الرأي العام

رحَّالة الفضاء الأزرق

موجز تاريخ الرَّحَّالة من جلجامش حتَّى مؤثِّري السُّوشال ميديا

د. مهنا بلال الرشيد – العربي القديم

أسَّس العرب أدب الرِّحلة، وأغنوا آداب الأسفار العالميَّة (الرَّاهنامجات) منذ ظهور أقدم مدوَّناته الأولى زمن جلجامش على سواحل البصرة والبحرين (دلمون) حوالي (2800-2500) قبل الميلاد حتَّى قُبيل نهاية العصور الوسطى مع ابن ماجد السَّعديَّ (1435-1500م) على سواحل عُمان وجلفار (رأس الخيمة)؛ وهذا يعني أنَّهم أسَّسوا أدب الملاحم والأسفار والرِّحلات البحريَّة قبل هوميروس اليونانيِّ وأوديسيوس بطل حرب طروادة الملحميَّة الشَّهيرة. وظلَّ البحَّارة العرب ورفاقهم يرفدون أدب الرِّحلات بشوارد الأفكار والآداب والمعارف على مرِّ العصور المتلاحقة.

وتنقَّل غير قليل من الرَّحَّالة والجنود والمشاهير العرب عبر العالم، وحقَّق قدموس الفينيقيُّ شهرة واسعة في قارَّة أوروبَّا العجوز، الَّتي أخذت اسمها من فتاة فينيقيَّة أخرى، وكان في جيوش الإسكندر بن فيليب المقدونيِّ الكبير غير قليل من الخبراء والرَّحَّالة والجنود العرب حين وصل إلى كلٍّ من العراق وفارس والهند ومصر والهند.

أخبار الرِّحلات العربيَّة القديمة بين الشِّعر والنَّثر

 مع نهايات العصور القديمة وبدايات العصور الوسطى؛ أي مع سقوط روما عاصمة الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة الغربيَّة سنة (476م) ازدهر الشِّعر العربيُّ القديم؛ فنقلت أشعار الجاهليِّين ومعلَّقاتهم كثيرًا من جوانب الرِّحلات العربيَّة، وسهَّل الإيقاع الشِّعريُّ رواية تلك الأخبار وحفظها، ونُقل بعضها الآخر سردًا في أخبار أيَّام العرب وتغريبة بني هلال وغيرها، لكنَّ ووقف الشُّعراء على أطلال الدِّيار المهجورة شكَّل ظاهرة فنِّيَّة بجوار تصوير أخبار الرِّحلات ومشاعر الرَّحيل، على نحو ما فعل عمرو بين القيمئة رفيق امرئ القيس في رحلته الشَّهيرة إلى قصير الرُّوم؛ فقال:

بكى صاحبي لمَّا رأى الدَّرب دونه          وأيقن أنَّا لاحقان بقيصرا

فقلت له: لا تبكِ عينك إنَّما               نحاول مُلكًا أو نموت فنعذرا

أشهر الرِّحلات البحريَّة في العصور القديمة والعصور الوسطى

تحظى الرِّحلات البحريَّة بأهمِّيَّتها الخاصَّة في أدب الرِّحلات؛ وذلك لأنَّ الماء تشغل ثلثي مساحة الكرة الأرضيَّة أوَّلًا، ولأنَّ الرِّحلات البحريَّة محففة بكثير من المخاطر ونتائجها غير محسومة ثانيًا، فإمَّا أن يعود\ الرَّحَّالة بكنوز ثمينة من رحلاته، أو تتكلَّل رحلاته بانتصارات عظيمة؛ كما انتهت حرب طروادة على سبيل المثال، وإمَّا أن يفقد البحَّارة حياتهم لهذا السَّبب أو ذاك كما حصل مع كثير من المغامرين والبحَّارة. وتصوِّر ألواح العراق القديمة جلجامش يسبح في أعماق البحار مع صديقه أنكيدو؛ ومن هنا كانت ملحمة جلجامش أوَّل ملحمة عالميَّة تتحدَّث عن عبور جلجامش بطل هذا الرِّحلة البحريَّة الأسطوريَّة المحفوفة بالمخاطر مع صديقه أنكيدو من موانئ جنوب العراق إلى غابات الأرز في فينيقيا على سواحل البحر الأبيض المتوسِّط حتَّى جزيرة (دلمون-البحرين)، وصولًا إلى مضيق باب السَّلام وبحر العرب، ثمَّ إلى مضيق باب المندب والبحر الأحمر ثمَّ البحر الأبيض المتوسِّط؛ ليحطَّ جلجامش مع صديقه أنكيدو أخيرًا في غابات الأرز بعد رحلة أسطوريَّة محفوفة بالمخاطر. وبعد ذلك أشعلت الأميرات الفينيقيَّات خيال الأدب اليونانيِّ القديم؛ لتصبح القارَّة العجوز على اسم الأميرة الفينيقيَّة (أوروبَّا) بعد زواجها من زيوس كبير آلهة الإغريق، ولتصبح جزيرة (أستيباليا) اليونانيَّة على اسم اختها (كريت) بعد زواجها من بوسيدون إله البحَّارة والبحار,

أشهر رحَّالة العصور الوسطى

مع فتح القسطنطينيَّة (1453م)، الَّذي تبعه اكتشاف رأس الرَّجاء الصَّالح من قبل بارلتوميو دياز سنة 1488م، ثمَّ سقوط الأندلس 1491م، ثمَّ الإعلان عن اكتشاف الأمريكيَّتين أو العالم الجديد على يد كريستوف كولمبوس ورفاقه من البحَّارة الأوروبِّيِّين بين (1492-1500م)، ثمَّ ظهور حركة الإصلاح الدِّينيِّ البروتستانتيِّ وبداية عصر النَّهضة في أوروبَّا ظهرت الأهمِّيَّة الحقيقيَّة لأدب الرِّحلات مع كلِّ منجز إضافيٍّ يقدِّمه هذا الرَّحاَّلة أو ذاك من خلال وصف البلدان الَّتي زارها أو توثيق عادات شعوبها أو نقدها، وكان أبو الرَّيحان البيرونيِّ (973-1048م) في كتابه: (تحقيق ما للهند) قد أسَّس لهذا المنهج، ثمَّ جاءت ملاحظات ابن بطُّوطة (1304-1368م) في مدوَّنته حول رحلته الشَّهيرة. ومع رحلات عبد الرَّحمن بن خلدون بلغ فنُّ الرِّحلة مبلغًا عظيمًا إذا كان الرَّحَّالة عالمًا حصيفًا مثل ابن خلدون؛ فأسَّس علم الاجتماع بسبب ملاحظاته المتراكمة في رحلاته وتنقُّلاته.

وخلال هذه العصور العالميَّة الوسطى ذاتها أو في العصر العبَّاسيِّ بحسب التَّقويم والتَّاريخ العربيَّين، وفي زمن هارون الرَّشيد تحديدًا (677-809م)التقت الثَّقافة العربيَّة مع الآداب العالميَّة كلُّها من خلال حكايات ألف ليلة وليلة، الَّتي تمثِّل مرحلة عالية من مراحل الازدهار الأدبيِّ وتفاعل الثَّقافات العالميَّة في بغداد؛ كما في قصص: علي بابا والأربعون حرامي، وعلاء الدِّين والمصباح السِّحريِّ، ورحلات السِّندباد البحريِّ السَّبع. ويظهر من خلال شخصيَّة هارون الرَّشيد ووزيره جعفر البرمكيِّ في حكايات ألف ليلة وليلة تأثير الملوك والخلفاء في ازدها أدب الرِّحلات وجمعِ قصصه وترجمة حكاياته من مصادر التُّراث العالميِّ في الآداب العربيَّة والفارسيَّة والهنديَّة والمصريَّة وغيرها.

ابن ماجد قصَّة بحَّار عربيٍّ

تنمُّ سيرة البحَّار العربيِّ أحمد بن ماجد السَّعديِّ (1435-1500م) عن مواقف أدبيَّة وإنسانيَّة كبيرة بالإضافة إلى إسهاماته في الكتابة والتَّأليف وأدب الأسفار والرِّحلات المعروف باسم (الرَّاهنمجات) أو رحماني أو رهمانج؛ وهي تسمية فارسيَّة لأدب الرِّحلات، وأصلها من كلمتين فارسيَّتين؛ هما: راه بمعنى: طريق، ونامة بمعنى: دفتر؛ ويتَّضح بذلك بمعنى أدب الرِّحلات في تسميته الفارسيَّة؛ ليدلَّ على دفتر لإرشاد السُّفن ومسامرة البحَّارة في أسفارهم الصَّعبة والطَّويلة؛ أي أنَّ أهمِّيَّته الكبرى لا تأتي من توصيف البلدان أو توثيق عادات الشُّعوب ورواية أخبار أو التَّأليف الأدبيِّ عنها، وإنَّما تأتي من الإسهام الحقيقيِّ للرَّحَّالة أو المدوِّن في دفع عجلة الحضارة البشريَّة قُدمًا بتقديم منجز تتاجاوز أهمِّيَّته حكايات السَّمر وروايات الأخبار وإنشاد الأشعار وتوصيف البلدان؛ وهذا نوع من السَّهل الممتنع في الأدب تجتمع فيه الشَّجاعة مع الفراسة لقراءة تحوُّلات البحر وعواصفه الهوجاء مع قوَّة في البأس وخبرة في التَّعامل مع الظَّروف الطَّارئة وقدرة على مسامرة البحَّارة ومؤانستهم في ليالي السَّفر الصَّعبة وظروف السَّفر الحالكة؛ ونتيجة لسهولة هذا الأدب وامتناعه معًا ترقى نصوصه المتميَّزة لتغدو ملاحم عالميَّة شهيرة مثل: جلجامش والإلياذة والأوديسة، ويأخذ بعضها الآخر منحًى تأريخيًّا أو بُعدًا توثيقيًّا، يصف مشاهدات الرَّحَّالة، ويوثِّقها، وإسهامات الرَّحَّالة في هذا المجال كثيرة ومتفاوتة الجودة أيضًا، ومثَلها أيضًا تتفاوت الدَّرجات لدى مَن يكتب في هذا المجال أيضًا.

