فنون وآداب

شقائق النعمان تتفتح في هامبورغ

محمد المير إبراهيم – العربي القديم

من منا لم يُغرم بتلك النباتات التي اعتدنا رأيتها في فصل الربيع، وهي تغطي ذلك اللون البُني قاس الملامح في فصل الشتاء أو الصيف؟

في طفولتي كان اسمها (الشق شقيق) لاحقاً بدأتُ أدركُ ما خلف هذا الاسم من حكايا وحتى أساطير. المُدهش أنني وُلدت في بلاد للزهور فيها حكاية.

*الحكاية الأولى:

 كانت عن تموز، حين عصى وصية حبيبته عشتار، ورمى خنزيراً بريّاً برمحه لكن لم يقتله، فكرَّ عليه الخنزير وعضه في فخذه عضةً قاتلة. سمعت عشتار صرخات تموز، فجاءت برحيق زهرة جميلة وسكبته على دمه المسفوك، مرددةً أن حكايته ستجسدها الارض كُل عام، زهرة نبتت في دمه حينها.

*الحكاية الثانية:

 هي معنى الاسم “شقائق النُعمان” سُميت كذلك لأنها لا تنمو فرادى، بل تظهر وتنمو في جماعات.

*الحكاية الثالثة:

علاقتها بالنعمان ابنُ المُنذر ملك الحيرة، إذ نبتت على قبره المُبلل بدمع شقيقاته الباكيات  بعد أن داسته الفيلة على يد جنود كسرى فعرفت باسمه.

***

البارحة حضرتُ حفلاً غنائياً لمجموعة من السيدات السوريات، من الجيل الأول الذي هُجِّرَ من سوريا بعد انطلاق الثورة السورية. أطلقوا على أنفسهن اسم كورال أورسينا URSINA  اسمٌ مستوحى من اللغة السريانية، يعني بِلاد القمر.

 لطالما تلقيتُ هذا النوع من الأنشطة الإجتماعية على أنها محاولة للنجاة ، بعد المقتلة العظيمة التي شهدتها بلادنا سوريا.

شخصياً تولدت في داخلي ردةُ فعل حادة اتجاه معظم محاولات النجاة التي اتبعها غالبية السوريين في المنفى وفي الداخل.

كُنت أشعر بالحزن الممزوج بالغضب والأسى، لم أستطع فهم الحالة الطبيعية التي يعيشها أيُّ تجمع بشري أُخضع لما خضع له.. الشعب السوري خلال ثلاثة عشرة عاماً. لم أفهم أن الهروب والتعويض بأي وسيلة مُتاحة، هو آلية نفسية دفاعية جمعية، تستخدمها شعوبٌ بأكملها لا أفراد فقط.

النقطة الثانية كانت انعدامُ الأصالة. غيابٌ تامٌ للذات بحجة التعويض عن غيابها.

النتيجة كيانٌ مُشوه خالٍ من كل شيء.

*سَمِعتُ بهن من خلال دائرة المعارف والأصدقاء البسيطة التي امتلكتها خلال ثمانِ سنين عشتها في شمال ألمانيا.

*مميزٌ ما امتلكوه من إصرار والتزام مخيفين، فهن سيدات وآنسات التقوا واجتمعوا على الغناء.

كُل واحدة منهن لديها التزام في العمل، في الأسرة، مع عوائلهن، أطفالهن، دراستهن.

تابعتُ مشوارهن منذ البداية، طاقة جبارةٌ تُختزل في المرأة لطالما أدهشتني.

 رُبما هي طاقة الأرض، هي طاقة الحياة. أو كما أسموها أجدادنا السومريين تِعامة.

 *رَميت بكل ماسبق من كلام خلف ظهري ،دخلت القاعة الكبيرة في الموعد المُحدد، أعصابي مشدودة، متوجس. رُبما هو الخوف. الخوف من صِحة ردة فعلي وواقعيتها. لا أعلم

تقدمت احدى المسؤولات عن تنظيم الحفل وقدمتهن. خرجن تِباعاً، وقفنَ جنباً إلى جنب، وبدأن بالغناء. ارتدين اللون الأسود مع شال بلونٍ أحمر.

أُخِذتُ لمدة خمسٍ وأربعين دقيقة، كُنَّ يتمايلن مع نغمات أغانيهن، برقةٍ تماثل رِقة أصواتهن. غنينَ للبِلاد، المحبوب، للدنيا والناس كما قال رياض الصالح الحسين في مقدمة مجموعته الشعرية الأولى

خراب الدورة الدموية

إلى الدُنيا والناس

انتهى الحفل

*عُدتُ إلى منزلي متأخراً، أحملُ في قلبي مشهداً لشقائق النعمان قد تفتحن في إحدى ضواحي مدينة هامبورغ.

شقائق النعمان التي سافرت من البِلاد، قطعت أكثر من ثلاثة آلاف كم، خبئتها سيداتٌ من بلادي، بين ثيابِ أطفالهن الصغار وقلوبهن، كي تبقى البذور دافئة ومَروية من دمهن.

نعم كُن دموع السوريين حين غنوا: كلمة حلوة وكلمتين.. حلوة يابلدي… هذه الأغنية التي اعتاد الناس الرقص حين سماعها  قدموا كُلَّ ما استطاعوا، بكل رقة. مثل أمنا عشتار التي واجهت الموت ..برحيق زهرة .

نعم مازلنا ننسجُ حكايانا في كُل أرضٍ نصلها، لتنبتَ شقائق نُعمان، حبة قمح… أو رُبما أغنية.

زر الذهاب إلى الأعلى