العربي الآن

رحيل الشيخ سارية الرفاعي: قصة لقائه مع حافظ الأسد وغربته عن دمشق

تنقل الشيخ سارية في غربته الأخيرة عن دمشق بين دبي وإسطنبول، لم يفقد إيمانه بانتصار الثورة ولا عدالة الله في إذلال الطغاة

كتب محمد منصور:  

أعلن في اسطنبول اليوم عن رحيل الشيخ سارية الرفاعي أحد علماء دمشق البارزين وأحد شيوخها المؤثرين خلال حقبة البعث المريرة، التي همشت فيها كل القوى الاجتماعية، وصار عليها أن تصارع هوامش الأمن والمنع والمصادرة، كي تحتفظ بالحد الأدنى من وجودها ومن مشروعها.

لقد آمن الشيخ سارية بالحكمة الدمشقية التي تصر على إيجاد هوامش في مواجهة الظلم دون تفريط بالثوابت والمعتقدات… وأذكر أنني في حوار لي معه كننت قد صورته معه في اسطنبول عام 2017  ولم يبث بسبب فقدان التسجيل المصور، أنه حدثني كيف أن مشروع حفظ النعمة الذي أطلقه في دمشق قبل خروجه منها عام 2012 كان بشكل من الأشكال مقاومة للطغيان عبر محاربة ثقافة الهدر، ومساعدة الناس على حفظ كرامتها عبر غعادة تدوير الفائض من الملبس والغذاء والدواء… وخصوصا بالنسبة للفئة الملتزمة دينياً الذين كان يصنفهم النظام تلقائيا في خانة أعدائه المحتملين والمستهدفين على الدوام.

في ذلك اللقاء حدثني الشيخ سارية عن لقائه بحافظ الأسد عام 1980 مع مجموعة من مشايخ وعلماء دمشق، في ذروة صدام السلطة مع الأخوان المسلمين. وأذكر أنه وصف شخصية حافظ الأسد بالدمث واللطيف جداً إلى درجة أنه حين استأذونه لأداء صلاة العصر بعد أن طال اللقاء، قال إنه يريد أن يصلي معهم… وكان واضحاً من ارتباك حركاته أنه لا يعرف شيئا عن الصلاة!

كانت دماثة ولطف حافظ الأسد هي جزء من تقيته الباطنية التي يتسم بها مجرم عريق في الإجرام والمكر والغدر كما فسرها له الشيخ سارية الذي تابع يقول إن حافظ الأسد قال لهم في ذلك اللقاء: أعرف أنكم تلتقون بالإخوان المسلمين وأطلب إليكم أن تنقلوا لهم الرسالة التالية: لا صدام حسين ولا الملك حسين يهمهم نصرة الإسلام أو إقامة حكم إسلامي في سوريا… ولكي تقوموا بانقلاب وتصلوا إلى الحكم فليس أمامكم سوى السيطرة على الجيش، وأنتم ليس لكم أي تواجد او قوة في الجيش”!”

بعد ذلك اللقاء كان على الشيخ سارية وشقيقه وثلة من علماء دمشق أن يخرجوا من بلادهم، لأن الرسالة الحقيقية التي كان يريد حافظ الأسد إيصالها لكل القوى الدينية، وليس لجماعة الإخوان المسلمين فقط، إما أن تكونوا في خدمة السلطان وبطشه واستبداده وهو يخوض معركة تثبت سلطته الطائفية واستبداده على الدولة والمجتمع أو لا تكونوا…

حدثني الشيخ سارية عن معاصرته لاستبداد البعث، وعن سجن عشرات من رجال الدين في سوريا في سجن المزة عام 1967 بعدج أزمة المقال المدسوس (المقال التي نشر حينها في مجلة جيش الشعب وكان فيه إنكار لوجود الله وأثار مظاهرات غاضة في سوريا كلها).. وأذكر أنه قال لي أن أحد الضباط البعثيين قال لهم حينها صراحة: إننا لن يرتاحوا حتى لا يسمعوا آذانا يرفع في الشام كلها

كان عليهم بعد ذلك بسنوات أن يختاروا النجاة بدينهم وكلمتهم عملا بقول الله تعالى في سورة النساء: “قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا”

وهاجر الشيخ سارية بين عامي 1980 و1993 وحين اندلعت ثورة السوريين في آذار عام 2012 كان أمام التحدي نفسه إما أن يكون من شيوخ السلاطين ويهاجم المتظاهرين السلميين ويفتري عليهم وعلى التاريخ فيزعم أن جباهم لم تعرف السجود، أو أن يبقى ويسجن أو يقتل أو أن يخرج مرة أخرى ليقول كلمة حق في وجه سلطان جائر,

وفي هجرته الثانية التقيت الشيخ سارية في دبي عام 2013 وكنا نتحدث في تطوير برنامج تلفزيوني يظهر ضيفا فيه في تلفزيون أورينت، وقد سألته عن إمكانية طرح الأسئلة الحقيقية للناس مثل ظهور حالات الألحاد والتقلب الحاد بين الكفر والإيمان لدى كثير من السوريين الذين شعروا بالخذلان أمام ما تصوروه تخلي العدالة الإلهية عنهم في وجه المجازر والقتل وظروف الاعتقال والتعذيب الوحشي وانتهاك الأعراض والحرمات وقصف المساجد… وأذكر أن الشيخ ابتسم ونظر في وجه مقدم البرنامج قائلا: هذا ما نريد ان نطرحه ونعالجه بالضبط: أسئلة الناس وهواجسها لا موضوعات مكررة نعيد اجترارها.   

