الرأي العام

مقامات أمريكية | القهوة المسكوبة

د. حسام عتال

أنا بارع في “كبّ” القهوة، وأحياناً الشاي. لكني لا أشرب الشاي بقدر ما أشرب القهوة، وهذا هو السبب في تركيز موهبتي على مشروب القهوة.

لا تضحكوا، المهارة المتطلبة لذلك لا يملكها الكثير، هي تحتاج لمران ومراس خاصين.

عندما خلق الله البشر أنعم على كل منهم بهبة خاصة.  هناك من يستطيع أن يصفّروا بشفاههم وألسنتهم دون أن يضعوا أصابعهم في فمهم، أنا لا أقدر أن أفعل ذلك، يجب عليّ أن أدخل الإبهام والسبابة إلى عمق فمي كي أُصفّر. والبعض يربحون في لعبة التركس مهما كان نوع ورق الشدّة الذي وزّع لهم، أنا أحتاج إلى سبعة “كوبّايات” وختيار معهم كي أستطيع أن أطعم  خصمي هذا الختيار الوقور (وعندها أفعلها بكل لؤم). وآخرون يستطيعون الرقص برشاقة على أي لحن كان. الحركة المتوازنة تأتيهم بعفوية، أنا همّي الوحيد عند الرقص هو ألا أدوس على رجلي شريكتي، وغالباً ما أخفق في ذلك.

أما عندما يتعلق الموضوع بكبّ القهوة فأنا الملك المتوّج، ويمكنكم الاعتماد علي أكثر مما يعتمد الشعب السوري، بكل قبول ورضى، في قضاء حاجياته على قوة الليرة السورية.

نوع القهوة غير مهم، سادة كانت أم بحليب، بسكر أو من دونه. وكذلك لا عبرة لنوع الوعاء، فنجاناً كان أم كأساً (نعم أنا واحد من الرعاع الذين يشربون قهوتهم في كؤوس الشاي) زجاجياً كان أو بلاستيكياً، بغطاء أو بلا غطاء.

وأنا لا أريق قهوتي جزافاً، ففي المكتب أسكبها ليس فقط على سطح المكتب، بل على الكمبيوتر، والمجهر، والهاتف، وأوراق حالات المرضى، وكل قلم من مجموعة الأقلام المتناثرة على مكتبي، وهي كثيرة. ثم تسيح القهوة لسجاد الأرض (الموكيت)، ويطرش الجدران وحتى النافذة ذات الزجاج العريض المطلة على مركز المدينة. لقد كَسِبتُ هذا المكتب ذو الإطلالة المميزة بسبب تفوقي في العمل، لم يدرك شركائي وقتها ماهي الأمور الأخرى التي أتفوق بها، وإلا لتركوني في إحدى الغرف الخلفية!

لو كان لون القهوة أحمراً فسترون مكتبي أشبه منه بمسرح جريمة من قصص أجاثا كريستي عنه من مكتب طبيب.

في البيت، أترك المطبخ وغرفة السفرة وغرفة البيانو، وأختار غرفة المكتبة لممارسة هوايتي المفضلة. رغم أن هذه الغرفة رحبة ولا تحوي على كثير من الأثاث، يمكن لي بكل سهولة أن أدلق محتويات الكوب بكاملها في أي موضع. المفضل هي الأريكة الوثيرة، فتتشرب طراحاتها وساندات الظهر بالسائل. خياري الثاني هي الطربيزة بما عليها من أدوات إلكترونية، وعلب خشبية، ومجلات، وكتب. هذه الأخيرة تتعشق القهوة في صفحاتها لتعطيها لوناً مميزاً وكأنها بدأت تحترق ثم انطفأت في منتصف العملية، وتحمل معها رائحة نفاذة حادة، ولزوجة خاصة أحس بها عند تقليب صفحاتها. ومما لابد منه أن تذرف القهوة من زوايا الطرابيزة على السجادة العجمية الخمرية التي اشتريناها من ميناء صغير في إمارة الشارقة، من إحدى القوارب التي كانت تهرّب السجاد الإيراني عبر الخليج بسبب الحصار الاقتصادي الأمريكي وقتها. وإذا كنتم لا تظنون أن الحصار كان فعّالاً فعليكم أن تعرفوا أن ثمن هذه السجادة قد تضاعف عدة مرات بعد أن رفع أوباما الحصار عن إيران، هذا الرجل الذي عملنا جاهدين لجمع الأصوات له أثناء حملته الانتخابية الأولى، وصفّقنا وهللنا له يوم فوزه بالرئاسة!

وتبقى السيارة هي المكان الذي تظهر فيه موهبتي بأعلى درجاتها، خصوصاً إن كانت جديدة كالتي اشتريتها منذ أسابيع. اخترتها لأنها كهربائية وأنا بطبعي مهتم بشؤون البيئة، ولأنها تقود نفسها على الطرقات السريعة مما يعطيني بعض الراحة في مشواري الطويل للعمل فلا حاجة لي حتى للمس المقود. لا شك أنكم تتساءلون الآن كيف لي أن أهرق قهوتي في السيارة، أليست يداي حرّتان دون لمس المقود؟ ألست في وضع ارتياح كامل؟ هذا صحيح، لكن هنا تكمن سر موهبتي، لأنه يمكن لي أن أسكب القهوة ليس فقط على ثيابي ومقعدي الجلدي وأرضية السيارة، وفي الأمكنة المستحيلة التنظيف مثل ذاك الفراغ الضيق بين المقعد وسنّادة اليد، بل وعلى لوحة القيادة بشاشاتها العديدة الأشبه بشاشات المركبات الفضائية، وعجلة القيادة، وفتحات التهوية. كل هذا يمكنني تنفيذه بشكل حاسم لوحدي، بينما سيارتي تقود نفسها نحو المشفى الذي أعمل به، حيث أحتفظ بثياب احتياطية نظيفة لأني أعرف يقيناً كم هي راسخة موهبتي، ومدى استفاضتها.   

زر الذهاب إلى الأعلى