أرشيف المجلة الشهرية

تحولات قناة أورينت: نقد خطابها الطائفي والشوفيني

د. أحمد عسيلي – العربي القديم

في اليوم الأول من شهر تشرين الأول عام ٢٠١٢، ظهر الإعلامي فايق اليوسف في الساعة العاشرة، ليبث لأول مرة نشرة أخبار في قناة الأورينت باللغة الكردية، في خطوة تعتبر فعلاً تقدماً إلى الأمام، بعد عقود من التجاهل العربي لحقيقة الوجود الكردي في سوريا، هي خطوة مهمة وإن كانت متأخرة نوعاً ما في هذا الاعتراف، لكن كما نقول دوماً، أن تصل متأخراً خير من ألا تصل.

هذه الخطوة الانفتاحية نحو مكون موجود في الوطن السوري، لم تكن الأولى التي تخطوها الأورينت، فوجودها أصلاً كان خطوة جريئة، أثارت زوبعة في الوسط الإعلامي الراكد في البلاد منذ تسلم حزب البعث السلطة، وإغلاقه لجميع المنابر الصحفية الخاصة في البلاد. منذ بداية بثها في ٢ شباط ٢٠٠٩، كان هناك نوع من الرهان على الفترة الزمنية التي يمكن أن تستمر بها هذه القناة، فالكل أصبح لديه خبرة مع هذا النظام، ونعلم جميعاً أن فكرة النقاش أصلاً غير مطروحة لديه، فما بالك بقناة تبث برامج حوارية، وتتطلع إلى إعادة لملمة الوطن السوري، بعد أن عاث به النظام تفتيتاً وتجهيلاً، فكانت برامج مثل (الهوا شمالي) الذي يركز على قضايا المنطقة الشمالية المهملة، أيضا مع برنامج (اكتشف سوريا – قصة مدينة)، بل وإعطاء الصوت المثقف النسوي وجوداً في الفضاء الإعلامي مع برنامج النساء أولاً، والذي كانت تقدمه سمر يزبك وديما بياعة، كل هذا التطور ومناخ الانفتاح والحريات، لم تكن بالتأكيد  لتعحب النظام السوري أبداً، فنحن بالأخير نعيش في ظل نظام قمعي متوحش وهمجي.  لم يكن النظام بقادر على التحول إلى نوع من الدكتاتوريات المرنة، كما كانت الحال في مصر واليمن وقتها، لذلك فإن الرهان على سنوات عمر هذه القناة كان قصيرة جداً، فبعد أقل من ستة أشهر، تم اتخاذ قرار بإغلاق مكاتبها في سوريا، بغض النظر عن حيثيات هذا القرار الذي كتب عنه الكثير من التوقعات والتخمينات، لكن بالأساس فإن بنية النظام لم تكن لتتقبل أبداً العيش مع قناة تلفزيونية خاصة، صاحبها والعاملون فيها ليسوا جزءاً من النظام، وليسوا تحت تصرفه المباشر.

وبدأت أحداث الثورة بعد حوالي سنة  ونصف من إغلاق القناة، فكانت ببداية الحراك هي الصوت المعبر فعلاً عن المظاهرات،  في ظل عدم وجود قناة معارضة أخرى في الجو العام ، طبعاً نستطيع أن نستثني بسهولة تلفزيون شبكة الأخبار العربية المملوكة لرفعت الأسد، والتي كانت تأخذ أيضاً خطاً  معارضاً، لكنه ناتج عن خلافات داخل العائلة الواحدة حول وراثة السلطة، بل حول السلطة نفسها؛ لأن رفعت حاول مرات عديدة الانقلاب على أخيه، بالمحصلة قناته لم تكن معبرة عن معارضة حقيقية، وبقيت الأورينت لفترة طويلة هي الناطق الرسمي باسم المعارضة السورية، رغم ظهور عدد كبير من التلفزيونات الأخرى  في وقت لاحق، لكن جميعها كانت تحمل خطاباً تعبوياً، يتناسب مع ظروف تحول الثورة إلى الشكل المسلح، وبدء المعارك بين الفصائل المتعددة وجيش بشار الأسد وحلفائه، ولنقل الحقيقة إنها فعلاً كانت الصوت الإعلامي الأكثر مهنية في الساحة السورية، حاولت الانفتاح فعلاً على كل مكونات المجتمع السوري، بدأت بسلسلة حوارات وتقارير كانت محرمة أساساً في وطننا السوري، فكلمة طائفية أصلاً كانت تابو لدينا، فما بالك بمن يتحدث عنها، ويشرحها ويقدم تصوراته حول هذا الملف؟

