أرشيف المجلة الشهريةفنون وآداب

نصوص أدبية عن شهداء الحرية | ابتهال (قصة قصيرة)

خمسون ألف مبتهلة ومبتهل كالعدد الذين قدّرتَه للناس الذين سيخرجون في تشييعك شهيداً خاي

قصة: صخر بعث

-1-

في ساعة متأخّرة اتّصل “أبو يحيى”، قال: يا خاي الشباب فوّضوني لأحكي معكن.

  • وينك ليش ووين الشباب؟ مو بالجنّة؟ من وين عمتتصل، وينك خاي؟ ومين نحنا اللي الشباب فوّضوك تحكي معنا؟.
  • انتوا انتوا المثقّفين “جماعة السلمية”.
  • بخصوص أشو يا قلبي انت؟.
  • سماع سماع، أوجدوا لنا حلّاً، أعيدونا إلى الحياة، ابني لم يحتمل فكرة موتي، شهيداً كما يعتقد هو أو بطلاً كما تزعم أنت، هذا لا يفهم هذه المسائل، فات الأوان وأريده أن يعود قليلاً، قليلاً فقط.. علّني أشغح (يقصد أشرح).
  • أرجوك قُل لي:  يعني إذا عدتم إلى الحياة ستتوقّفون عن الثورة؟.
  • إن عُدنا بلا ظلم وفساد نتوقّف طبعاً، وبلا طولة سيرة وبالمشغمحي أعيدونا وسنكون مثلما تشاؤون، بخاطغك.

-2-

لم أنَمْ، من ينام بعد هاتف كهذا؟، ومن قال لك يا “أحمد” أنّكم لم تكونوا مثلما نشاء بل ونحلم؟، يا أيّها المدهش قبل وبعد الموت، كيف استطعتَ أصلاً أن تتّصل بي؟، ماذا أفعل الآن؟، كيف يمكن رفض طلب تُسميه أو تجاهل فكرة تُبديها؟.

مرّ الليل مُرّاً من الاشتياق والتفكير، قلتُ لنفسي: لا يمكن أبداً أن يقترح “أبا يحيى” شيئاً خارج سياق المنطق، هكذا كنّا نتشدّق نحن جماعة السلمية!، كنّا كلّما استغربنا من قضية يفكّر قبلنا ويسبقنا نحو التنفيذ طبعاً، وما امتلك أحد منّا جزءاً من أجزاء جرأته وشجاعته وصدقه، نُناقش في النهار أحوال “المجلس الوطني”، ويقود هو في المساء أحوال مظاهرات الأدالبة من أقصى جنوبهم عند جامع سعد وحتّى أقصاها عند “ساحة الحرّية” في حيّنا الشمالي، في عزّ البرد والعتمة والخوف.

-3-

إعادتكم إلى الحياة؟.

علاقتي معقّدة مع “اللاهوت”، عبثية مع “الناسوت” يا خاي!.

لكنّ ثقتي بك مستقرّة واضحة، ثقتي التامّة أنّ اقتراحك لا يأتي من فراغ أبداً، فعزمت مباشرةً على الإنجاز!.

جمعت الأطفال والشيوخ والنساء ومن تبقّى من شبابنا ورجالنا وأخبرتهم بالحكاية، كانوا جميعاً واثقين بك، لكنّ بعضهم لم يصدّقني أبداً، قالوا: لو هاتَفنا “أبو يحيى” بنفسه، رغم كلّ الهتافات التي هتفتَها في المظاهرات، سمعناها جميعاً، حفظناها ونقلناها عنك.

قلتُ: يا جماعة “أبو يحيى” في الجنّة، لم يخبرني تماماً كيف هي أحواله، لكنّه -لا ريب- هُناك، ولكنّه بدا أيضاً مُنزعجاً جدّاً من أجل أسرته، ومن حقّه أن يفكّر وأن يشتاق.

قال “أبو المعتزّ” تاجر الحبوب الغنيّ والكريم: أتبرّع بكلّ ما لديّ..

قلتُ: لا.. “أبو يحيى” لا يحبّ هذا الأسلوب، دعونا “نبتهل”.

-4-

الرجل الجالس خلفي في “الابتهال” قال لزوجته: لو كان الابتهال يُجدي لأعدنا ابننا مصطفى، هذا الرجل مهبول مجنون كاذب أفّاك “يقصدني أنا”.

