مقامات أمريكية | امرأة سورية في غريسي مانشن
هذه الصبّية ستكون سيدة نيويورك الأولى، أصلها من دمشق، وهي زوجة العمدة المنتخب زهران مامداني

د. حسام عتال – العربي القديم
في اليوم الأول من كانون الثاني ستنتقل امرأة سورية عمرها ٢٨ سنة من شقة صغيرة في منطقة استوريا – كوينز مؤلفة من غرفة نوم واحدة (استديو) إلى ڤيللا اسمها غريسي مانشن بنيت عام ١٧٩٩ في منطقة كارل شولتز پارك. هذه الڤيللا التي بنيت على النمط الفدرالي من طابقين مساحتها ١١،٠٠٠ قدم، فيها أربعة عشر غرفة، منها خمسة غرف نوم، وخمسة حمامات، وصالون استقبال رسمي. هذه المرأة (الصبية) ستكون سيدة نيويورك الأولى. اسمها راما دوجي، أصلها من دمشق، وهي زوجة العمدة المنتخب زهران مامداني.

كان فوز زهران في انتخابات العمدة صدمة للمراقبين لأن زهران لم يقدم نفسه كسياسي تقليدي يقود حملة انتخابية كبقية الحملات، بل قدم نفسه كـقائد لحركة تغيير شاملة. خلال حملته، التزم برسالة مباشرة وواضحة وثابتة، أساسها ادراكه العميق لاحتياجات وهموم المواطن اليومية في نيويورك. تمحورت تلك الرسالة حول قدرة المواطن على تحمّل تكاليف المعيشة، وذلك بتجميد الإيجارات في الشقق الخاضعة لعقود ضابطة، وتوفير مواصلات مجانية بحافلات سريعة فعّالة، وتأمين رعاية الأطفال المجانية، وإنشاء متاجر مواد غذائية بأسعار معقولة. هذه الرسالة لاقت ترحيباً واسعاً لأن سكان نيريورك الذين شعروا أن يسمعون منه محاولة جدية لنقل السلطة من النخب الاقتصادية والسياسية العليا إلى يد الناس العاملين العاديين. فعل كل ذلك وعمره ٣٣ سنة.
عندما بدأ مامداني حملته كان التأييد له شبه معدوم (حوالي ١٪ فقط في شباط). رغم ذلك لم تثن همته ولم يحبط جهده. ظل يرفض التبرعات الضخمة من الشركات الكبرى والأغنياء من أصحاب الثروات؛ بدلاً عنها اعتمد على تبرعات فردية صغيرة وعلى شبكة واسعة من المتطوعين الشباب، تتواصل بعدد من اللغات استطاع الوصول من خلالها إلى مجتمعات مهمَّشة في السياسة النيويوركية. ساعده عمره الصغير ونشاطه الحثيث، مع الوقت أصبح رمزاً لجيل جديد من القادة، مما جذب إليه المزيد من الناخبين المتطلعين للتغيير.
وأظهر ممداني ذكاء وحنكة، فاستفاد من انقسام المعسكر المنافس، إذ توزعت الأصوات بين عدة مرشحين الذين كانوا أصلاً يعانون من فضائح الفساد، ومن خاصية في انتخابات نيويورك التي تعتمد على نظام التصويت الترتيبي (الذي يكافئ المرشحين الذين يستطيعون كسب دعم متنوع حتى إن لم يكونوا الخيار الأول لكل الناخبين)، بذلك تمكن من توحيد أنصاره وبقاؤهم متماسكين حوله رغم محاولات تقسيمهم وتشتيتهم من قبل منافسيه.
وخلافاً لمنافسيه لم يتجنب القضايا الجدلية، بل واجهها وجهاً لوجه وبصراحة كاملة. مثل موقفه الجرئ والواضح من فلسطين، والذي ربما كان يضر بمرشح آخر خاصة، لكن مواقفه زادته مصداقية وجرأة لدى مؤيديه، وحتى من اختلفوا معه، فقد وجدوا فيه إخلاصاً لمبادئه وصدقاً لم يعرفوه بمن سبقه من السياسيين في المدينة، فاحترموا فيه ذلك.