في البداية كان فعلاً خطاباً فيه شيء من المسؤولية، وتوضيح وجهة نظرهم حول فتح هذه القضية، فغسان عبود نفسه، ذكر في إحدى مقالاته: (إن حديثنا في الطائفية هي محاولة في كشف أثرها ودورها في تخريب المجتمع)، وكتب أيضاً: (إن  كنا نشرح الطائفية إنما نسعى لخلق وعي في الواقع الطائفي الملموس الذي تعيشه سوريا منذ منتصف القرن الماضي، ساعين نحو العيش المشترك والعدالة والمواطنة الحقة لجميع المواطنين)، وأفضل ما كتب غسان عبود في هذا المجال: “يجب أن نفرق بين من يشخص الطائفية، وبين الطائفي الذي هو كل سلوك أو قول ينفي الآخر، ولا يقبل بوجوده في المجتمع”. كلام جميل، وتحليل مميز للتفريق بين الحديث في الطائفية والطائفية نفسها، فهل كانت الأورينت وفية فعلاً وعملياً، بأفكارها النظرية؟

هنا الرد سيكون على مرحلتين، فالجواب المباشر لهذا السؤال هو لا، وبلا تردد لاحظنا أن القناة خاصة بعد أفول زمن المظاهرات السلمية، وتحول الثورة إلى  الشكل المسلح، ووجود خارطة واضحة للانقسام الاجتماعي، فإن القناة لم تستطع الحفاظ على خطاب عقلاني رزين، كصوت معارض ونقيض لصوت النظام الطائفي أصلاً،  بل للأسف وقعت في مرات كثيرة بشرك هذا الفخ، وتحولت الكثير من تقاريرها إلى لغة طائفية كريهة، تجرح وتستهين بمشاعر مجموعة من المواطنين السوريين، لن أعطي أمثلة عن هكذا تقارير؛ لأني لا أود للقارئ إعادة مشاهدتها، لأنها فعلاً مؤذية نوعاً ما، لكن من جهة أخرى (وهذه الخطوة الأخرى في الجواب)، فإن هكذا تقارير وخطابات، لم يكن مسيطراً بالقناة، وإنما كان يحتل جزءاً بسيطاً من خطابها، لكن دوما الجانب المتسخ يلفت النظر أكثر من الجانب النظيف.

 الشيء الآخر أن حقيقة طائفية القناة، كانت أقل بكثير مما معروف عنها، ربما نتيجة تشنج موروث لأي حديث في الطائفية، حتى لو لم يكن طائفياً،  وأذكر هنا تجربة شخصية، حين كتبت مجموعة مقالات في ملف ذاكرة المكان في الموقع الإلكتروني لأورينت، وذكرت حقيقة أن أهالي جزيرة أرواد من الطائفة السنية، تلقيت بعض الرسائل والتعليقات التي تتهمني بالطائفية، رغم أن حديثي لم يكن فيه أي إلغاء للآخر، أو المساس به (وهذا لن أفعله أبداً)، وإنما هي حقيقة ديموغرافية عن أهالي الجزيرة لا أكثر ولا أقل، وكنت أعتقد أنه مهم ذكرها؛ لأنها حقيقة دون أي أبعاد أخرى، ولا أعرف كيف فهمت جملتي على أنها تفريقية، أيضاً في المادة التي كتبتها عن أدونيس، وكيف فوجئت بأنه لا يعرف التكلم بالفرنسية، وهو الذي ادعى أنه ترجم أعقد الأشعار الفرنسية للعربية، أيضاً جاءت بعض التعليقات والرسائل التي تتهمني بالطائفية؛ لأن أدونيس من الطائفة العلوية، مع أنه فعلاً لم يخطر ببالي هذا الموضوع وكتبته بكل حيادية، وهي مادة ثقافية أساساً، كنت سأكتبها عن أدونيس حتى لو كان أدونيس سنياً، فمنذ متى نحكم على رجال  الفكر بطائفتهم؟ ذكرت هذين المثالين لأقول أنه رغم وجود نوع من الخطاب الطائفي للأورينت، لكنه كان أكبر من حجم طائفيتها نفسه، ربما لأننا نحتاج بعض الوقت للتفريق بين المفهومين، علماً أنني في الحديث عن أدونيس، لم أكتب كلمة لا بشكل حيادي ولا هجومي بالطائفية، لكن طريقة القراءة للمادة تعكس مدى التشنج الذي انتشر في بعض الأوساط  السورية. 

نعود الآن إلى ما استفتحت به مادتي حول الملف الكردي، أيضاً لا ننكر وجود خطاب كان متطوراً نوعاً ما بالأورينت تجاه الأكراد، وهي ليست منة أو فضلاً، بل هو حق و جاء أصلاً  متأخراً، ويجب علينا الاعتذار من المكون الكردي لهذا التأخر، لكن بالنهاية كان هناك خطاب لا بأس به بداية، سرعان أيضاً ما اختفى خلال سنوات الثورة المسلحة، ليختفي لاحقاً البث باللغة الكردية في تموز ال٢٠١٧، أي لم يصل عمر هذا البث لخمس سنوات، في خطوة تعتبر تراجعاً كبيراً في سياسة القناة التي استفتحت به وجودها، وزاد هذا التدهور سوءاً مع وجود خلافات بين القناة، وإدارة منطقة الحكم الذاتي الذي أغلق مكاتبها لاحقاً، لتصبح لغة القناة للأسف عدائية جداً، تجاه المكون العرقي الثاني في البلاد، ولم تستطع ضبط لغتها لتميز بين إدارة الحكم الذاتي كشكل حكم سياسي، نشأ ضمن تطورات الواقع السوري، وبين الأكراد كقومية موجودة في البلاد، مع أن قرار وقف الأورينت عن  العمل في أراضي مناطق الحكم الذاتي جاء مترافقاً مع إغلاق قناة أخرى هي رادوها، وهي قناة كردية أساساً، لكن جاء نتيجة تفاقم بعض الخلافات بين حكومة إقليم كردستان في العراق وإدارة منطقة الحكم الذاتي، فهو خلاف سياسي بالنهاية، بل هو خلاف بين شخصيات حاكمة كردية، ولم تكن حركة مهنية من الأورينت الكلام عن قيادة هذه الإدارة، وكأنها  الكرد كلهم، أو حتى التعبير عن الخلافات السياسية لتشمل التنديد بشعب كامل، بل وصلت الأمور بمالك هذه القناة أن وصف هذا المكون العزيز علينا جميعاً بكلمات سوقية للأسف، مما سبب بانزعاج الكثير من المكون العربي قبل الكردي.

بالنتيجة التنوع الثقافي اللغوي والديني والطائفي، هو مصدر غنى لأي بلد وحضارة، وسينتج عنها تراث مميز  من الحوارات واللقاءات والنقاشات، لكن هذه النعمة، سهل جداً أن تتحول إلى نقمة في البلاد ، تنتج حروباً أهلية وأحقاداً، إذا لم تستطع قيادات ومثقفو البلاد استغلالها بالشكل الأنسب، وهو ما حاولت كثيراً في البداية قناة الأورينت التمسك به، لكنها للأسف لم تستطع المقاومة كثيراً، ووقعت في فخ الخطاب الطائفي والشوفيني.

الآن تجربة هذه القناة انتهت، مع أنه إغلاقها كان حدثاً مؤلماً كثيراً لمسار الثورة، فبغيابها فقدت الثورة أحد أصواتها، رغم وجود الكثير من الأخطاء، لكن كان الأولى محاولة تصحيح هذه الأخطاء والاستفادة منها بدل الإغلاق، ولا أعلم إن كنا نستطيع مشاهدة قناة أخرى بديلة قريباً، وإن كنا نحلم دوما أن تكون هذه القناة البديلة، هي القناة الرسمية الحكومية بعد رحيل هذه الطغمة الحاكمة. 

_________________________________________

 من مقالات العدد السابع عشر من (العربي القديم) الخاص بتلفزيون أورينت – تشرين الثاني/ نوفمبر 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى