أرشيف المجلة الشهرية

أحمد الحصري.. حارس معرة النعمان ونبتة ميسلون

قال كلمة سيخطّها أبناء المعرة بماء الذهب: "لن يدخلوها، والذي فلق النوى.. لن يدخلوها إلا على جثتي".

عبد القادر لهيب – العربي القديم

لم يكن أحد من أبناء مدينة معرة النعمان جنوب إدلب، يتوقع أن يدخل حفيد العلامة الشيخ أحمد الحصري، تاريخ الثورة وسوريا من أوسع أبوابها، بعد أن ملأت صوره المواقع والصحف الثورية، وأقرّ الجيش الروسي بصموده في تلك المدينة قبل احتلالها مطلع 2020.

حارس معرة النعمان

الشهيد أحمد الحصري، أو كما أحبّ السوريون أن يلقبوه بحارس معرة النعمان، نشأ في كنف والده مصطفى وجدّه الحصري، وتعلم حب الوطن والحرية، ورفض الظلم منذ صغره، وبعد أن أتمّ دراسته الإعدادية سنة 1993، انضم لمعهد الإمام النووي للعلوم الشرعية، الذي أنشأه جده في المدينة، ودرس فيه لمدة 6 سنوات على يد عدد من المشايخ بينهم، “محمد علي، رمضان رزوق، عز الدين خطاب، وحمدو خطاب”، قبل التحاقه بمعهد الفتح الإسلامي بدمشق نهاية القرن الماضي.

كبر ذلك الفتى سريعاً، وهو يشاهد المضايقات التي يتعرض لها والده وجدّه، من قبل الأفرع الأمنية في معرة النعمان، بسبب انتمائهما، وفكرهما الإسلامي المعتدل، ورغم صعوبة الحياة التي دفعته للعمل في مجالات عدة، بعد تخرجه وإنهائه الخدمة الإلزامية العسكرية، كالعمار والتمديدات الصحية والطلاء والتجارة، إلا أنه كان مسالماً صابراً على ذاك الظلم.

أحمد الثائر بين السلمية والعسكرة

لم يتخلف أحمد عن ركب الثورة، بعد اندلاع شرارتها في درعا، إذ شارك في أول مظاهرة، شهدتها معرة النعمان في 25 آذار/ مارس 2011، هاتفاً بالحرية والكرامة، مع مجموعة شبان، آثروا الحراك رغم الانتشار الأمني المكثّف حينها.

تسارعت الأحداث رويداً رويداً في معرة النعمان، وبعد تحرير المدينة في جمعة العشائر 10 حزيران / يونيو 2011، بات الحراك أكثر حرية، والمظاهرات السلمية التي يحضرها أحمد، توثّقها عدسات الناشطين، حتى السابع من شهر آب / أغسطس من العام ذاته، حين اقتحم جيش الأسد مدينته، وبدأت حملات الاعتقالات تلاحق كل المعارضين.

استطاع أحمد كغيره من المتظاهرين أن يتوارى عن الأنظار، ويتجه مع عائلته الصغيرة إلى مخيمات النازحين على الحدود السورية التركية، قبل أن يعود إلى مدينته ويبدأ المشاركة بالحراك المسلح، ضد قوات الأسد برفقة شقيقه الشهيد عبد الحكيم، الذي تعرض للإصابة في إحدى المواجهات مع الأمن السوري بمدينة إدلب.

وفي تشرين الأول / أكتوبر 2012، انضم أحمد الحصري برفقة شقيقه حكيم إلى معارك تحرير معرة النعمان، والسيطرة على حواجز المركز الثقافي الجديد، ومبنى عرابي بعد طرد قوات الأسد منها، نحو معسكر وادي الضيف الواقع شرق المدينة.

ومع ارتفاع وتيرة الحرب، واستخدام نظام الأسد للأسلحة الثقيلة، والطائرات الحربية والمروحية، تمكن الشهيد أحمد من تطوير نفسه، والخوض في غمار ابتكار أسلحة، مُعظم ما فيها من متفجرات، تعود للصواريخ والبراميل التي كانت تُلقى على المدنيين والأحياء السكنية، ولم تنفجر، حيث كان يقوم بتفكيكها رغم المخاطر المحدقة في التعامل مع هذا النوع من الأسلحة، تعرض أحمد مراراً لحروق في الوجه واليدين، لكن ذلك لم يثنِه عن المتابعة.وبينما كان أحمد يصنع الصواريخ، ويرمي بها مواقع قوات الأسد، كان شقيقه عبد الحكيم يترصد بعناصر الأسد في “حاجز الزعلانة” شرق معرة النعمان، ويصطادهم واحداً تلو الآخر على مدار 3 سنوات، حتى استشهاده شهر شباط / فبراير 2014، إثر كمين متقدم نفذته تلك القوات، والحديث هنا يطول عن شجاعة حكيم.

