أرشيف المجلة الشهرية

صناعة (الصورة العطريّة) بين الأعشى ونزار

العربي القديم – د. فطيم دناور

غالباً ما يقترن العطر بالغزل؛ فالعطر جانب من سحر الأنوثة، ولا تخلو قصيدة أو مقطوعة غزلية قديماً أو حديثاً من الإشارة إلى عطر المحبوب. ولأن الشعر “كلام مخيّل” يرسم الصورة بالكلمات أخذ العطر حيزاً بارزاً في لوحة الغزل، حتى اختصّ بلوحات مستقلّة. وكما تطوّر النّظم مواكبًا تطور الفكر البشري، تطورت كذلك أنواع الصورة الفنية، ومنها الصورة العطريّة، حتّى إذا وصلت إلى يد نزار قباني أضحى فيها صانع عطر نسائيّ ساحراً.

هذا ما نحاول الإحاطة به على عجالة، من خلال الوقوف على واحدة من أبرز الصور العطريّة في الشعر الجاهلي القديم ممثلاً بمعلقة الأعشى، قبل التحليق في فضاءات الصورة العطريّة عند نزار.

من أكثر الصورة العطريّة القديمة اكتمالًا ما نظمه الأعشى في معلقته، إذ يصف فوح عطر محبوبته هريرة، فبعد أن وصف قوامها وطلتها ومشيتها، فقال:

إِذا تَقومُ يَضـوعُ المِســـــكُ أَصــــوِرَةً                             

وَالزَنبَقُ الوَردُ مِن أَردانِها شَمِــــــــلُ

ما رَوضَةٌ مِن رِياضِ الحَزنِ مُعشَبــَةٌ                 

خَضراءُ جادَ عَلَيها مُسبِلٌ هَطِــــــــلُ

يُضاحِكُ الشَمسَ مِنها كَوكَبٌ شَرِقٌ                    

مُـــــــؤَزَّرٌ بِعَميمِ النَبتِ مُكتَهِــــــــل

يَوماً بِأَطيَبَ مِنها نَـــــشرَ رائِحــــةٍ                   

وَلا بِأَحسَنَ مِنها إِذ دَنا الأُصُـــــــــلُ

الأعشى في هذه الأبيات يصور ولا يصف، يرسم عطر المحبوبة لوحة بصرية، ليقربه إلى مخيلة السامع، فيشكل صورتين متناظرتين: الأولى صورة عطر هريرة، والثانية صورة الروضة الشذية.

  في الصورة الأولى غدت أردان المرأة زجاجة عطر تنفح رذاذَ مستخلصِ الزّنبق الناضج، وهو ما بينته لفظتا (أصورة، شملُ)، ولا يفوت شاعر الخمر والنساء أن يبيّن توقيت ذلك النشر العطري، وهو وقت الأصيل، فمحظيته امرأةٌ مترفة كسولةٌ تستيقظ متأخرةً، وتقابل الناس في هذا الوقت.

أما الصورة المناظرة، فهي روضةٌ استحضرها بالتداعي الذهنيّ، ليضع السامع تحت تأثير العطر. هذا المشهد الطبيعيّ رأى فيه بعض النّقاد استطرادًا، وانشغالًا عن الموضوع الرئيس، في حكم لا يخلو من تعجل وإجحاف؛ وبيان ذلك أن الأعشى حين استحضر الروضة ظلّ في المدى الشعوري الخاص بعطر المحبوبة، وما يتركه ذلك العطر من أثر في النفس يضاهي ما يتركه شذى الروضة، والجانبان يدخلان الشاعر في نشوةٍ تفصله عن الواقع، وتحلّق به في فضاء المتعة. ومن عادة العرب في المقارنة أنّهم إذا أرادوا رفع المشبه إلى مرتبه المشبه به، يستعملون عبارة: “ليس كذا (مشبه به) بأفضل/ بأحسن/ بأسوأ.. من كذا (المشبه)” مبالغة في التّشبيه وتشريفًا لمرتبة المشبه، أو حطاً منها.

وفصّل الأعشى بأوصاف الروضة، حتى تمثلت في مخيلة القارئ، فهي روضة بارزة عما حولها، تضيئها الشمس من جوانبها كافّة، جادَ عليها الغيث وأعدّها، حتى تخرج مختلف النّبات والزهور، فتملأ المكان عطرًا، وهي مع كل ما تمتّعت به من تميّز الموقع والرواء والدّفء، وما نبت فيها من مختلف الزّهور الشذية، لا تتفوق على محبوبة الأعشى بطيب نشرها، ولا بجمال مرآها.

وللصورة قراءة أخرى، فالتداعي جرّ خيال الشاعر من العطر إلى الروضة، وهي حالة طبيعية يساق لها خيال المرء عند شمّ الطيب.

وبعد مراحل من تطور الصورة الفنية كبتْ في بعضها، وانتصبت في أخرى، وصلت إلى يد نزار قباني صانع الصورة (بل صانع اللغة الشعرية) شكّلها على طريقة صنّاع العطور، ومع أن الشاعر لم يضع عنوانًا شميًا لقصيدته، إلا أنّ القارئ يحلق مع سحائب العطر فيها إلى مناطق قصية في الإحساس، يقول في قصيدته “حوار مع سفرجلتين”:

لجسمِكِ عطرٌ خطيرُ النوايا..

يقيمُ بكلِّ الزّوايا..

ويلعبُ كالطِّفل تحتَ زجاجِ المَرايا..

يعيشُ على سطحِ جِلدي شُهوراً.

كما وردة في كتابْ.

ويضحكُ مني،

إذا ما طلبتُ إليهِ الذهابْ..

يُعَربشُ عطركِ فوقَ الرفوفِ،

وفوقَ الخزائنِ،

يمشي بكلِّ الدهاليز،

يجلسُ فوقَ البراويز،

يفتح باب الجوارير، ليلاً

ويدخلُ تحتَ الثيابْ..

 هنا يبرز العامل الدرامي، فيحوّل الصورة إلى مشهد تمثيليّ ينبض بالحياة، يتشخّص فيه العطر الأنثوي، ويتحوّل إلى كائن هلامي انبثق من جسدها، كما انبثق من مصباح علاء الدين قبلًا، لكنه مارد مشاغب متمرّد، يخاتل الشاعر، ويلعب معه، بكلّ ما تحمله كلمة (اللّعب) من شقاوة ومرح، فهو:  يقيم- يلعب- يعيش- يضحك- يعربش- يمشي- يجلس- يفتح- يدخل، يفعل كل ما يحلو له، حتى يملأ على  الشاعر المكان، فلا يترك له موضعًا في امتلاء، أو فراغ لا يدخله، ولعلّ القارئ لا يخطئ الوجه العجائبي لشخصية نزار، من خلال تشخيص نسيم العطر، في كائن له تلك القدرات على الحركة والتحوّل والنّفاذ.

ولا تقتصر قدرات ذلك الكائن على ملء المكان والعبث به، بل يرافق الشاعر كجنيّ قرين:

لجِسْمِكِ رائِحةٌ لا تُريدُ السفرْ..

تطاردُني، كرجالِ المَباحِثِ، ليلاً نهاراً..

وتَدخلُ في الجِلدِ..

مثلَ القضاءِ، ومثلَ القَدَرْ.

فتجلسُ في أيِّ مقهىً جَلَستْ.

وتعبرُ أيَّ رصيفٍ عبرتْ..

وتقرأُ أيَّ كتابٍ قرأتْ..

وتمشي معي، حينَ تصحُو السَّماءْ

وتمسكُني من يديَّ.. حينَ يَهْمِي المطرْ..

….

لجِسْمكِ عِطرٌ..

شديدُ الذَّكاءِ، كَثيرُ الغَرابهْ

يشابِهُ صوتَ الكَمَنْجَاتِ حِيناً

وحيناً يشابِهُ صوتَ الرَّبابَهْ..

يُشاركُني في صِياغةِ شِعري

ويدخُلُ يبني وبينَ الكتابَهْ..

يكرر نزار قوله “لجسمِك”، لكنه تارةً يستعمل كلمة “رائحة”، وتارة يستعمل “عطر”، ليترك القارئ في حيرة: أهي رائحة الجسم، أم شذى عطرٍ مضاف، أم اختلط الأمر على الشاعر ذاته؟! وفي هذه المرحلة يتطور سلوك الكائن الخرافي، فلا يلزم المنزل، بل يتلبّس صاحبه كجنيّ، ويرافقه كقرين، فتارة يخرج مع الشاعر، يجلس، ويعبر، ويمشي، ويمسكه من يده، وتارة يدخل تحت الجلد مثل القضاء والقدر، فيدخل بينه وبين الكتابة، ويشاركه في صياغة شعره. ولعلّ الشاعر يشير إلى مفهوم الشّيطان الملهم الذي يتجلّى له، وينفث في روعه الشعر، كما كان يفعل شيطان الأعشى سابقًا.

وكما الأعشى، لجأ نزار إلى التّشبيه، ولكن بأدواته المتطوّرة وبلمساته السحرية، فراسل بين الحواس، حتى غدا المشموم مسموعًا، ولا ضير، فالنشوة التي يتركها صوت الكمنجة، أو الربابة في الدماغ تشبه النشوة التي يسببها عطر المحبوبة، كلاهما يسرقك من لحظتك الراهنة، ويحلّق بك على أجنحة الخيال.

وإن تلبّسه ذلك المارد نهارًا، لا يعتقه ليلًا، ولا يغيب عن وعيه بل يقضّ مضجعه، حتى إذا تمكّن من السيطرة على ذهنه أدخله في سكرة صوفية، فامتلأ شعرًا يدفعه إلى الكتابة، فالعطر هنا هو الشيطان الذي نفث في روع نزار الشعر:

لعِطرِكِ ظِفرٌ طَويلٌ.. طويلْ

يغُوصُ بلحْمي

ولَحمِ الشَراشِفِ ليلاً

ويمنعُني أن أنامْ..

أحاورُ ليلاً.. سفرجلَتين دِمشقيَّتينْ

فأكتظُّ بالعِطرِ، قبلَ ابتداءِ الحِوارْ.

وأكتظُّ بالشِّعر، بعدَ انتهاءِ الحوارْ.

يصعب تجاوز اختيار “السفرجل” (مع التحفظ على ما تشير إليه اللفظة)، وما تتمتع به هذه الفاكهة من رائحة عطرية جذابة، لا تخفى على أحد، وخصوصًا الدمشقيّ منه. في هذه المرحلة من شخصية المارد، يغدو أشبه بزجاجة عطر كبيرة، يدخلها الشاعر طواعيةً، ويتزود منها بقطرة، ليغزو أعالي البحار، وهنا يصبح الشاعر هو المارد الخارق:

فيا امرأةً حَاصَرتْني طَويلاً..

بعطرِ السَفرْجَلِ..

فمنْ قالَ إنِّي أضيقُ بهذا الحِصَارْ؟

ومَنْ قالَ إنِّي أخافُ مواجهةَ الموجِ والعاصفة؟

فإنِّي بقطرةِ عطرٍ صغيرهْ

سأغزو أعَالي البِحارْ!!

ويتحكم المارد (العطر) بالشاعر، فيدخله في حالة سُكر، كما يفعل النبيذ المعتّق، يسرح به في عوالم وكواكب بعيداً عن الواقع وفوق كلّ واقع، وهذا لا يمكن، إن لم تتجمع في ذلك المارد كلّ الأنوثة، بطغيانها وسطوتها:

لجِسمكِ عطرٌ به تتجمع كلُّ الأنوثةِ..

وكلُّ النِساءْ..

يدوِخُني كالنَّبيذِ العتيقْ

ويزرعُني كَوكباً في السماءْ.

ويسحبُني مِن فراشي

إلى أيِّ أرضٍ يشاءْ.

وفي أيِّ وقتٍ يشاءْ.

وحتى ينجلي للقارئ شيءٌ من ذلك الهذيان، وبعضٌ من أسباب تلك القوة الخارقة لذلك المارد، يشير نزار (الهائم بالشام أبدا) إلى بواعث تلك القوة وأسبابها، فنزار لا يسكر، إلا بالروائح الشامية (خوخ، وتين، ولوز، وماء… وربيع، وبن، وبرتقال) هذه الروائح تفعل في عقل نزار ما يفعله الخمر بالمخمور، أو السحر بالمسحور، أو الأنشودة بالصوفي، فيسكر بهذا النبيذ العطريّ، ويحلق به في أي أرض يشاء. وهو في كل ذلك مسلوب الإرادة، مجرّد القوى، ضائع لا يفرق بين جنوب وبين شمال، ودلت كلمة “تجتاحني” على ما أسميناه تلبساً، فهي تأتي عليه كلّيًّا:

لجسمِك رائحةُ الشَّام، تملأُ صدري

فخَوخٌ.. وتينٌ.. ولوزٌ.. وماءْ..

فكيفَ أشُمُّ على شَفتيكِ الربيعْ؟

ونحنُ بعزِّ الشتاءْ؟

….

أنا ضائعٌ تحتَ أمطارِ عطرِكِ

بينَ الجنوبِ، وبينَ الشّمالْ..

وما بين رائحةِ البُنِّ تجتاحُني

ورائحةُ البرتقالْ..

سلامٌ على شامةٍ في ذارعكِ

تغفو كحبة هال..

ثم يتطوّر المارد، فيصبح هو الحبيبة ذاتها، فالمرأة التي كانت في البداية جسدًا يرسل ماردًا من عطر، غدت كائناً من عطر، لأجله يكتب، ولأجله يتكلّم، فلأجل المحبوبة وُجد الشعر، ووجد الكلام، بل هي الكلام، ومسك الختام، كلّ ذلك لسبب واحد هو “الحب”:

أحبكِ يا امرأةً

هي عطرُ العطورِ.. ومِسكُ الختامْ.

لأجلكِ..

كانتْ أهمّ القصائدِ عبرَ العصورْ..

وكانَ أهمّ الكلامْ..

وهكذا اتضح تطور الصورة العطريّة، من صورة طبيعية ربيعية ساكنة بهيجة الألوان عند الأعشى، إلى صورة درامية بطلها العطر، وهو بطل ملحمي يتصرف بانفراد وسطوة، يلهم، ويسيطر ويمنح، والشاعر أمامه مسلوب الإرادة منصاع، لكنه سلب وانصياع محبوب يمنح الشاعر ما لا يمنحه أي شيء من القوة الشعرية الوجودية.

والشاعر في كلتا الحالتين ابن بيئته ونتاج عصره، فما كان جميلاً رائقاً في عصر الأعشى، لم يعدْ كذلك في عصر نزار، وفي كلتا الحالتين أيضًا، كان الشاعر صانعاً للصورة مبتكرًا لتفاصيلها تحت مظلة على مسرح “ذوق العصر”.

___________________________

من مقالات العدد السادس من مجلة (العربي القديم) الخاص بالذكرى المئوية لميلاد نزار قباني – كانون الأول/ ديسمبر 2023

زر الذهاب إلى الأعلى