وتمّيز عن منافسيه بخطابة بلاغية اساسها لغة التعاطف الدافئ، وسرعة البديهة، والقدرة العجيبة على الإقناع، مستخدماً شخصيتة السلسة الخالية من التكلف، والتي ظفها عبر فيديوهات قصيرة وسريعة مليئة بالتفاؤل والمرح. وظهر على عدد كبير من البرامج التلفزيونية، والبودكاست، والمقابلات مع المؤثرين. هذه الطريقة أدهشت المراقبين، وأصبحت تدرس كمثال عن أفضل سبل التواصل الحديثة. وفي مناظراته مع منافسيه أظهر براعة في الجدال فمزج الإصرار والحزم وقوة الحجة بالأدب والاحترام لخصومه، فلم يترك فرصة إلا وانتهزها لقلب الموقف لصالحه. وكان ينهي كل نقاش بعبارة بسيطة التعبير، قوية المعنى، كي تبقى في ذهن المشاهد كنتيجة للنقاش. مثلاً قال لمنافسه كومو عندما اتهمه بقلة الخبرة “ما لا املكه في الخبرة، أستطيع التعويض عنه بالنزاهة، وما لاتملكه أنت من من النزاهة لن تستطيع أبداً أن تعوض عنه بالخبرة”. وعندما حاول كومو إساءة لفظ اسمه، طلب منه بحزم واحترام أن يتعلم اللفظ الصحيح. بل هجؤه له قائلا: إحفظ الاسم م ا م د ا ن ي. بعد ذلك أصبح هذا التبادل أغنية حماسية يغنيها كل مشجعيه. وعندما سأل مدير الحوار المرشحين عن أي دولة سيزورونها إن نجحوا بالانتخاب قال الجميع “إسرائيل”، لكن زهران كان الوحيد الذي قال “لن أذهب إلى أي مكان، سأبقى في نيويورك لأن مهمتي هي خدمة هذه المدينة ومواطنيها.” قد يبدو ذلك بديهياً، لكن انحياز الساسة الاميركان التاريخي تجاه إسرائيل أعمى أبصارهم عن تلك الحقيقة البسيطة.
ولكن ما هو المهم بالفوز بمنصب عمدة مدينة نيويورك، ولماذا تُعدّ نيويورك مدينة خاصة؟
نيويورك هي أكثر المدن شهرة في العالم، تتكوّن من خمسة أحياء رئيسية يقطنها حوالي ٨ ملايين من السكان. وهي غنية (ناتجها الاقتصادي السنوي ٢.٦ ترليون دولار وهو أكبر اقتصاد مدينة في العالم، اكبر من اقتصاد روسيا)، وهي عاصمة الثقافة والفن والإعلام وفيها مؤسسات عالمية وثقافية ودبلوماسية كبرى، وهي غنية بالسياحة ومركز للعقارات وراعية والفنون والإعلام والأزياء والابتكار. وتستضيف نيويورك مقرّ الأمم المتحدة، وتُعدّ مركزاً مالياً وعاصمة الاقتصاد العالمي (وول ستريت المعروف)، كما أنها وجهة رئيسية للهجرة وصانعة للتنوع الثقافي فهي غنية بتنوع سكانها فما يقرب من ٤٠٪ من السكان هم من المولودين خارج أمريكا، وسكانها يتكلمونها أقرب من ٨٠٠ لغة مما يجعلها اكثر المدن تنوعاً لغوياً. وفيها ١.٣ مليون يهودي، وهو أكبر تجمع لليهود في أي مدينة في العالم. فهي بذلك صورة مصغّرة للعالم الحديث تعكس قضاياه وتحدّياته من المساواة الاجتماعية إلى الابتكار الثقافي والتكنولوجي والعلمي. بالتالي فإن عمدة المدينة هو شخصية عامة بارزة، ومنصبه لا يقتصر على الإدارة فحسب، بل هو منبر لتشكيل أجندة سياسية واجتماعية واقتصادية. ويمتلك عمدة نيويورك صلاحيات تنفيذية كبيرة فهو يعيّن ويقيل رؤساء عشرات الهيئات والوكالات (منها الشرطة، والنقل، والإسكان)، ويتحكم في العقود العامة والميزانية والسياسات الكبرى. ونظراً لضخامة المدينة، فإن قرارات العمدة تؤثر على ملايين الأشخاص، وغالباً ما تمتد نتائج هذه القرارات خارج المستوى المحلي إلى الوطني والدولي بسبب مكانة المدينة العظيمة.
