فلسطين بين الملك عبد العزيز والرئيس روزفلت
د. نمر فريحة
من المفيد إنعاش الذاكرة السياسية والتاريخية في هذه الأوقات الصعبة التي تعيشها القضية الفلسطينية، والضحايا الأبرياء الذين يسقطون يومياً. وبعيداً عن أي تضخيم وإثارة، أردنا أن نستعرض فترة تاريخية ترتبط بفلسطين صنعها زعيمان كبيران هما الملك عبد العزيز بن سعود والرئيس الأميركي فرنكلين روزفلت في أربعينيات القرن الماضي.
إذ بعد تدفق المهاجرين اليهود إلى فلسطين الخاضعة للانتداب البريطاني، خصوصاً مع بدء اضطهاد النازيين لهم، برزت مشكلة تفاقمت مع الوقت بشكل درامي. إذ إنّ وعد وزير خارجية بريطانيا بلفور (1917) شكّل وثيقة سيئة بحق الفلسطينيين لأنها تسمح وتشجّع على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين باعتبارها أرضهم الموعودة، والتي تمّ تشتيتهم منها على يد الرومان عام 70م.
وقد فاجأ انفجار الحرب العالمية الثانية دول العالم، وأثر بشكل مباشر على القضايا العالقة أو تلك التي كانت قيد التداول. إذ بدأ قادة الحركة الصهيونية في أميركا بالتواصل مع الرئيس الأميركي روزفلت، والضغط عليه لاتخاذ موقف مؤيد لقضيتهم التي تتمثل في إقامة دولة قومية لليهود في فلسطين، مستغلين ممارسة النازيين القاسية ضدهم في أوروبا. ومن ضمن إثارة موضوع فلسطين خلال الحرب العالمية الثانية، أبلغ سفير أميركا في القاهرة ألكسندر كيرك الرئيس روزفلت أن الملك عبد العزيز قد طلب إليه نقل اهتمامه للرئيس بأن ما تقوم به الصهيونية في أميركا ستكون له آثار سلبية على العلاقات العربية الأميركية.
وفي ربيع العام 1943، أرسل الملك رسالة إلى الرئيس يعبّر فيها عن قلقه والعرب جميعاً حول طموحات الصهاينة في فلسطين. وكان ردّ الرئيس في 26 أيار متضمناً عبارته الشهيرة التي تكررت في اللقاءات والرسائل وهي: “إنّ أي قرار لن يتخذ إلا بعد التشاور الشامل حول الموضوع (FRUS, 1943, PP.786-87) “. ووضّح ذلك بالقول إنّ وجهة نظر الحكومة الأميركية بأنه لن يكون هناك أي قرار يغيّر الواقع في فلسطين إلا بعد التشاور مع العرب واليهود. وكان هذا أول موقف رسمي واضح للحكومة الأميركية. وكأن الرئيس تأثر بما سبق وأعلنه اللورد سالزباري قبل سنة في مجلس اللوردات البريطاني. لكن حاول بعض النافذين اليهود في أميركا التأثير على الرئيس ليصدر قراراً مؤيداً لوجهة نظرهم أكثر مما يتحمل ذلك المبدأ من حياد.
مكتب للوكالة اليهودية في واشنطن
والتطور الذي حصل في شهر أيار من تلك السنة أيضاً، هو إعلان الدكتور وايزمن عن إنشاء مكتب للوكالة اليهودية في واشنطن، وتعيين ناعوم غولدمان رئيساً له. وهذا يعكس اهتمام القوة اليهودية بما يمكن أن تقدم عليه الإدارة الأميركية من قرارات حيث على القوة السياسية الصهيونية أن تكون موجودة كي لا يتم اتخاذ أي قرار لغير صالحها.
