أرشيف المجلة الشهرية

أكبر أخطاء أبـــي

بقلم: جهاد أكرم الحوراني 

أكبر خطأ ارتكبه والدي عدم شق الحزب مبكراً، فلا صداقة ولا مفاهيم فكرية مشتركة، ولا ودّ يجمعه مع ميشيل عفلق، ومع صلاح البيطار.

ربما لم يرد شق الحزب؛ لأن الأفرع العربية كانت أقرب إلى ميشيل عفلق، ولكن الحوراني في سوريا هو الحزب، وهم أقلية ضئيلة.

أظن أنه أخطأ أيضاً في حماسه للوحدة مع عبد الناصر، رغم أنه لم يكن حماسه وحده، ولم يتوقع أحد أن يحول عبد الناصر الرغبة الوحدوية، لدى معظم السوريين والأحزاب السورية إلى انقلاب عسكري، ولكن تاريخ عبد الناصر، وصراعه مع محمد نجيب،  وصراعه مع الضباط الذين أرادوا عودة الجيش إلى ثكناتـه، كان يجب أن ينبه الجميع، وبالأخص سياسياً مثل أكرم الحوراني، إلى نوايا عبد الناصر.. وقد استقال والدي من دولة الوحدة، ولكن بعد أن فات الأوان.

في رسالة لوالدتي يشكو الحوراني من ميشيل عفلق، ويقول: “يكاد يفقدني أعصابي”، بعد أن أبدى عفلق، وصلاح البيطار رغبتهما باللجوء إلى عراق نوري السعيد، مع أن كل انقلاب الشيشكلي، كان لمنع ضم سورية إلى العرش الهاشمي وحلف بغداد… ووصل الأمر إلى حد الاشتباك بالأيدي، منعه البيطار بينه وبين ميشيل، وقال لهما: ستُتهمان بالعمالة لحلف بغداد من قبل الشيشكلي.

حدث هذا في إيطاليا، عندما لجأ الثلاثة إليها، وتسبب الخلاف في انفصاله عنهما، وإقامته في شقة وحده.

حقيقة حتى اليوم، لا أفهم كيف استمر معهما، وكانوا السبّاقين إلى فصله من الحزب ١٩٦٢، فيما سمّي بـ “المؤتمر القومي الخامس”، الذي عُقد في حمص بوجود ميشيل عفلق وحده كسوري، (وحتى البيطار لم يحضر)،  و١٤ عراقياً تمهيداً لـ ٨ آذار و٨ شباط ١٩٦٣ في العراق، والصلح مع عبد الناصر، الذي اعتبر الحوراني عدوّه الأول في سورية. وقد عُقد المؤتمر بمنزل الجاسوس فرحان الأتاسي الذي أُعدم لاحقاً، لتسريب معلومات عن الأسلحة السورية إلى أمريكا. المؤتمر كان أمريكياً بامتياز، وهناك فقرة في مذكرات الحوراني تتحدث عن التمويل والمكان…. كان العراقيون متصلين بعميل المخابرات بالمركزية الأمريكية (ماجد شيخ الأرض)، عرّاب كوهين، ونصوص المحاكمة لا تخفي ذلك، وقد جاء في مذكرات الحوراني حول ذلك المؤتمر:

“لقد شعر ميشيل علفق، بأن صلاح البيطار قد تخلى عنه، وبقي وحيداً في سورية، فاستدعى فرع العراق بقيادة علي صالح السعدي، وقيادات الفرع في لبنان، لعقد المؤتمر الذي سمّي بالمؤتمر القومي الخامس”.

انعقد هذا المؤتمر في مدينة حمص في بيت المدعو فرحان الاتاسي، الذي أُعدم بعد الثامن من آذار، بتهمة التجسس لصالح المخابرات المركزية، ومن الجدير بالذكر أنه لم يشترك أي قيادي سوري في هذا المؤتمر، مما دعا المؤتمر إلى إصدار قرار بجواز تطعيم القيادة القطرية في سورية، عند تأليفها بأعضاء حزبيين من الأقطار العربية الأخرى، كما صدر عن هذا المؤتمر بيانان ونشرة داخلية، والكلمة التي ألقاها عفلق (نضال حزب البعث عبر مؤتمراته القومية). وكان مبرر انعقاد هذا المؤتمر، كما جاء في بياناته هو إعادة تنظيم الحزب، وانتخاب الأمين العام، والدعوة لتحقيق الوحدة الاتحادية بين مصر وسورية، والعمل على انسحاب الوزيرَين البعثيين من الحكم وإسقاطهما، وفي حال رفضهما الالتزام بذلك يصدر الحزب بياناً، يعلن فيه عدم علاقته بهما. كما قرر المؤتمر محاسبة القيادة القومية السابقة؛ “بسبب ميوعتها، وعدم انضباط بعض أعضائها وغموض مواقفها من القضايا الأساسية، وانتخاب قيادة قومية جديدة”. والسبب في صدور هذا القرار هو أن المؤتمر القومي السابق الذي انعقد في بيروت عام 1959، بعد الوحدة، بدعوة من عبدالله الريماوي قد قرر إسقاط جميع ما كتبه ميشيل عفلق من أدبيات الحزب. والذي قدرته بعد اطلاعي على بيانات المؤتمر الخامس، وقراراته إن هدف ميشيل عفلق من انعقاده، هو حل الحزب وتنظيمه من جديد بقيادته، وإن مشروع تحقيق الوحدة الاتحادية الذي ورد في القرارات لم يكن إلا تغطية لغرض هذا المؤتمر، ومحاولة منه لإفساح المجال أمام صلاح البيطار للانضواء تحت قيادته، ومما زاد اقتناعي بذلك ما جاء في كلمة ميشيل عفلق، وفي البيانين الصادرين عنه من عبارات، كانت كافية لاستبعاد أي اتحاد، أو اتفاق مع جمال عبد الناصر.

***

بحثت عن أخطائه؛ لأنه أبي، لكني عرفت أنه لم يتصل يوماً بجهة أجنبية، وكانت قضية النزاهة والمال العام قضيه حدّية جداً لديه، وحتى إهماله أموال الأسرة.

كان عليه أن يؤسس بوضوح أكبر لمدرسة فكرية تعبر عنه، وتكون بداية الطريق لحزبه، وأن يكون العمل التنظيمي دقيقاً لديه، وهذا لم يحدث، ربما الصراعات، واضطراب سورية لم يتح الوقت لديه لذلك.

بعض من عاصره، وحتى باتريك سيل، يقول: إن أكبر خطأ ارتكبه الحوراني، كان صدامه مع عبد الناصر، ويقول: لولا ذلك، لربما أصبح كاسترو سوريا. وقد التقيت أحد الضباط من تلك المرحلة الذي قال لي: “إني رجوت والدك ألّا يصرح ضد عبد الناصر الذي كان وقتها ما يشبه النبي عند العرب”.

ولو عدنا إلى ٨ آذار، وحتى البيان الأول الذي أصدره الانقلاب، نجده يهاجم (من أرادوا استبدال الوحدة بالديموقراطية المزيفة).

لم يكن ضباط البعث، ولا حتى ميشيل عفلق يريدون عودة الوحدة، بل إن ضباط البعث كانوا يكنون لعبد ناصر كرهاً شديداً،  وحتى إن ميشيل عفلق كان هارباً إلى لبنان أثناء الوحدة، بعد علاقته بضابط مصري اسمه عويس، خطف بتابوت إلى مصر والمحاولة الانقلابية غامضه ليس لها تفاصيل.

لاحقاً، استغل ضباط ٨ آذار ذلك كقميص عثمان، بتهمة الانفصالية على الحوراني، وهو عروبي حدّ التزمت، ولا ننسى  الإعدامات بحق الناصريين في ١٨ تموز ١٩٦٣ بعد محاولتهم الانقلابية.

حقاً، كان على أبي أن يهادن عبد الناصر، وربما مبرره خشية عودة عبد الناصر إلى سورية، رغم أن عبد الناصر أرسل له أشخاصاً في البداية للتعاون معه لإسقاط نظام الانفصال.

أظن أنه أكبر خطأ تكتيكي سياسي، ساهم في استغلال ميشيل عفلق لقضية الوحدة، وتسلط ضباط اللجنة العسكرية على الحكم… وحتى اليوم هناك من يلوم أكرم الحوراني على تأييده للانفصال، ويتحسر على الوحدة المحكوم عليها بالفشل… ومع افتراض عودتها ذلك الوقت، فإن أسلوب حكم عبد الناصر لم يكن ليتغير.

___________________________________

من مقالات العدد الثالث عشر من (العربي القديم) الخاص بأدب المذكرات السياسية – تموز/ يوليو 2024

زر الذهاب إلى الأعلى