وُلد أحمد بن ماجد في إمارة رأس الخيمة (جِلفار) على الشَّاطئ الغربيِّ من سلطنة عمان، ونشأ في بيئة بحريَّة محترفة، وبعد خمسين سنة تلقَّى فيها علوم البحار من جدِّه وأبيه ألَّف كتابه: الفوائد في أصول علم البحر والقواعد؛ فقال: (كان جدِّي-عليه الرَّحمة-محقِّقًا ومدقِّقًا، ولم يقرأ لأحد فيه، وزاد الوالد-رحمه الله-عليه بالتَّجريب والتِّكرار، وفاق علمه علم أبيه.  فلمَّا جاء زماننا هذا، وكرَّرنا قريبًا من أربعين سنة، وقدَّرنا علم الرَّجلين النَّادرين، وورَّخناه وجميع ما جرَّبناه انكشف لنا عن أشياء وحِكم)؛ فأيُّ مدرسة من مدارس الأسفار وعلوم البحار هذه الَّتي نشأ فيها ابن ماجد؟ تعلَّم فيها تحقيق جدِّه وتدقيقه، ثمَّ راقب فيها تجارب أبيه، وجمع شوارد نتائجها في خمسين سنة، انكشفت له فيها أسرار البحار؛ ولم يتجرَّأ قبل خمسين سنة من الخبرة على الخوض في الكتابة عن علوم البحار الَّتي نشأ فيها، وبعد ذلك دبَّج كتابه الفوائد في علوم البحار، وخالف فيه بطليموس اليونانيَّ معتمدًا على خبرته وتجاربه؛ فقسَّم خطَّ الاستواء والزَّوال إلى مئتين وأربعين إصبعًا بخلاف تقسيم بطليموس الشَّهير إلى ثلاثمئة وستِّين درجة.

ظاهرة المؤثِّرين أو رحَّالة السُّوشال ميديا الجُدد

ترى اليوم نفرًا غير قليل من المثقَّفين المتزبِّبين الَّذي اشتروا شهاداتهم من هنا أو هناك؛ والمتزبِّب: كلمة مأخوذة من المثل العربيِّ: (تزبَّب قبل أن يتحصرم)؛ هذا المثل الَّذي يصف هذا النَّفر من المتثاقفين، الَّذين يُفتون في كلِّ علم، وينقدون كلَّ فنٍّ، وكأنَّهم زيبب الشِّتاء المجفَّف النَّاضج، والحقيقة أنَّهم سُلِقوا سلقًا وعلى عُجالة في دكاكين بيع الشَّهادات قبل أن ينضجوا، فراحوا يحكون-دون أيِّ ورع- في السِّياسة والرِّياسة وعلوم اللَّغة والأدب والنَّقد والتَّاريخ، ويتصدَّرون كلَّ منصَّة من منصَّات الشُّهرة على مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ بعد قراءة كتاب في علم اللُّغة وآخر المواريث وثالث في تاريخ الفكر، وربَّما شارك أحد في تحكيم الرَّسائل الجامعيَّة في غير اختصاصه؛ لتكتمل طانبير الدُّفِّ وأجراسه، و ليطفوا اسم هذا المتثاقف أو ذاك بين غُثاء ما يُعرف اليوم (بظاهرة المؤثِّرين) أو مؤثِّري مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ، ويعتني هذا النَّوع من المتثاقفين كثيرًا بعدد الإعجابات بهذا المنشور أو ذاك من منشوراتهم؛ ليخدعوا متابعيهم الأغبياء، كيلا يكتشفوا كمِّيَّة هدر الوقت عند قرارة منشورات رحَّالة الفيس بوك في الفضاء الأزرق،  وهم يتحدَّثون عن عدد الأشخاص الَّذين وصلتهم منشورات المؤثِّرين الخنفشاريَّة خلال هذا الشَّهر أو ذاك، وربَّما أحصوا منشوراتهم في شهر أو شهرين، وكأنَّهم اكتشفوا الأمريكيَّتين قبل كريستوف كولومبوس، أو ليهموا متابعيهم بأنَّهم يكتشفون لهم ومن جديد رأس الرَّجاء الصَّالح، ولا يدورون بهم في صفحة اليأس الفاسد!

زر الذهاب إلى الأعلى