وكما هي العادة فبعد فوز مامداني فارت السوشيال ميديا بالتحليلات والتنبؤات خصوصاً بسبب عمره الصغير، وقلة خبرته في الإدارة، وكونه مسلماً. فهنالك الذين يقولون أن مامداني يساري اشتراكي (كما يدعي) ولا علاقة له بالإسلام من قريب أو بعيد. وآخرون هَجوه بطريقة طائفية بغيضة لأنه أتي من خلفية شيعية. من الصحيح أن زهران قد بنى حملته على أسس يسارية اشتراكية، ولكنه أيضاً أعلن بأعلى صوته أنه مسلم وأنه فخور بذلك، فهو لا يجد تعارضاً بين الأمرين. في واقع الأمر هو ينتمي لجيل جيد تربى في الغرب واستطاع أن يوّفق بين القيم الإسلامية وبين أسس الحضارة الغربية، فهو لا يعرف ذلك الانفصال المصطنع الذي يضع الإسلام في صراع ايديولوجي مع حضارة الغرب. ليس من الغريب إذا أن زهران لم يجد ضيراً في تحدي أساطين الحزب الديمقراطي عندما أعلن أن هدفه الاساس هو العدالة الاجتماعية الاشتراكية (وهي كلمة ملغومة في السياسة الأمريكية، يتجنبها الجميع حتى الديمقراطيون والمحسوبين على اليسار). وخرج عن خط الحزب بشكل أقوى بتسميته الأمور بأسمائها (في حين بقية قادة الديمقراطيين يجدون الأعذار الواهية ويغمغمون كلماتهم): فبالنسبة له ما يحصل في غزة هي إبادة جماعية، والاحتلال الاسرائيلي غير قانوني بل هو عنصري، واسرائيل لا تملك الحق في أن تكون دولة يهودية بل دولة مساواة لكل سكانها. هذه الدعوات كانت كفيلة بتدمير أي سياسي مخضرم في أمريكا فكيف برجل مغمور بعمر يافع، دون أي تاريخ أو خبرة، وفوق ذلك يعلن ذلك في المدينة التي تحوي أكبر تجمع يهودي في العالم.
وهنا يجب أن نعطي الفضل لمجموعتين في نجاح زهران فئ النهاية:
الأولى، والأساسية، هي مجموعة سكان نيويورك الذين صوتوا له، وخاصة اليهود منهم، هؤلاء الذين استطاعوا تجاوز نحرات الدين الضيقة واختاروا من رأوه الأفضل لإدارة مدينته بغض النظر عن (أو ربما بسبب) آراؤه الصريحة والشجاعة. هم يعرفون أنه سيعمل لمصلحة المدينة ومواطنيها بغض النظر عن دينهم وعرقهم ولونهم.
والثانية هي مجموعة الجيل العربي والإسلامي الجديدة الناشئة. فإن نظرنا إلى زهران المولود في كمبالا والذي عاش في كيپ تاون قبل انتقاله للولايات المتحدة، فوالده محمود هو بروفسور أكاديمي مختص بالعلوم السياسية وهو يدّرس في جامعة كولومبيا، ووالدته ميرا نير هي المخرجة السينمائية المشهورة التي أحرجت أفلاماً مثل عرس مونسون وميسيسپي ماسالا. زهران تخرج من فرع الدراسات الأفريقية وعمل كمستشار إسكان لذوي الدخل المحدود، وموسيقي (مؤلف ومغني) راپ بلغات أفريقية ممزوجة مع الإنكليزية، ثم انتخب ممثلاً عن مقاطعته في برلمان الولاية. أما زوجته راما فوالدها مبرمج كمبيوتر، ووالدتها طبيبة، وبعد أن عاشت في سوريا ودبي والولايات المتحدة، دعماها حين اختارت الفن كمهنة ودرسته في بيروت وباريس وأخيرا معهد الفنون الشهير في نيويورك حيث قدمت أطروحتها في “مشاركة أطباق الطعام كعمل جمعي” على الطريقة المعروفة في بلادنا. هذا الوصف هو لجيل يعرفه جيداً من لديه أولاد رُبّوا في الغرب، ويدرك تماماً ما أقصده، فهو يختلف عمن سبقه فهو منفتح وشجاع ونشيط، متعلم مثقّف ومفوّه، لا يخشى قول الحق ويؤمن بحقه في المساواة والعدل، وهو جيل إنساني قد تخطى حواجز الطائفية والوطنية والقومية فهذه الانتماءات الضيقة لا تعني له شيئاً. والدين بالنسبة له يغني من تجربته الإنسانية العالمية، ويزيد من تقبله لغيره بدلاً أن يرفضه أو يتحامل عليه. وفوق كل شئ هو جيل لا يؤمن بنظريات المؤامرة، ولا يبالي ما في طريقه من عوائق، فهو يؤمن أنه بالتحصيل الجدي والعمل المخلص والشجاعة يستطيع كسر القيود التي لم يجرؤ الجيل السابق له أن يلمسها.
لذلك أرى في زهران ابني، وفي زوجته بناتي، وأولاد وبنات أصدقائي ومعارفي من العرب ومن المسلمين. أنا متفائل بهذا الجيل الجديد الذي أتمنى أن يكون فيه قادة يحملون رسالة عالمية جديدة، ليس فقط في الغرب ولكن في بلادنا الأم أيضاً.