ولمن لا يعرف… ولمن استسهل شتم مشايخ دمشق والافتراء عليهم ووصفهم ظلما بأنهم كلهم “مشايخ سلطان” فقد كان للشيخ سارية دور بارز في دفع تجار دمشق إلى الإضراب في أيار/ مايو  2012 بعد دعوته الشهيرة للإضراب عقب مجزرة الحولة التي ارتبكها شبيحة النظام السوري.. يومها نقلت صور كاميرات الموبايل قيام عناصر الأمن بتكسير أقفال المحلات بالمطارق الحديدية… ناهيك عن حملة اعتقالات انتهت بمحاصرة الوسط التجاري وإسكاته مرة أخرى، وفي عام 2013 وجه الشيخ سارية رسالة مصورة للسوريين ولأهل دمشق يبشرهم فيها بالنصر ومما قاله فيها:

“صبرا دمشق… صبرا يا أهل دمشق… صبرا يا من تعانون من القصف والتدمير والقتل والسحق لكن  دمشق ستنتصر لأنها انتصرت سابقاً، وقدمت جحافل الإسلام وفتحت الأمصار والأقطار فهي أعظم عاصمة لأكبر مملكة في الدنيا، لذلك لا تحزنوا ولا تخافوا ولا تفزعوا فالنصر قريب إن شاء الله “:

 الشيخ سارية عبد الكريم الرفاعي مولود في دمشق عام 1948م، ونشأ مع شقيقه الشيخ أسامة في كنف والدهما الشيخ عبد الكريم الرفاعي شيخِ ما يُسمى بجماعة زيد،  نسبة إلى جامع زيد بن ثابت في شارع خالد بن الوليد في قلب دمشق، حيث تمركزت نشاطاتهما الدعوية والخيرية.

درس الفقه الإسلامي وتخرج من كلية أصول الدين في جامع الأزهر، ثم حصل على شهادة الماجستير منها عام 1977م. عمل في مجال الدعوة الإسلامية وأسس العديد من المشاريع الخيرية، والنفعية، والاجتماعية في سوريا وخارجها، ومن أهم تلك المشاريع (مشروع حفظ النعمة، مركز زيد بن ثابت لخدمة القرآن الكريم، مشروع التميز لكفالة اليتيم، مؤسسة

تنقل الشيخ سارية في غربته الأخيرة عن دمشق بين دبي وإسطنبول، لم يفقد إيمانه بانتصار الثورة ولا عدالة الله في إذلال الطغاة مهما تكبروا وتجبروا على خلقه، وقد بدأ عام 2019 بكتابة مذكراته عن الثورة في سورية، التي صدر الجزء الأول منها في اسطنبول عام 2020 تحت عنوان (مذكرات في زمن الثورة) وجاء في 240 صفحة من القطع الكبير وقد أهدى مذكراته إلى: “كل غيور على دينه ووطنه وأمته، وإلى كل شاب رفع صوته بكلمة (الله أكبر) فأصابته رصاصة فأردته شهيداً” وقد عبر الشيخ سارية في الصفحات الأولى من مذكراته عن دهشته من اندلاع الثورة في سورية رغم شدة القمع والإجرام والطغيان الذي حكم به شعبها فقال: “لقد أخرسوا الألسن، وأرعبوا القلوب بما كنا نسمعه عن السجين في معتقلاتهم بما لا يمكن أن يصدق لولا أن عشرات الآلاف خرجوا يتحدثون عن الفظائع والتصفيات الجسدية بالتعذيب أو التجويع، عند ذاك أنى لأحد أن يكذب ذلك؟ ولعل الشاب يعتقل من جامعته أو الطريق، ولا يعلم أهله عهنه أي خبر، وربما يبحثون عنه في المستشفيات ومخافر الشرطة حتى فروع الأمن والمخابرات، وتمضى شهور ولا يصلون إلى أي معلومة عن ولدهم الذي ما عرفوا عنه سياسة ولا معارضة، ومشاكسة إلا أنه اصطدم مع بعثي أو علوي أو صاحب نفوذ في أجهزة الدولة”.

وقد أدخل الشيخ سارية المشفى قبل أشهر إثر إصابته بجلطة دماغية… وللشيخ سارية الرفاعي ستة أولاد أربعة ذكور وابنتين. ويمتلك ابنه عمار شركة إنتاج وتدريب إعلامي باسم (سكون ميديا) الذي كتب في نعي والده على صفحته على فيسبوك:

“يوم كنت أخشاه: الوالد في ذمة الله”.

لكن العزاء الوحيد… أن الشيخ سارية رأى تحرير دمشق وسقوط النظام الذي جاهر في مقاومته وفضح استبداده.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى