الرأي العام

تأملات أديب | من كرة القدم إلى السِّياسة

موسى رحوم عباس – العربي القديم

(1) اللَّاعب الحـُـــــرُّ Floating Player  

      تحقق العلوم قفزات كبيرة في الفيزياء والكيمياء وعلوم الفضاء، حتى إذا تعمقت أبحاث قفزة جديدة في ميدان ما؛ نجدها أشبه ببقعة الحبر التي تسيل منتشرة إلى ميادين أخرى، ولم نكن على ثقة بأن هذه الميادين مترابطة، أو ذات علاقة ما! فالنسبية والداروينية وحتى أثر الفراشة في الفيزياء وعلوم المناخ صار لها تطبيقات في الأدب والسياسة والنقد … ف”أثر الفراشة” مثلا وهو مصطلح مجازي أطلق على الأمور الصغيرة العشوائية التي تحدَّث عنها علماء الأرصاد الجوية (لورنتز 1961)، قد تسبب العواصف والأمطار وتسبب الكوارث، وشبهوا ذلك بأثر الفراشات في الصين واصطفاق أجنحتها الصَّغيرة، الذي قد تنشأ عنه عواصف مدمرة في أمريكا، هذه النظرية انتقلت آثارها إلى الأدب؛ فصدرت دراسات عن ” أثر الفراشة ” في أشعار محمود درويش وروايات العديد من المبدعين … كل هذا ربما نجد له بعض المسوغات، لكن أن تنتقل فلسفة التدريب في كرة القدم، والخطط التي يلجأ إليها المدربون إلى ميدان السياسة والتخطيط الاستراتيجي، فهذا يبعث على الدهشة!

      في السنوات الأخيرة تطور التدريب في كرة القدم من تلك الخطط النمطية التي يعرفها هواة المستطيل الأخضر، من تقسيم اللاعبين إلى هجوم، ودفاع، وجناح يمين….الخ إلى الكرة الشَّاملة؛ لذا نجد اللاعبين يغطون كل زوايا الملعب، لكن ما يلفت النظر حقا ذلك اللاعب المميز الذي يجعله المدرب متحررا من الموقع الثابت؛ لذا تجده في الهجوم تارة، وفي الدفاع تارة أخرى، متنقلا من الجناح اليمين إلى اليسار، وبالعكس، يسمى هذا اللاعب باللاعب الحر، ومن ميزاته أنه يصعب مراقبته والسيطرة عليه، ترى هل انتقلت هذه الفلسفة للسياسة والتخطيط الاستراتيجي؟!

    أعتقدُ أن العاملين في الحقل الاستراتيجي نقلوا “اللاعب الحر” إلى ميدانهم وببراعة نادرة، وسأتعرض لمثالين، وحسب، المثال الأول من منطقة الشرق الأوسط، تلك المنطقة الملتهبة، بل هي مركز الحراك السياسي العالمي الهادف لإعادة هيكلتها، ورسم حدود جديدة لكياناتها، وهذا ما ذكر بوضوح شديد في نظرية ” الشرق الأوسط الكبير”  (Grand Middle East) التي كثر الحديث عنها منذ زمن كوندليزا رايس (1954- …) وزيرة الخارجية الأمريكية ومروجة نظرية الفوضى الخلاقة، حيث عمدت مراكز رسم السياسات الأمريكية إلى اختيار لاعب محلي، وأعطوه صفة ” اللاعب الحر” بناء على مواصفات معينة، وأهمها أنه موثوق به من قبل الإدارة، ويمتلك قدرات لوجستية واقتصادية تؤهله للعب هذا الدور، وقد وقع الاختيار على ” قطر” كونها موثوقة، وبها أكبر قاعدة عسكرية أمريكية، هي ” قاعدة العديد العسكرية” قطر دولة صغيرة المساحة والسكان، لكن الحكم فيها نشط ومرن ويمتلك الموارد المادية الكبيرة، ومستقر سياسيا وتضمن الولايات المتحدة ضبط سلوكه، ولو دققنا في الخط البياني للأنشطة السياسية القطرية في السنوات العشر السابقة؛ لبدا جليا دور “اللاعب الحر” الذي يظنه البعض حرا ومناهضا للسياسات الأمريكية في المنطقة!

قطر وطالبان: حافظت قطر على علاقات مميزة مع طالبان، وهي المصنفة أمريكيا حركة إرهابية، وعلى رأس قائمة أعداء أمريكا، بل تمادت أكثر من ذلك إلى فتح مكتب ارتباط ذي صفة دبلوماسية للحركة في الدوحة، وهذا ظاهره عمل استفزازي لواشنطن! لكن الحقيقة هذا يندرج في وظيفة ” اللاعب الحر” إذ لابد من لاعب ما، يحافظ على هامش مناسب على القدرة على المناورة، دون الخروج عن قواعد اللعبة، ولا بد من عنوان مؤكد ومفوَّض يمكنه القيام بالاتصال، والحديث المباشر، أو غير المباشر، وهو ما حصل عندما قررت الولايات المتحدة التفاوض مع طالبان في الدوحة، وصولا لطريقة ما للخروج من أفغانستان وتسليمه مرة أخرى لطالبان، وكانت قطر عَرَّاب هذا الاتفاق وبالتأكيد ليست هي الوسيط بالمعنى الحرفي القديم لوظيفة “الوسطاء” في العمليات السياسية، بل هو جزء من دور “اللاعب الحر” ومع هذا كثر من أبناء المنطقة يركزون على نقطة محددة من المشهد، ويغفلون الكلية والإطار العام للعبة السياسية، مبرزين طائرات الدعم الإنساني وترحيل الأجانب وعودة الحياة للعاصمة كابول.

  ويمكن أن نطبق نظرية “اللاعب الحر” في مناطق أخرى من العالم في عُمان، وسوريا وفلسطين وتركيا وإيران والعراق …الخ وهذا يتطلب الكثير من التحليل والكلام.

فرنسا اللاعب الحر الأوروبي

كما جعل صانعو السياسات الأمريكية لاعبا حرا في الشرق الأوسط، احتاجوا للاعب أوروبي يتمتع بصفة “اللاعب الحر” فكانت فرنسا، التي تتمتع بعلاقات مميزة مع دول الشرق الأوسط وبخاصة مع لبنان وإيران كما نسجت في السنوات الأخيرة علاقات جيدة مع دول الخليج العربي، ولديها إمكانات اقتصادية وعسكرية هائلة، وقد قامت بلعب هذا الدور ببراعة، ظهر ذلك بوضوح شديد في انفجار ميناء بيروت، وصياغة التفاهمات مع الأطراف اللبنانية حتى المصنفين “جماعات إرهابية” وشكلت فرنسا منصة لنقل الرسائل بالتهديد مرة وبالوعد والوعيد لكل الأطراف، لبقاء القوة الأمريكية مهيمنة في المنطقة، وشكلت صوتا متفردا – في الظاهر- متميزة عن باقي دول الاتحاد الأوروبي، في الحرب الروسية على أكرانيا، وإدارة انتخاب رئيس جمهورية للبنان، والحفاظ على ضبط الإيقاع في العراق بين ميليشيات إيران والقوات الأمريكية، ولعبة الحرب “الوهمية” في جنوب لبنان، وإدارة “الحروب” السورية وأطرافها الكثيرة، مرة أخرى من يركز على تفصيل واحد لأي حدث، سيظهر له أن فرنسا على نقيض السياسات الأمريكية!

لكن هذا ناتج عن الاستغراق في هذا التفصيل، وإهمال الصورة الكلية والفلسفة التي تقف وراءها، إنها نظرية” اللاعب الحر أيها السادة، جعلكم الله أحرارا، ومشاهدة ماتعة للمباراة! احذروا من المطر المفاجئ؛ لذا لا تنسوا المظلات! وتذكروا الـ”Floating Player

(2) صانع الألعاب   Playmaker

   تناول القسم الأول من هذه المقالة اللاعب الحر – فضلت ترجمة مصطلح اللاعب الحر عن المعنى الحرفي اللاعب العائم- مستخدمين استراتيجيات التدريب والتخطيط في كرة القدم وتطبيقاتها في لعبة السياسة، وفي القسم الثاني سنتناول دور صانع الألعاب (Playmaker) في المستطيل الأخضر لملاعب الكرة، أو الأسود لملاعب السياسة.      

يكوِّن بعض المهرة من اللاعبين في كرة القدم خبرات تراكمية تلفت نظر المدربين المحترفين؛ فيسندون إليهم دورا محوريا في ساحة اللعب دفاعًا وهجومًا، يسمى هذا الدور (صانع الألعاب) وهو اللاعب الذي يعرف نقاط القوة والضعف في فريقه والفريق الخصم، ويقوم بتوزيع اللعب وفقا لذلك، وقد لا تسجل الأهداف باسمه، هذا غير مهم، لكن عينه على النتيجة النهائية، يعرف متى يرفع الكرة على رأس اللاعب الماهر في استعمال رأسه، وقد يحول الكرة إلى القدم اليسرى للاعب الأعسر، وقد يباغت الخصم بإرسال طويل أو قصير، وفقا للموقف داخل الملعب، هو ببساطة مدرب تنفيذي داخل الملعب، إنْ صحت التسمية، ينفذ خطة المدرب الأساس بحرفية عالية، بعد المباراة يخرج اللاعبون الذين سجلوا الأهداف بأسمائهم فرحين معلنين عن مهاراتهم في المقابلات الصحفية وأمام كاميرات التصوير، لكنهم يعرفون المسكوت عنه في هذه اللعبة التي تواطأ أفرادها على الصمت! وربما كان صانع الألعاب يبتسم بخبث خلف الكاميرا!        