كانت لحظة استشهاد حكيم، حافزاً لشقيقه أحمد في مواصلة دربه، وإكمال ما بدأه الشقيقان معاً، والعهد الذي قطعوه بتحرير سوريا، وواصل ابتكار الأسلحة وتطوير صواريخ محلية مضادة للطيران، استخدمها في مدينة مورك شمال حماة ومعرة النعمان.

الملحمة الأخيرة وكتابة التاريخ

في الربع الأخير من عام 2019، وبعد تقدم قوات الأسد مدعوماً بالميليشيات الإيرانية والقوات الروسية، تمكنت الأخيرة من السيطرة على ريف حماة الشمالي، ودخول المنطقة الإدارية لجنوب إدلب، وفي شهر كانون الأول / ديسمبر من العام ذاته، بدأت الحملة العسكرية على مدينة معرة النعمان، بعد سقوط المناطق والقرى والبلدات المحيطة بيد القوات المهاجمة، تزامن ذلك مع حملة نزوح واسعة لأكثر من 70 ألف نسمة عن المدينة، عقب قصف مدفعي وصاروخي، وارتكاب العديد من المجازر، فكانت المعرة ساحة حرب جديدة في معركة غير متكافئة، مع انسحاب معظم الفصائل العسكرية باتجاه المناطق الشمالية.

كانت الساعات الأربع والعشرون، قبيل سقوط مدينة معرة النعمان، حاسمة في حياة الشهيد أحمد الحصري، تخللها الكثير من القصص، فبعد عودته إلى عائلته النازحة في إدلب قادماً من معرة النعمان، برفقة أحد النازحين الذي ساعده في نقل بعض أثاث منزله قبيل التهجير، دخل منزله الساعة السادسة صباحاً من يوم الـ 28 من كانون الثاني / يناير 2020، واجتمع مع والده وزوجته وأطفاله، وتناول وجبة الإفطار، بعد أيام من البُعد عنهم، ونحو 72 ساعة لم تغفل عينه عن حماية مدينته.

وخلال اللقاء، شرح أحمد لعائلته تفاصيل الوضع العسكري في معرة النعمان، واجتماعه المقرر الساعة الواحدة ظهراً مع غرفة العمليات العسكرية، لوضع خطط الدفاع عن المدينة، إلا أن إعلان غرفة العمليات عن سقوط المعرة باكراً، أغضب أحمد، وأخبرهم أن المدينة مازالت بمعظم أحيائها السكنية، خارج سيطرة القوات المهاجمة، ولا يمكن لأي شخص أن يعلنها منطقة محتلة.

عاد أحمد إلى عائلته، وأخذ القبضات اللاسلكية، وتوجه برفقة “طالب النفوس”، أحد أبناء معرة النعمان نحو المدينة، وعندما وصل إلى بلدة البارة غرب المعرة، أخبره العسكريون بضرورة تنسيق تلك القبضات، ووضعها على الترددات الخاصة بالمعركة، وبعد 3 ساعات من الانتظار، اضطر أحمد وطالب للتوجه بمفردهما إلى المدينة، للقاء ثلة من المقاتلين الذين آثروا الصمود للتصدي لذلك العدوان.

وبحسب أولئك المقاتلين الذين اضطروا للخروج من المدينة قبيل دقائق من احتلالها، أكدوا أن أحمد وطالب، كانا في الحي الشمالي، وطلبا منهما الخروج، إلا أن أحمد قال كلمة سيخطّها أبناء المعرة بماء الذهب: “لن يدخلوها، والذي فلق النوى.. لن يدخلوها إلا على جثتي”.

