شام إف إم وصغائر التفاصيل: إعلام “الفلول” هل سيغدو ثورة مضادة؟
لم تتوقف هذه الإذاعة، حتى الساعات الأخيرة من عمر نظام الأسد البائد، عن ممارسة تضليل السوريين
ناصر منذر – العربي القديم
اشتهرت إذاعة شام إف إم، منذ انطلاقها سنة 2007، بأنها “الإذاعة الفيروزية” في سوريا. حيث كانت تخصّص مساحات يومية كبيرة من بثّها الإذاعي، صباحاً ومساءً، لأغاني فيروز وزياد الرحباني ومسرحياتهما، وعلى هذا بنت قاعدتها الشعبية الكبيرة، في سوريا وبعض الدول العربية المجاورة. لتصبح، بعد انطلاق الثورة السورية 2011، أبرز وسائل الإعلام “الخاصة” الموالية لنظام الأسد[المخلوع، يا لجمال هذه الكلمة].
بقليل من البحث نكتشف أن صاحب الإذاعة الأول، الحارث يوسف، هو ضابط سوري سابق، وهو وشقيقه سامر، مدير الإذاعة، مقرّبان من بشار الأسد شخصياً. وكان قد ورد اسم “سامر يوسف” في فضيحة مرسوم لبناني، في عهد ميشال عون، لتجنيس سوريين مقرّبين من بشار الأسد، إلى جانب “سامر فوز” وآخرين. ويشير يوسف إلى قربه من بشار الأسد في مقابلة على إذاعته ذاتها سنة 2020، بعد الخلاف مع رامي مخلوف.
منذ انطلاق الثورة السورية لم تتردّد هذه الإذاعة في إعلان انحيازها لنظام الأسد، بل أنها استنزفت كل أعمال فيروز والأخوين رحباني وزياد في “التطبيل” للنظام. حتى أنها ثابرت على بثّ تحيّة يومية للجيش السوري بصوت فيروز وهيام حموي: “من شام إف إم للجيش العربي سوري، عندي ثقة فيك، وبيكفّي”. في الوقت الذي كان هذا الجيش، وحلفاؤه من الميليشيات الطائفية، يرتكبون المجازر في طول البلاد السورية وعرضها. بل بلغت صفاقتها، حدود الوقاحة والتشفّي بدماء السوريين، بأن تخرج علينا بكلمات “صباح الخير معضميّة” أو “صباح الخير داريّا /دوما /مضايا” في الوقت الذي كان العالم بأجمعه يتناقل أخبار وصور وفيديوهات مجازر جيش الأسد وميليشيات حزب الله وإيران التي حصدت أرواح العشرات من أبناء هذه البلدات بالذات!
تحية صباحية للجيش الذي كان يعرف كل العاملين في الإذاعة حق المعرفة أنه يقتل الناس ويرمي البراميل ويقصف المدارس والأسواق وأفران الخبر
دورٌ سابقٌ مُدان
طوال ثلاث عشرة سنة، التي رفعت فيها هذه الإذاعة شعار “شام إف إم للخبر مصدر”، لم تتطرّق ولو لمرة واحدة لمآسي السوريين الكبيرة، من مجازر البراميل، ومجزرة الكيماوي، واعتقال وتغييب وقتل مئات آلاف الأشخاص، وتهجير ملايين السوريين من قراهم وبلداتهم، ولم تُبدِ تعاطفاً حقيقياً ولم تَزُرْ أو تغطي أخبار ملايين اللاجئين السوريين في مخيّمات لبنان ومخيّم الزعتري في الأردن، وقد كان الأمر متاحاً لها طالما أن هذه الإذاعة تتبنّى رواية النظام السوري في أن “داعش والمنظمات الإرهابية” هي المسؤولة عن تهجير كل هؤلاء!
إن الخوف من سطوة الأمن السوري على وسائل الإعلام، لا تبرّر مطلقاً هذا التجاهل لكل هذه المآسي التي عاشها السوريون، فما بالك بالتماهي الكامل مع “بروباغندا” النظام القاتل، وتخصيص عشرات ساعات البث لاستضافة “أبواق” النظام ومسؤوليه وعملاء استخباراته، الذين دأبوا على التحريض الطائفي البغيض وتبرير القتل والجريمة، كما كان يفعل، مثلاً، “الباحث” و”المثقف” المخابراتي الشهير نبيل فيّاض، على أثير هذه الإذاعة.
هذا ليس خلافاً في الرأي والموقف السياسي، بل هو حقيقةً خلافٌ في الموقف الإنسانيّ والأخلاقيّ والمهنيّ، لا يمكن لأي إنسان عاقل وسويّ أن يتجاوزه.
