية الحرب. هكذا كان الناس يبحثون.
ورقة تعلق داخل محطة البحث. كنيسة أو مبنى البلدية أو حتى مركز مخصص لهذا الأمر
تُرسل الأسماء والعناوين إلى باقي محطات البحث.
تُقرأ هذه الاسماء على أهالي الأحياء أو المدن أو البلدات أو الضيع. رُبما يلتقي الأحباب.
أما أنا! فلم أستطع أن أفعل شيئاً.
***
أمي لا أعرفها، وعمري سبعُ سنوات. ركبنا في القطار المتجه شمالاً. ازدحامٌ قاتل سطا على عربات القطار. كنت أجلس بين قدميها.
أراقبُ الناس، أصواتهم.. حركاتُ وجوهم المرهقة.. نظراتهم التائهة.. حتى لمحتُ طائراً غريباً. جناحان سوداوان ضخمان.. رأسه كرأس الصقر.. عيناه كانتا شفافتين.. تتلون كل واحدة على حدة.. له وجهٌ بمعالم وتقاسيم بشرية. نطق وقال: “الثأر.. الثأر.. الثأر”
ارتعبت ووضعت رأسي في حجري وأغمضت عينيّ لبرهة ثمّ رفعتهما.. كان قد اختفى.
كأنها كانت تراه. وهي تحدثني عنه. تراه.. تجمدت لثوانٍ ثم التفتت إلي وقالت:
– أتفهم ما أقول!؟
ذكرتني بأسطورة طائر الهامة التي كانت موجودة لدى العرب قبل الإسلام. تقول الأسطورة إن الإنسان إذا مات مقتولاً ولم يُؤخذ بثأره، يخرج طائرٌ من رأسه ويبقى عند قبره، يصيح باستمرار:
الدم.. الدم
اسقوني اسقوني
اسقوني دماً
أجبتها بإيماءة من رأسي بنعم. وأنا مندهش من هذا التماثل.. كأن روح الإنسان في كل بقاع الأرض.. واحدة.
لم أتابع الحديث في شأن طائرها الهامة. أعدتها إلى اللحظة وسألتها عن أُمها
– كانت أمي غريبة.. غريبةً عني لا غريبة الأطوار بحثت عني سعياً وراء الدعم المالي الذي تقدمه الدولة للعوائل وأطفالهم. بمعنى.. لم تُحبني قط ولم أشعر نحوها بشيء. عشت معها ومع زوجها وأولاده حتى بلغت الحادية والعشرين.. في ذلك اليوم تركتُ ذلك المنزل دون رجعة، ولم أرها بعد ذلك إطلاقاً. بعدها التقيت بزوجي. تزوجنا وأسسنا عائلة لطيفة، رزقت بابنتين جميلتين. لكن منذ اللحظة الأولى لتفتح وعيي سعيت لأفعل كل ما أستطيع لمساعدة الآخرين. وإلى جانب عملي وعائلتي، تفرغت لتعليم اللغة الألمانية للأجانب الذين أتوا للعمل هنا. بدايةً للأطفال ومن ثم للنساء اللواتي أتين مع أزواجهن إلى ألمانيا دون تعليم..
هنا في هذا المكان بدأنا أنا وعدة صديقات كورسات اللغة الألمانية للنساء التركيات في عام ١٩٧٩. خصصنا يوماً في الأسبوع للتجمع وتحضير إفطار للنساء فقط.
قاطعتها:
إذا بعد واحد وثمانين عاماً استطعت العثور على جواب ذاك السؤال…؟
قالت: استطعت خلق هذا الجواب.. جعل هذا الجواب ممكنا وواقعاً عشته وسأعيشه حتى آخر لحظة في حياتي. أن أساعد الناس.. كُلَّ الناس بكل ما أستطيع، هو المعنى جواب السؤال الأهم:
لن أسمحَ لذلك الجندي الذي جعل من لون عيني سبباً لأحيا.. لكنه حكماً قتلَ تلك الطفلة الصغيرة ابنةُ خالتي. لأن عينيها عسليتان.. وشعرها بُني غامق جوعاً.
الآن بينَ الحينِ والآخر يُطلُّ ذلك الطائر.. بابتسامة طفولية عذبة وبعينين عسليتين.
رمت سيجارتها في الصحن الملقى على حافة الشرفة..
فقد تذكرت أن زوجها ينتظرها دائماً وقت الغداء ولا تريد أن تتأخر عليه.
غادرت بخطاها الهادئة.. بعد أن ودعتني كأنها لم تكن هي.. حين قالت لي ما قالته
بقيتُ على تلك الشرفة أنتظرها حتى غابت عن نظري تماماً.. فتحتُ الباب ودخلت
وذاك الطائر.. طائرُ هامتي.. ينظرُ لي ويقول:
اسقوني.. اسقوني.. اسقوني.