فنون وآداب

رحلَ عبد العزيز سعود البابطين وبقيت مكارمه وسجاياه

العربي القديم- مهنَّا بلال الرَّشيد

في هذه الأيَّام وبينما تستعدُّ الأوساط الثَّقافيَّة في العالم للاحتفال باليوم العالميِّ للُّغة العربيَّة في الثَّامن عشر من شهر (كانون الأوَّل- ديسمبر) فُجِعَ الوسط الثَّقافيِّ في العالم كلِّه برحيل الشَّاعر الكويتيِّ عبد العزيز سعود البابطين يوم الجمعة في الخامس عشر من (كانون الأوَّل- ديسمبر) عن عمرٍ يناهز سبعة وثمانين عاماً، قضاها المغفور له في خدمة أهله ووطنه وسائر الشُّعراء والمثقِّفين في الوطن العربيِّ والعالم، ونحن في هذا المقام نستهلُّ مقالنا بنقل التَّعازي الحارَّة لأهل الفقيد وأصدقائه ومحبِّيه ودولة الكويت الحبيبة ومثقِّفي العالم كلِّه. 

سيرة عطرة وهمَّة عالية:

تميَّز المغفور له -علاوة على شعره واشتغاله في الوسط الثَّقافيِّ- بثقافته وهمَّته العالية، الَّتي مكَّنته من التَّوفيق بين مشاغل رجلِ الأعمال النَّاجح والاهتمام بالشِّعر والشَّأن الثَّقافيِّ، فقد قرأ الرَّاحل معلَّقات الأدب الجاهليِّ، وشُغف بشعر الفحول منذ صباه، وقد عمل في وزارة المعارف الكويتيَّة منذ عام 1955، وتركها سنة 1962؛ ليقسم وقته بين إدارة الأعمال الحرَّة ومتابعة الشَّأن الثَّقافيِّ في الوطن العربيِّ والعالم، وراح ينشر قصائده في الصُّحف والمجلَّات، ثمَّ نشر مجموعتيه الشِّعريَّتين: (بوح البوادي) سنة 1995، و(مسافر في القفار) سنة (2004).

كان الرَّاحل عضواً بارزاً في كثير من الهيئات الثَّقافيَّة العالميَّة، وكان رئيس المعهد الأوروبِّيّ لحوار الثَّقافات في روما، واختارته الأكاديميَّة العالميَّة للشِّعر في فيرونا رئيسًا شرفيًّا لها خلفًا للشَّاعر العالميِّ ليبولد سينجور في 11-6-2011، وقد حصل على كثير من الأوسمة تقديراً لجهوده الثَّقافيَّة مثل: وسام الاستحقاق الثَّقافيِّ من الرَّئيس التُّونسيِّ سنة 1996، ووسام الاستقلال من الدَّرجة الأولى من ملك الأردن سنة 2001، ووسام الأرز برتبة ضابط من الجمهوريَّة اللُّبنانيَّة، وأوسمة وتكريمات أخرى كثيرة من السُّودان وإيطاليا وملك إسبانيا وحاكم عجمان ومالطا وجزر القمر وجامعة الكويت وجامعة الإسكندريَّة وجامعة قناة السُّويس وكلِّيَّة وجامعة الموليزي جنوب إيطاليا وجامعة ولدنبرج في بريطانيا وجامعة ميشيغان في أمريكا وجامعة محمَّد السَّادس في المغرب، ومنحته مؤسَّسة بلاد شنقيط للثَّقافة والتَّنمية في موريتانيا (بردة الشِّعر) ودرع بلاد (المليون شاعر) سنة 2012، واختارته اللَّجنة العربيَّة الأمريكيَّة لمكافحة التَّمييز العنصريِّ في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة شخصَّيَّة للعام 2012، وعيَّنوه سفيراً للنَّوايا الحسنة، واحتفى به كلٌّ من مجلَّة العربيِّ الكويتيَّة سنة 2003، ومعرض القاهرة الدُّوليُّ للكتاب سنة 2004، والاتِّحاد الدُّوليُّ للكُتَّاب في لاهتي بفنلندا واتِّحاد الكتَّاب التُّونسيِّين والبرلمان الأوروبِّيُّ في العاصمة البلجيكيَّة بروكسل، وحصل الشَّاعر الرَّاحل على تكريمات وجوائز كثيرة كجائزة الدَّولة التَّقديريَّة من الكويت سنة 2002، وجائزة توما الأكوينيِّ من جامعة قرطبة سنة 2010، وحصل على إحدى عشرة شهادة دكتوراه فخريَّة، ودرس تجربته الشِّعريَّة عدد كبير من الباحثين.