ومع اقتراب الشمس من استسلامها أمام الليل، كان أحمد وطالب يصرّان على المقاومة، ويخطّان ببطولتهما تاريخاً، سيذكرهما مع الكثير من الشهداء الذين لن نملّ من الكتابة عنهم، وهنا بدأت الرواية تأتي من العدو، وكالة الإعلام الأبخازية ANNA الناطقة باللغة الروسية، تحدثت عن مجموعة مسلحة، تتحصن في منزل مدمّر بالقرب من قلعة معرة النعمان، تستخدم الأنفاق لتزويد نفسها بالسلاح، وكانت ترفض الاستسلام، وتطلق رصاصات متفرقة من عدة مواقع داخل ذلك المنزل، ما دفع دبابة روسية لاستهداف ما تبقى من المبنى، مع إطلاق مئات الرصاصات، وعدد من قذائف RPG الصاروخية، بحسب مقطع مصوّر نشرته الوكالة.

وبعد أن انجلى غبار القصف، دخل العناصر المهاجمون بحذر، وهم خائفون ليبحثوا عن تلك المجموعة المسلحة التي تحصّنت في ذلك المنزل، ليجدوا الشهيد أحمد الحصري وحيداً مضرّجاً بدمائه، وبجانبه سلاحه الفردي بندقية كلاشينكوف، أما طالب فمنذ ذلك اليوم فُقد، ولم يتم الكشف عن مصيره.

ملحمة يوسف العظمة تنبض في معركة الحصري

رأى كثير من السوريين تشابهاً بين قصة البطل يوسف العظمة، وأحمد الحصري في تمثيلهما لرمزية التضحية والتمسك بالكرامة، أمام قوى متفوقة عسكرياً في معارك كانت نتيجتها شبه محسومة.

ففي ميسلون عام 1920، وقف وزير الحربية في الحكومة العربية بدمشق يوسف العظمة، مع مجموعة صغيرة من الجنود السوريين والمقاومين بأسلحة بسيطة، أمام الجيش الفرنسي، بعد “إنذار غورو” الذي طالب بتسليم البلاد دون قيد أو شرط.

رغم اختلاف الأزمنة والظروف، اتحدت الروح بين الرجلين في مواجهة الظلم، فيوسف قاتل على أرض ميسلون، ليؤكد أن الكرامة الوطنية لا تُباع، بينما صمد أحمد ليحمي مدينته من احتلال جديد، مؤكداً أن الحرية لا تُنتزع إلا بالتضحية، كلاهما استُشهد في ميدان المعركة، تاركين وراءهما دروساً في الفداء، وكتابة للتاريخ بأحرف من دم.

لماذا أحمد الحصري؟

ربما السؤال يراود كثيرين عن سبب الغوص في قصة الشهيد أحمد، بكل ما تحمله من تفاصيل وتحولات وامتدادات دون غيره من السوريين؟ الجواب باختصار على هذا السؤال، هو حاجتنا لضرب أمثلة للجيل الجديد، ليحمل الرسالة التي نختارها من قيم، فقد يكون هناك من أصحاب البلاء والصبر من فاق نبي الله أيوب ببلائه وصبره، ولكن سيبقى أيوب أيقونة الصبر على البلاء، كما سيبقى قارون أيقونة الغني المغرور، وسيبقى فرعون أيقونة الحاكم المتألّه، وكذلك حافظ وبشار الأسد سيتركان إرثاً كبيراً للسوريين بإجرامهما واستبدادهما وديكتاتوريتهما، ومن هنا كانت ضرورة الرموز، وقد أصبح الحصري رمزاً للتضحية والإقدام، ومشعلاً يضيء لنا نحن المتنعمين بنشوة النصر وسقوط الأسد.

وفي الختام.. لا بدّ من أن أقدم اعتذاري لعوائل جميع الشهداء السوريين، الذين ضحّوا بأرواحهم من أجل أن نكتب بحرية هذه الكلمات، وأن نعيش نحن وكلّ السوريين بعيداً عن ظلم الأسد، ونوثّق بطولاتهم على كامل مساحة الخريطة السورية، ثم لأخصّ منهم أحفاد فيلسوف الشعراء أبي العلاء المعري، الذين ورثوا عنه الزهد، فجادوا بدمائهم على مذبح الحرية، كشهيدنا الأول غسان البش، وحسان السعيد، وأحمد زكور، وعبد الحميد شعراوي، وحمادي السعيد، والطفل همام الحلبي، ورفاقي عبد الرحمن البكور، طالب الدريس، نورس قيطاز، خالد خلوف وحازم شردوب وما يزيد عن ألفين آخرين.

  _________________________________________

 من مقالات العدد الثامن عشر من (العربي القديم) عدد الاحتفال بالنصر، الخاص بشهداء ثورة القرن – كانون الأول/ ديسمبر 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى