أرشيف المجلة الشهرية

باشوات وبكوات وأفندية

عمرو الملّاح – العربي القديم

لعل أبرز ظاهرة اتسمت بها حقبة الجمهورية الأولى من تاريخ سورية المعاصر (1932-1963) هي هيمنة الأسر إلى حد كبير على المشهد السياسي.

        وإن أول ما يمكن التأسيس عليه في محاولتنا تلمس الجذور التاريخية لظاهرة “الأسر السياسية” في التاريخ السوري المعاصر هو رصد اثنين من العوامل الحاسمة في تَكَوُّنِ طبقة من الأعيان الحضريين، وفقاً للتصنيف الذي وضعه ألبرت حوراني، وهي الطبقة ذاتها التي أنتجت الزعامة السياسية في كبريات المدن السورية طوال عدة أجيال.

        وقد تمثل أولاهما في صدور “قانون الأراضي” (1858) إبان حقبة التنظيمات-الإصلاحات العثمانية، الذي وضع حداً للدور الذي اضطلع به الوسطاء (المحصلون والملتزمون) في السيطرة على الأراضي وجباية الضرائب المفروضة عليها، إلّا أنّ تطبيقه أتى بنتائج عكسية؛ إذ أدى إلى تكوّن حيازات زراعية ضخمة جراء إحجام الفلاحين عن الاستفادة من أحكامه، وإيثارهم تسجيل أراضيهم باسم الأعيان الحضريين، طمعاً في حمايتهم، وبغية التهرب من عمليات الإحصاء التي ظنوا أنها تهدف إلى تيسير فرض الضرائب والسوق إلى التجنيد الإلزامي.

        أما ثانيهما فتمثل في إطلاق عملية إعادة هيكلة التنظيم المؤسسي للدولة العثمانية بموجب “قانون الولايات” (1864)، الذي أفضى إلى تأكيد الأعيان-ملّاك الأراضي حضورهم في المجالس المحلية ذات الطابع شبه التمثيلي كمجلسي إدارة الولاية والبلدية، والمحاكم النظامية، والهيئات المحلية المتخصصة بشؤون الأوقاف والتعليم والمالية والتجارة، جنباً إلى جنب مع منح قدر أكبر من المساواة للرعايا من غير المسلمين مع المسلمين وإشراكهم في الجهاز البيروقراطي الآخذ في التوسع.

        وستعزز طبقة “البيروقراطيين-المُلاك” هذه مكانتها بفضل السياسة التي انتهجها السلطان عبد الحميد، والقائمة على اجتذاب الأعيان من العرب بوجه عام والسوريين على وجه الخصوص إلى حكمه، في مسعى لكسب ولائهم في مواجهة الحركات القومية الانفصالية، بالتزامن مع إطلاقه سياسة “الجامعة الإسلامية”. فعمل على توثيق علاقاته مع الأعيان العرب، وبخاصة في حلب ودمشق، وإدماجهم في المؤسسة العثمانية عبر منحهم الرتب الشرفية وما يرافقها من ألقاب “النبالة” بالمفهوم التاريخي والاجتماعي، ولا سيما لقب “باشا” الذي يُعد أعلى ألقاب التشريف في الدولة.

        واجهت هذه الطبقة العديد من التحديات التي أملتها التحولات الكبرى إقليمياً وعالمياً، وما زالت تلقي بظلالها إلى يومنا هذا، بدءاً بالمسعى الرامي إلى التحول من النظام “السلطاني” الفردي المطلق بنسخته “الحميدية” إلى “الملكي الدستوري” (المشروطي) بنسخته الاتحادية؛ والصراع بين النزعتين القومية العربية والطورانية-التركية الذي طبع مرحلة ما بعد الإطاحة بالسلطان عبد الحميد بطابعه؛ واندلاع الحرب العالمية الأولى؛ وانهيار الإمبراطوريات، وفي عدادها العثمانية؛ وإبرام المعاهدات والاتفاقيات التي رسمت مصير سوريا المنفصلة عن الدولة العثمانية المهزومة في تلك الحرب؛ وعملية التحول العاصف من “العثمنة” إلى “العروبة” وبروزاً لنزعة قومية محلية تحدت فيها هوية سورية “إقليمية” هوية عربية؛ ومحاولة بناء أول دولة حديثة ديمقراطية علمانية في المشرق العربي بعد نهاية المرحلة العثمانية (الحكومة العربية- المملكة السورية العربية)؛ وصولاً إلى عهد الجمهورية السورية الأولى مروراً بمرحلة الانتداب الفرنسي، وبناء دولة الاستقلال في أعقاب الحرب العالمية الثانية؛ وما تخلل ذلك من تشكيل الأحزاب السياسية؛ وظهور “السياسة الجماهيرية”؛ وتعاظم دور العسكر في الحياة العامة وتنفيذهم الانقلابات العسكرية؛ وإلغاء العقيد أديب الشيشكلي، قائد الانقلاب العسكري الرابع في سوريا، ألقاب النبالة (باشا، وبك، وأفندي) بصورة رسمية والاستعاضة عنها بلقب “السيد” (1952)، إيذاناً ببداية تراجع دور المنتمين إلى “الطبقة الأرستقراطية” من أبناء الأعيان “التنظيماتيين” الذين كانوا يجمعون بين صفتي البيروقراطيين-الملاك؛ وذلك بالتزامن مع صعود أبناء الطبقة “الوسطى” البازغة من مثقفين، وموظفين، وأصحاب مهن حرة، وتجار متوسطي المستوى.    

        ولعل المفارقة هنا تكمن في أن مائة عام بالضبط هي التي تفصل ما بين صدور قانون الأراضي العثماني لعام 1858، الذي يسر صعود أسر الأعيان، وصدور قانون الإصلاح الزراعي لعام 1958 إبان عهد الوحدة مع مصر، الذي كان له أكبر الأثر في أفول نجم هذه الطبقة، وخروجها من الحياة السياسية بصورة نهائية.

_________________________________________

من مقالات العدد الرابع عشر من (العربي القديم) الخاص بالأسر السياسية في التاريخ السوري – آب / أغسطس 2024

زر الذهاب إلى الأعلى