  فمن هو صانع الألعاب في حروب الشرق الأوسط للقرن الحالي بل قبل ذلك أيضا؟

  اختار مالك النادي وراعي اللعبة الكبير “إيران” للعب هذا الدور، بدأ ذلك منذ أن حطت طائرة الإيرفرانس في مطار طهران 1 شباط/ فبراير 1979 يرافقها رجال الأمن الفرنسيون بقمصانهم السود، وهم يمسكون بذراعه؛ ليهبط بأمان! والمتابع لخط الأحداث، يستكشف بيسر أن صانع الألعاب قام بدوره بدقة، واستحق القميص ذا الرقم (10) كما يعرف عشاق اللعبة، واستغل كل العناصر المتاحة الطائفية والسياسية والتباين الإثني في المنطقة، وقد يظن البعض أنه لاعب طائفي، وحسب، أي اعتباراته دوما طائفية، وهذا غير دقيق، ولو كان الأمر كذلك؛ لوقف مساندا لأذربيجان “الشيعية” ضد أرمينيا “الأرمنية” لكنه لم يفعل! إذن الاعتبار سياسي في المقام الأول، على أن يضمن استدامة التخادم بينه وبين مالك النادي وراعي الفريق، وكذا دوره في أفغانستان، فدعمه للهزارة” الشيعة” كان مدروسا، ولم يخرج عن الإطار السياسي المرسوم، بل إنه دعم حكمتيار “السُّني” وبعض الأوزبك ضمن استغلاله للتناقضات القومية والقبَليَّة بمواجهة قوة “البشتون” القوة الرئيسة في البلاد.

يقوم “صانع الألعاب” بتوزيع المهام على لاعبيه مراعيا ظروفهم المحيطة ومهاراتهم، فاللاعب في الجنوب اللبناني موتورٌ ومُدرَّب ولديه خبرات تراكمية هائلة، وله امتدادات في أوربا وأمريكا الشمالية واللاتينية؛ لذا مهامه تختلف كليا عن اللاعب المبتدئ في اليمن، فهذا لابد له من مراقبة لصيقة وتوجيه مباشر، وفي العراق لاعبون مطيعون ينفذون ما يطلب إليهم تنفيذه بدقة مغلفين طاعتهم العمياء بأغلفة دينية ومذهبية تبرر سلوكهم أمام جمهورهم الذي يسيطر عليه أهل العمائم، المدهش حقا، أن صانع الألعاب قد يقود مباراة صغيرة في ملعب مجاورلصرف النظر عن المباراة الرئيسة، ويكوِّن فرقا لذلك ويسميها خلافة أو دولة للمذهب المضاد؛ ليبرر حروبا قادمة مخطط لها.

  يحاول ” صانع الألعاب القيام بمهامه على طريقة طائرة الشبح الأمريكية، التي صنعتها شركة (Lockheed Martin) هذه الطائرة التي تفلت من الرادرات متسللة إلى أرض المعركة، دون أن تترك أثرا، ويمكن أن نرصد هذا السلوك فيما يشبه لعبة خيال الظل، نحن نرى الشخصية تتحرك، ولا نرى أصابع اللاعب، أو ما يسميه المصريون” الأرَجُوزاتي” ترى إلى متى يستمر هذا، لا ندري، هذا متوقف على رغبة راعي اللعبة ومالك النادي والفريق، هو وحده يعرف متى تنتهي حاجته لعقد التخادم هذا، عندها سنرى القلعة تسقط، ونسمع صوته المجلجل قائلا: “كش ملك” وقد تطول اللعبة؛ فلا نحضر تلك اللحظة، فنحول المهمة للأبناء أو الأحفاد جزءا من تركتنا الثقيلة لهم في تحرير أرضنا وعقولنا!

ربما نعود لتناول أدوار بقية اللاعبين من حارس المرمى إلى كتيبة المدافعين، وربما نصل إلى المعالج الفيزيائي (Physical therapist)!! أو حتى سائق الحافلة الذي ينتظر نهاية المباراة؛ ليعودَ بهم، أو بما تبقى منهم للمسافة صفر!

زر الذهاب إلى الأعلى