أقذر الشبيحة ونجوم دعم جرائم النظام كانوا ضيوفاً دائمين على استوديوهات الإذاعة المسمومة
لم تتوقف هذه الإذاعة، حتى الساعات الأخيرة من عمر نظام الأسد البائد، عن ممارسة تضليل السوريين، كل السوريين، حتى الموالين منهم، بتبنّيها للبيانات الكاذبة لقيادات الجيش السوري الذي “يتصدّى للإرهابيين”، وترويجها لتصريحات المسؤولين الأمنيين، كوزير الداخلية، وحديثه عن “طوق أمني حول العاصمة لا يمكن كسره”. أو تصريح محافظ ريف دمشق، أو تصريح محافظ حمص. مع الانتباه لتوقيت نشر هذه التصريحات، في آخر ساعتين من يوم 7/12/2024، ليتفاجأ أهالي دمشق بهروب الأسد وكبار قياداته العسكرية والأمنية مطلع فجر يوم 8/12/2024، وتعيش العاصمة بعدها يومين من الفوضى والخراب والسرقة والتفجير والحرائق، تتحمّل شام إف إم جزءاً كبيراً من مسؤولية حدوثه بسبب تضليلها الدائم، بما أنها “للخبر مصدر” كما تدّعي.
وكانت، قبل عدة أيام، بـ “مهنيّتها” و”مصداقيّتها” المعهودة، قد فعلت الأمر ذاته مع أخبار مدينة حماه، وقبلها كذلك مع حلب: تبنّي خطاب النظام، عبر تصريحات مراسليها وتأكيدهم على “صد إرهابيي القاعدة”، وبعد ساعات، يعود المراسلون ليتحدثوا عن “إعادة تموضع” وإلخ من هذه المسرحية المكرورة التي شهدناها ساعة بساعة.
تضليل حتى الساعات الأخيرة من عمر النظام
… ودور لاحق “مشبوه”؟
لعلّ أكبر خطر يواجه سوريا والسوريين اليوم، كما أشار الكاتب السوري ياسين الحاج صالح، يتمثّل في “فلول النظام الأمنية والعسكرية، مع رعاة إقليميين”. فقوى الثورة المضادة “لا شك أنها ستبدأ، أو بدأت سلفاً، بمحاولة التطويق وربما الدفع للانهيار”.
يحق لنا اليوم، بل هو واجب علينا، أن نتخوّف من ثورة مضادة، قد تكون شام إف إم إحدى قواها. فبعد كل ما شهدناه من دورها الإعلامي في السنوات السابقة، ومع معرفتنا بارتباطات أصحابها والقائمين عليها برأس النظام السوري وأتباعه ومخابراته وحلفاءه، يحق لنا أن نتشكّك ونتخوّف من أي دور مستقبلي ستلعبه هذه الإذاعة، مع فضائيتها، ومنصّاتها الاجتماعية، التي تضم ملايين المتابعين (صفحة الإذاعة على فيسبوك لديها 1.4 مليون متابع).
سيما وأن آخر منشور لصفحتها الرسمية عصر يوم 8/12/2024، أي بعد تأكيد سقوط النظام، كان بياناً كاذباً للخارجية الروسية يفيد بأن “بشار الأسد قرر الاستقالة من الرئاسة ومغادرة البلاد معطياً أوامر بالانتقال السلمي للسلطة”! أي أنها تمارس، وبكل صفاقة، الكذب والتضليل وتلميع صورة نظام الأسد المجرم حتى بعد هروبه وسقوطه وزوال سطوته الأمنية!
مأزق شام إف إم مع الأسد الهارب بين 2010 و 2024
كانت فضائية شام إف إم، مطلع سنة 2010، قد أوقَفت شريطها الإخباري، بحجّة أن “خللاً تقنياً أصاب القسم الأعلى من شاشتها”، في حين بقي، في قسم الشاشة الأسفل، الشريط الذي يعرض رسائل المشاهدين.
وتم التداول حينها أن وزير الإعلام، محسن بلال، هدّد بإيقاف بث الإذاعة على موجة FM في سوريا. أما السبب الحقيقي، والذي سمعتُه من شخص كان يعمل مذيعاً في شام إف إم حينها، أن ذلك حصل بسبب إيرادها خبراً في شريطها الإخباري يتحدث عن “هروب أسدٍ من قفصه في حديقة حيوان”!
ولسخرية القدر، وبعد أربعة عشر عاماً من تلك الحادثة، يهرب حيوان آخر، يقال له “أسد” أيضاً، وكانت إذاعة شام إف إم تفتخر به “رئيساً” لسوريا، فتضطر هذه الإذاعة لإيقافٍ مؤقتٍ لبرامجها وتغطيتها الإخبارية “ريثما تصبح الحالة العامة مستقرة وآمنة”. من دون أن أية إشارة لهروب هذا “الأسد”!
“الحريّة” لشام إف إم؟
يوم 9/12/2024، أوقَفت شام إف إم برامجها وتغطيتها الإخبارية، لتعلن بعد أربعة أيام فقط، عن عودتها للتغطية الإخبارية للأحداث في سوريا “بعد استقرار الحالة الأمنية في عموم البلاد”. لكن وزارة الإعلام في حكومة الإنقاذ تعلّق هذه العودة، دون إيضاح السبب. لتنطلق حملة إعلامية عريضة تطالب بالحرية لشام إف إم، شملت: سكاي نيوز، جريدة الأخبار، جريدة النهار، إرم نيوز، وغيرها. مع الإيحاء بأن هذه الإذاعة وقعت ضحية لقمع السلطة الحالية كما كانت، ويح قلبي، ضحية للنظام السابق!
لتستأنف بث برامجها وتغطيتها الإخبارية بدءاً من يوم الأحد 22/12/2024 برسالة متعاليةٍ مستفزّةٍ موجهةٍ إلى السوريين!
رسالة شام إف إم إلى السوريين و”صغائر التفاصيل”:
بصوت هيام حموي تتوجه شام إف إم برسالة إلى السوريين تتدّعي فيها أنها لطالما كانت “تنطق بلسان أهل البلد (..) وكانت صوت الناس المتعبين في حياتهم اليومية (..) وكانت سنداً للبائسين” بل وأنها “ما نطقت طيلة وجودها إلا بكلمة الحق (..) في سبيل المبادئ الإنسانية الأعلى: الحق والخير والجمال، أركان الإيمان المطلق بالحياة وبالله”. لتطلب من السوريين ختاماً: “بالله عليكم، لا تظلموها بصغائر التفاصيل والخلافات، ولتعلو كلمة الوطن فوق الجميع”.
نعم، بالله عليكم أيها السوريون، لا تظلموا شام إف إم بصغائر التفاصيل، كالحديث عن زنازين الأسد وسجونه ومعتقلاته ومراكز تعذيبه ومئات أفرعه الأمنية، التي اعتقلت أطفالاً ورُضَّع، والتي سُلخت فيها جلود أبنائكم، واقُتلعت عيونهم، وهُشمت أضلاعهم، وسُلبت حيواتهم تحت بساطير ضبّاط الجيش السوري الذي كانت تثق به. نعم، بالله عليكم، لا تشغلوا شام إف إم بدموعكم وعذاباتكم وعويل أمهاتكم وبناتكم خلال بحثهنّ الطويل عن عظام أبنائهن في مقابر الأسد الجماعية المنتشرة في طول البلاد وعرضها، “شمالاً جنوباً، شرقاً وغرباً، سهولاً وودياناً، بوادي وفيافي” وفق لغة الحموي المتحذلفة!
إن إيمان شام إف إم المطلق بالحياة، لا يشمل حياتكم أيها السوريون، ولا يلتفت إلى الآلاف منكم الذين ما زالوا منذ يوم سقوط الطاغية، يتوافدون إلى دمشق، ويفترشون ساحاتها، رافعين صور أبنائهم المختطفين والمغيبين قسراً منذ سنوات، على أيدي مجرمي جيش الأسد.
حياتكم وموتكم ومآسيكم هي “صغائر تفاصيل وخلافات”، ليست من شأن “صوت الناس المتعبين”. فقضية “سَند البائسين” الأولى هي “سوريا دولة مدنية” وكفى.
عن الحاجة للخجل قبل الاعتذار
بعد أكثر من ثلاثة عشر عاماً، لم ينسَ صحفيو العالم سقطة مجلّة “فوغ” الشهيرة، مطلع العام 2011 عندما خصصّت غلافها لزوجة الأسد [الهارب، مرة أخرى وأخرى] تحت عنوان “أسماء الأسد: وردة في الصحراء”. فها هو الكاتب الأميركي ديفيد كريستوفر كوفمان يطالب، في مقالته الأخيرة، منتصف الشهر الجاري، رئاسة تحرير المجلة بالاعتذار من الشعب السوري.
بينما، أشهر أبواق النظام، إذاعته الأكثر انتشاراً والأكثر التصاقاً بقبح دولته وجرائمه وصنّاع وتجّار مخدّراته، لا يعنيها شيء من هذا، فهي ليست معنيةً بأية مراجعةٍ أو مكاشفةٍ أو اعتذار أو تبريرٍ أو إقرار بمسؤوليةٍ أو اعترافٍ بخطأ أو إدانة لجرائم أو طلب لعدالةٍ. فحسبها، أن صوتها موشّى بصوت فيروز، ألا يكفيكم هذا؟