فنون وآداب

نصوص أدبية || سطوح البير (قصة قصيرة)

قصة قصيرة كتبها: محمد صخر بعث

في هذا المكان بالذات.. وقعت أحداث عظيمة يا بنيّ.

فهنا تماماً حيث تضع قدمك وضع محمود الشعلان رأس فارس السعيد بعدما طرحه أرضاً، ثمّ هوى عليه بحجر فهشّم نصف رأسه، ففارق هذا المكان في الحال بعد أن تعاركا من أجل بثينة هرمان التي كانت خادمةً في بيت أبي معروف بلشاوي.

***

وهنا التقى الجمعان..

عبّاس أبو غرّة ومعه مسعود الحسك اللذان أتيا من ناحية “طاحونة عبدان”، بعد أن أنهيا سكرتهما في برية بيت أبي عيسى التنونجي على طريق “الهبّاط”، وآبا راكبَيْنِ على بغل سعدو الفرحان معلّم عبّاس في الحدادة، فخرجت مظاهرة من جهة “دكاكين نادر” لحزب ديني عدد المشاركين بها اثنان وخمسون رجلاً كانوا يصيحون وهم يرفعون عادل السيخ على ظهورهم: يسقط الاتحاد السوفييتي الكافر، فلم يَهُن على عبّاس المنتسب إلى حزب غير ديني أن يسمع هتافات كهذه فطلب من مسعود الحسك ذي الصوت الجهوري أن يردّ عليهم بالمثل فصرخ مسعود بأعلى صوته: يسقط الدكتاتور عبد الناصر…

كان صوت مسعود أكثر قوّةً من كلّ أصوات المتظاهرين مع أن وزنه لا يزيد عن عدد المتظاهرين من الفريق الثاني إذا استعملنا الكيلوغرام وحدةً للقياس. وكان محيط زند عباس يتجاوز هذا العدد إن استعملنا السنتمتر مقياساً لذلك. ومع أنّ هتاف مسعود لا علاقة له البتّة بهتافات الفريق الذي اعتبره عبّاس معادياً، لكن المعركة اندلعت وانتهت “المعركة” بعد دقائق عدّة بانسحاب الفريقين مع بضع خسائر غير مادّية، وعاد مسعود إلى بيته سالماً بعد أن جعل عبّاس من جسده القوي درعاً واقياً لمسعود الذي هتف امتثالاً لطلب عبّاس، فتحمّل الأخير كامل المسؤولية عن رغباته التي تحقّقت.

***

وهنا تماماً في هذه المنطقة بالذات.. “داست محدّثتي برجلها اليُسرى” وقالت:

هنا.. كان الشيطان يتلبّس جدّك أبا وحيد ويسحبه من يده فينعطفا معاً نحو اليمين ليطرقا       باب “دارة مهيرة” ويسحباها من يدها، ويأتون ثلاثتهم جدّك ومهيرة والشيطان إلى دارنا فيوقظني وضيفيه قبيل صلاة الفجر “ويأمرني” أن أعدّ عشاءً للضيفة فهي جائعة وبنت حلال وظروفها صعبة ومقطوعة من غابة ولا ذنب لها ولا يجوز إهمالها وتجوز لها الصدقة، فأعدّ العشاء وترقص مهيرة وتهزّ أردافها العديدة بعد أن تشبع، وينام جدّك على “حرجي” وهو يقول: من كان منكم بلا خطيئة.. يرفع إيدو!

***

هنا لعب أبوك “بالدُحل” فاختلف مع غريب صرمو وتعاركا، فلكمه أبوك “المرحوم” لكمةً واحدةً كانت كفيلةً بنقله إلى المستوصف، وكافيةً أيضاً لنشوب معركة “حامية الوطيس” بين أعمامك وأعمام غريب… مات أبوك ولا يزال غريب يتذكّر تلك الحادثة، ومازالا مختلفان حتى الآن.

***

في هذا المكان.. قبض الدرك على حمّود دقّاق الهال الذي قطع طريق “معر تمصرين” قبل ليلة من ذلك، حين أوقف “البوسطة” التي كانت قادمة إلى إدلب… هدّد “الفعالة” الذين كانوا يستقلّون الحافلة بطبنجة عثمانية غير صالحة للاستعمال وسلب منهم قروشهم القليلة التي كان بحاجتها كي يستطيع مجاراة آل الكلواني في سهراتهم الحمراء التي يقيمونها في مزرعتهم الضخمة التي تُجاوِرها أرض حمّود الصغيرة…

رافقهم في سهراتهم الماجنة عدّة أيّام دون أيّ مقابل، لكنه كان مرغماً بعد ذلك على تحسين وضعه المعاشي ليردّ صاع سعادته لهم، فتلثّم وقطع الطريق وأخذ المال من أولئك المساكين.