وفي هذا الجو الغامض، قرر الرئيس روزفلت إرسال المسؤول الأميركي (هوسكينز) ليقابل الملك عبد العزيز، ويحاول تأمين لقاء بينه وبين وايزمن، ليعمل الاثنان على حل للمشكلة التي بدأت تطفو على سطح السياسات المعقدة في خضم الحرب العالمية. واستندت الفكرة -كما يقول إيفان ولسون- بأن يتم دفع مبلغ عشرين مليون جنيه للملك مقابل قبوله بفكرة إنشاء دولة لليهود في فلسطين. ويقول مسؤول في قسم الشرق الأدنى في وزارة الخارجية الأميركية إنّهم شكّوا بقبول الملك عبد العزيز هذا العرض الذي هو بمثابة رشوة. وبالفعل رفض الملك لقاء وايزمن من دون معرفته بموضوع المال. (Wilson, p.36)
وفي أواخر ذاك العام، اعتبر الرئيس روزفلت أنّ ما يمكن فعله الآن هو إنشاء مجلس أمناء لفلسطين من مسلم ويهودي ومسيحي. وقام قسم الشرق الأدنى في وزارة الخارجية بوضع تصور لهذا الموضوع من أجل مستقبل فلسطين (Wilson,P.37). وهذا يدل على أنّ مقاربة الموضوع كانت دينية أكثر منها سياسية وثقافية وتاريخية. وما لبث هذا القسم أن قدم اقتراحاً آخر في السنة التالية (1944)، وهو أنّ المجموعتين العربية واليهودية يجب أن تشكلا كيانين سياسيين مستقلين مع صلاحية لإنشاء حكومتين محليتين. وربما هذا التصور كان خلف القرار الذي تبنته الأمم المتحدة عام 1947 بتقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية.
وعندما انتهت فترة الخمس سنوات التي بموجبها تسمح بريطانيا لليهود بالهجرة إلى فلسطين (1939-1944)، طلب روزفلت من بريطانيا تمديد هذه المهلة بعد أن اطلع على المذابح التي ارتكبها النازيون بحق اليهود (FRUS, 1944). هذا وكان روزفلت قد أرسل موريس آرنست في أواخر 1943 إلى بريطانيا حاملاً اقتراحاً بإيجاد مكان بديل لليهود عن فلسطين، وعاد مبعوثه ليخبره أنه وجد رفضاً مطلقاً للاقتراح من اليهود وبعض السياسيين البريطانيين الذين التقاهم. ومع بداية العام 1944، كان السياسيون اليهود يدفعون بقوة للتأثير على الرأي العام الأميركي والرئيس نفسه لتبني وجهة نظرهم، بأن تعلن الحكومة التزامها بالمساعدة على إنشاء دولة قومية لهم في فلسطين. وظهر تأثيرهم عندما تبنى الحزبان الجمهوري والديمقراطي خلال مؤتمرهما منفردين لاختيار كل منهما مرشحاً للرئاسة في صيف 1944 دعْمَ إنشاء وطن لليهود في فلسطين. وأيّد الرئيس روزفلت الذي شاء الترشح لفترة ثانية القرار. وكان هذا مؤشراً للعرب عن موقف أميركا، فعبّروا عن ارتيابهم نحوها بأنها منحازة لليهود على حسابهم.
لقاء جنوب السويس
وعند الانتهاء من مؤتمر يالطا مع ستالين وتشرشل في فبراير 1945، قرر الرئيس روزفلت لقاء الملك عبد العزيز ليبحث معه الموضوع الفلسطيني. والتقى القائدان جنوب السويس على ظهر السفينة كوينسي، ومما قاله الرئيس إنّه لن يفعل شيئاً لمساعدة اليهود ضد العرب، وفُسر موقف الرئيس بأنه ردة فعل على إصرار الملك بعدم التجني على حقوق فلسطين وشعبها. وعبّر الرئيس أيضاً بالقول أمام إحدى لجان الكونغرس بأنه تعلّم في خمس دقائق عن فلسطين (من خلال الملك) ما لا يمكن تعلمه في تبادل عدد كبير من الرسائل. لكن هذا الموقف لم يلتزم به روزفلت بشكل دائم، لأنه لا يستطيع تجنب الضغط المحلي من قبل الناخبين اليهود، وكان متخوفاً بأن صراعاً سينشأ بين العرب واليهود، وستسيل الدماء بين الفريقين، ويجب عمل شيء لتجنب الوضع. لكن رئيس الولايات المتحدة لا يمكنه تحديد المسار الذي ستتخذه التطورات في المنطقة، وإذ به بعد أشهر يخبر الكولونيل (هوسكينس) بأنه يوافق على دولة يهودية في فلسطين تُنشأ وتصان بالقوة. (See Wilson, p.51)
وفي هذا الوقت طلب الملك عبد العزيز من الرؤساء والملوك العرب إرسال رسائل احتجاج إلى الإدارة الأميركية بالنسبة لما يدور في واشنطن حول إنشاء دولة يهودية. وهكذا وصلت الرئاسة الأميركية سبع رسائل من الملك عبد العزيز، والأمير عبدالله في العراق، والأمير عبدالله في الأردن، والرئيس السوري شكري القوتلي، ورئيس وزراء لبنان رياض الصلح، والإمام يحي حاكم اليمن، ورئيس وزراء مصر محمد فهمي النقرشي. وفي رد روزفلت على الملك عبد العزيز في 5 أبريل (اسبوع قبل وفاة الأول 1945) عاد وأكد للملك ما قاله له خلال لقائهما جنوب السويس. هذا وكان قسم الشرق الأدنى في وزارة الخارجية يذكر الرئيس بمصالح أميركا النفطية مع المملكة السعودية، وأنه من الأجدى عدم إظهار أي تأييد مفرط لمجموعات الضغط اليهودية. ولاحقاً، أرسل الملك عبد العزيز رسالة إلى روزفلت يطلب فيها بأن تنشر واشنطن نص رسائله علناً حول فلسطين، فوافق الرئيس على ذلك، بالرغم من معارضة معاونيه خصوصاً (روزمان)، لكن وزارة الخارجية، وليس البيت الأبيض، من قام بذلك.
ردّ روزفلت
لكن ردّ الرئيس على رسالة عبد العزيز الأخيرة بالشكل التالي: «لقد تلقيت رسالة جلالتكم المؤرخة في 10 مارس 1945، والتي تدور حول موضوع فلسطين واهتمام العرب المستمر بالتطورات الحاصلة حالياً والمرتبطة بهذا البلد. تريدون جلب اهتمامي للموضوع وأنا اهتميت بذلك، كما أنني أتذكر المناقشات التي دارت بيننا منذ وقت قصير، حيث تسنت لي الفرصة لتكوين انطباع قوي عن مشاعر جلالتكم حول هذه القضية. وأعتقد بأنكم تتذكرون ما أوصلته لكم حول موقف الحكومة الأميركية من الموضوع الفلسطيني بأنه لن يكون هناك قرار من دون التشاور مع العرب واليهود. كما تتذكرون أيضاً أنه خلال حوارنا الأخير أكدت لكم بأنني لن أتخذ أي قرار يظهر وكأنه عدائي للشعب العربي. ومن دواعي سروري أن أجدد لجلالتكم التطمينات التي تلقيتموها بخصوص موقف حكومتي وموقفي الشخصي من القضية الفلسطينية، وإن سياسة حكومتي بشأن هذا الموضوع لم تتغير»…
وبعد أن انغمس روزفلت نسبياً في الموضوع الفلسطيني، عبّر عن توقعه بانفجار الوضع في فلسطين خصوصاً وأنّ المنطقة تعاني من الفقر، ومع انتهاء الحرب وانتهاء ولايته الثانية كرئيس، سيذهب وزوجته إلى هناك، ويقدم مشروعاً يؤثر بشكل فعال على ذلك البلد- فلسطين. وحتى أنّ مستشاريه وأصدقاءه اقتنعوا بأنّ روزفلت سيأتي إلى المنطقة، ويعيش فيها، ويرعى مشاريع تنموية لشعبها، ويحاول تجنيبها صراعاً دموياً ومتكرراً (As appeared in Bishop). وهذا يدل على عدم انحيازه الكامل لليهود، بل أراد حل قضية الشعبين من خلال المصالحة والتنمية. وذهب دايفيد نايلز، مستشاره ومن ثم مستشار الرئيس ترومان، بعيداً بالاستنتاج: لو أنّ روزفلت بقي حياً، أشك بأنّ إسرائيل كانت سترى النور (Wilson, p.56). وبعد سنتين ونصف من تولي (ترومان) الرئاسة، أصدر بياناً بأنّ الولايات المتحدة ملتزمة بإنشاء دولة يهودية. وهكذا كانت الولايات المتحدة أول دولة تعترف بإنشاء دولة إسرائيل في 14 مايو 1948، كما كانت تركيا أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل بعد أشهر من ولادتها. أما الملك عبد العزيز آل سعود، فلم يتنازل عن موقفه الذي أوضحه في لقاءاته ورسائله إلى الرئيس الأميركي.
مراجع تمت الاستعانة بها:
-Bishop, Jim, 1974, FDR’s last year. NY: Morrow.
– FRUS, 1943 &1944.
-Perkins, Frances, (1946) The Roosevelt I knew, NY: Viking Press.
-Welles, Sumner. (1948) We need not fail. Boston: Houghton Mifflin.
-Wilson, Ivan (1979). Decision on Palestine. Stanford: Hoover institution.
____________________________________
المصدر: عن (نداء الوطن) اللبنانية