مؤسَّسات البابطين الثَّقافيَّة:

أنشأ الرَّاحل كلّاً من مؤسَّسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشِّعريِّ في القاهرة عام 1989، ومركز البابطين للتَّرجمة في بيروت سنة 2004، ومركز البابطين لحوار الحضارات في قرطبة سنة 2005، ومركز المخطوطات الشِّعريَّة في الإسكندريَّة سنة 2007، وحظي على مكانته الَّتي يستحقُّها عندما خصَّصت بعض الجامعات مقاعد لتعليم اللُّغة العربيَّة والثَّقافة الإسلاميَّة باسم كراسي عبد العزيز سعود البابطين في جامعات أوروبَّا وأمريكا وآسيا، وأنشأ مكتبة البابطين المركزيَّة للشِّعر العربيِّ في الكويت سنة 2001، وهي أكبر مكتبة للشِّعر للعربيِّ في العالم، وتضمُّ مئات الآلاف من الكتب والدَّوريَّات والمخطوطات والرَّسائل الجامعيَّة، ويؤمُّها الشُّعراء والكتَّاب والنُّقَّاد ورجالات الفكر والفنِّ والثَّقافة والأدب من كلِّ مكان، وتحظى بإطلالة هادئة ومميَّزة على الخليج العربيِّ، ويجد فيها الشُّعراء والباحثون ملاذاً جميلاً لهم ولعزلتهم الفنِّيَّة أو الإبداعيَّة بإطلالتها وهدوئها السَّاحر، وهي من الأماكن الرَّائعة بترتيبها الدَّاخليِّ وعمارتها الخارجيَّة، وتصلح لتصوير البرامج الثَّقافيَّة والفكريَّة بين رفوف كُتبها وفي ساحاتها وعلى مداخل أبوابها، وفي مسرح مكتبة البابطين يُعقد مهرجان ربيع الشِّعر العربيِّ في الحادي والعشرين من آذار كلِّ عام، وعلى هذا المسرح تُقام الأصبوحات والأمسيات الشِّعريَّة وتُلقى المحاضرات النَّقديَّة، وتُقدَّم المسرحيَّات العالميَّة والأفلام الوثائقيَّة والثَّقافيَّة.

جوائز البابطين ومواقفه الإنسانيَّة:

لم يحرص الرَّاحل الأصيل على الثَّقافة العربيَّة وحسب، وإنَّما اهتمَّ بالقضايا الإنسانيَّة كلِّها دون أيِّ استثناء، فبعد أيَّام من غَرق الطِّفل السُّوريِّ إيلان في البحر خلال نزوحه أنجز الشُّعراء المُحبِّين لمؤسَّسة البابطين ديوانًا عن مأساة إيلان، وهكذا كان دأبُ المؤسَّسة مع المسجد الأقصى قبلة المسلمين الأولى، ومع القدس الشَّريف عاصمة فلسطين وبيت مقدسهم، وقبل أيَّام قليلة من رحيل البابطين أعلنت مؤسَّسته عن مسابقة شعريَّة كبرى لمواكبة طوفان الأقصى بالإبداع الشِّعريِّ، وقد وقف البابطين مع القضايا الإنسانيَّة، الَّتي تنمُّ عن نزعته الإنسانيَّة العابرة للحدود والحواجز، وتجلَّى في شخصه الكريم نقاء الإنسان العربيِّ المحبِّ لقفاره وبواديه، وظهر ذلك في عنوان مجموعتيه الشِّعريَّتين: (مسافر في القفار) و(بوح البوادي)، واهتمَّ بنشر الشِّعر والفكر والعلم والأدب والثَّقافة والفنِّ من خلال جوائز مؤسَّسة عبد العزيز سعود البابطين لأفضل ديوان شعريٍّ وأفضل قصيدة شعريَّة وأفضل ديوان لأفضل شاعر شابٍّ ولشخصيَّة العام الثَّقافيَّة الَّتي تسهم بطريقة ملحوظة في تقدُّم الثَّقافة العربيَّة.

وقفة مع أخلاق الرَّاحل ومواقفه النَّبيلة:

يُجمع محبُّو البابطين على صفاته النَّبيلة الَّتي عزَّ أن تجتمع في شخص واحد هذه الأيَّام؛ فهو شاعر مضياف كريم ودود ودمث الأخلاق لطيف المعشر، وتعمر ديوانيَّته بمجالس الفكر والثَّقافة والأدب، ويواكب هذه النَّشاطات قناتان ثقافيَّتان تبثَّان كلَّ ما يَنْشُر القيم النَّبيلة والأخلاق الفاضلة في قناة البوادي وقناة البابطين الثَّقافيَّة، بالإضافة إلى مجالس مكتبة البابطين وجوائزه الإبداعيَّة، وإن صحَّ فيه قول الشَّاعر:

قد مات قومٌ وما ماتت مكارمهم   وعاش قوم وهم في النَّاس أمواتُ

إلَّا أنَّنا ونحن نعزِّي في هذا المقال عائلته وأصدقائه ومحبِّيه، ونعزِّي الثَّقافة والإنسانيَّة كلِّه بفقده، نرى أن نختم بيان التَّعزية هذا بقول البابطين رحمه الله تعالى:

سيذكرني قومي إذا الدَّارُ أحدقت         بها نازلات الدَّهر وهي تصولُ

ويذكرني الأصحاب ما دام في الورى     كِرامٌ لهم في المكرمات أصولُ

عزاؤنا أنَّك تركتَ إرثًا يصعب تجاوزه، وعزاؤنا أنَّك تركتَ أبناء كرامًا مثلك، يحقُّ لنا أنّ نعزِّيهم مع أنفسنا بفقدك، ونقول لهم: رحمة الله عليك أبا سعود، ومن خلَّف ما مات!

زر الذهاب إلى الأعلى