واحد منهم لم يكن يملك قرشاً واحداً، فأخذ حمّود نظارته التي وضعها ذلك المسكين في جيبه من أجل إصلاحها في حلب عندما ينتهي موسم الزيتون.

عندما خرج حمّود من بيت عمّته خديجة هناك.. “أشارت جدّتي”، وقعت النظّارة المسروقة منه فتلقّفها أحد المارّة وأعطاها للشيخ محمود الذي سلّمها إلى الجامع، فأذاعوا البحث عنها وعندما يئس الإمام عبدو بروان من العثور على صاحبها، سلّمها إلى المخفر بمحضر أصولي فتذكّر الدركي الكردي لقمان غبرو أن أحد ركّاب “البوسطة” قد ترك بحوزته قطعة من زجاج عدسة نظّارته التي سرقها أحد العتاة على طريق إدلب – معر تمصرين، فأخبر رئيس المخفر وطابقا القطعة المكسورة مع النظارة المسلّمة إليهم عن طريق الإمام عبدو، وتوصّلوا بعد التحقيق مع الإمام ومع الشيخ محمود والمارّ الذي “تلقّفها” إلى أنّ حمّوداً هو السالب الذي قطع الطريق وأرهب الركّاب.

وحين واجه رئيس المخفر حمّوداً بهذا الدليل الدامغ قال بهدوء بعدما أُسقِط في يده: يا سبحان الله.. إي عليّ الطلاق أنا اللي سرقت المصاري. 

***

في هذا المكان يا محمّد – قالت جدتي -:

في هذا المكان ولدت أمّ مصطفى بللو ابنتها الصغرى سعاد التي تعيش الآن في فنزويلا، يومها لم يلحق أبو مصطفى البستاني بزوجته وهي في أسوأ حال، لأنّ الآغا خالد أبو كرش لم يسمح له بترك عمله عندما طلب إذناً للذهاب من أجل العناية بزوجته.

امتثل لأمر الآغا كي لا يفقد عمله وأكمل “تشحيل” الشجرة التاسعة عشر وذهب إلى بيته       “كان ههنا” أشارت جدّتي ، ولكن زوجته المُشَحَّلة المُشَحَّرة كانت قد هرعت إلى الزقاق لتستنجد بأي مارّ، وعند “حمّام المحمودية” وقعت وأخذت تنزف بشدّة وأنجبت سعاداً.. وماتت ههنا.

***

من ههنا يا بني كان شذى ياسمينة بيت أبي داوود شلامو يعطّر أرجاء الحارة ، كانت هنا يا بني.. وأشارت نحو مكتب الضحى العقاري.

وهنا كانت أمّ داوود تصنع التنّور وتبيعه لنا، وكلّما قدِم عبد الرزاق سلوان فقال: أعطني عشرين رغيفاً يا أم داوود، ترمقه بعصبية طيّبة وهي تمسح قطرات العرق عن جبينها وتقول له: لو مانك جحش ما بتجيب تسع ولاد…

هنا أيضا ضرب الرقيب عزّ الدين ابن أبو حسان مرجوح صديقه عبد الإله عنتر لأنّه مازحه قائلاً: ولك تضرب بهالموديل.. روح غيّر تيابك والحقني عالقهوة، فأرعد “عز الدين” وأزبد وصاح:

  • هدول التياب شرفي يا كلب…
  • إي يلعن شرفك إذا هيك..

فتماسكا وتضاربا.. ههنا.

***

هنا يا بنيّ أمسك حسن الحيران بشعر أخته رافدة وجرّها كالشاة إلى المنزل وضربها ضرباً مبرحاً، فتجمّع على أثر صياحها أهل الحارة، وحين سألوه ورافدة بين الموت والموت لِمَ فعلت ذلك؟ قال: تأخّرَتْ عند الخيّاطة نصف ساعة كاملة ولم تأتِ من طريق “الساحة التحتانية” حيث بيت أم كرمو الخياطة.. أتت من الجهة المعاكسة.  

***

أنتِ يا جدّتي.. أخبريني كيف قضيتِ حياتكِ؟

داست مرّة أخرى بقدمها اليسرى وقالت: ههنا يا محمّد.. قضيتها.

زر الذهاب إلى الأعلى