“ريم” طفلة في الخامسة حضرت الاجتماع، سألت أمّها: أين هي خالة ابتهال؟.

“محمود” في العشرين، فقد كلّ أهله بفعل برميل حقد وسفالة مالهما مثيل، كان فقط يتمتم: يا ربّي دخيلك.

“نادية” امرأة في الثلاثينيات، جلبت صورة زوجها مع بطاقة شخصية وشهادة وفاة مزوّرة، قالت: يا ناس.. زوجي من رفاق “أحمد”، لا تنسوه في الابتهال.

خمسون ألف مبتهلة ومبتهل كالعدد الذين قدّرتَه للناس الذين سيخرجون في تشييعك شهيداً خاي، خمسون ألفاً ولكلّ واحد حكاية، حتّى أنّ واحداً منهم رفع رأسه نحو السماء وناجى: يا ربّ.. إن كان هذا الابتهال موجّهاً لك، أرجوك لا تتدخّل هذه المرّة، فلقد دعوناك كثيراً، فما أجبت!.

-5-

كما وكلّ القصص الجميلة والحكايات الرائعة والروايات التي ينتصر فيها الخير طبعاً، نجح الابتهال.

لم أعلم ولم يعلم ولن نعلم أبداً كيف حدث هذا، لكنّه حدث، وقبل أن يعاود “أبو يحيى” الاتصال ثانيةً ليخبرني أنّه يعلم بنجاح الابتهال، جاءني الهاتف الأساس: بلغني ابتهالكم، ما الذي تريدونه بالضبط؟.

  • أبرمنا اتّفاقاً مع المسلّحين الذين قُتلوا منذ أسبوع.
  • قُتِلوا أم ماتوا؟، كيف؟.
  • استِشهدوا..
  • أنا أقرّر، قُلْ: أين؟.
  • في “إدلب”..
  • ما الاتّفاق؟، على ماذا اتّفقتم يا ابني؟.
  • على أن يعودوا إلى الحياة، وسيلتزمون بمطالبنا.
  • حسناً نعيدهم، (تكلّم بصيغة الجمع)، سنعيد الجميع إن مرّت عودة هؤلاء بسلام، أنا ما عندي مشكلة يا ابني، لكن.. على الشرط الذي اتّفقتم عليه، وإلّا!.

وانقطع الاتّصال..

-6-

فجراً اتّصل “أبو يحيى”، صوته أحلى من موسيقا يعزفها جدول يتدفّق برقّة على صفحة بحيرة نقيّة عذبة، لطيفاً كأنّه في اعتصام، قويّاً كأنّه في مظاهرة، وكان راضياً تماماً.

  • ما قلتلك رح يمشي الحال؟.
  • أعرف أعرف خاي.. أصدّقك طبعاً.
  • دي يالله معناها قوم، خبّر الشباب وتعوا لعنّا، جيبوا معكن باصين أو سيّارات، نحنا شي سبعين واحد مرحلياً، بدنا نتحمّم بالأوّل، تعا شوف لا ضلّ بنطلون كويّس ولا قميص، مغبّغين معفّغين (مغبّرين معفّرين يقصد)، يا زلمي بالله، أش عمتستنى؟.

قطع الاتّصال كعادته كلّما كان منهمكاً، ولقد كان كذلك دائماً، فهناك عمل ينبغي القيام به، لا وقت للكلام.

-7-

لا مكان للحديث عن فرح اللقاء، لا وقت لوصفه، هل يمكن وصف الفرح بعودة أعزّاء محبّين متفانين مخلصين صادقين لطفاء شجعان مهذّبين مثلهم إلى الحياة!؟.

سبعون زهرةً من زهراتنا يا الله، يا الله ما أرحمك!.

-يالله لك خاي خلينا نتصغّف، ما أجمل هذه اللثغة خاي!.

-8-

أعددنا الخطّة..

خطّةً جماعية قوامها ثلاثة أمور، التعاون وتصحيح الأخطاء والبداية الجيّدة من جديد، ولذلك عمدنا إلى استئناس آراء الجميع واستمزاج رغباتهم واستقراء تطلّعاتهم.  كما كان علينا أن نتأكّد أنّ “المسلّحين” قد أذعنوا إلى سياساتنا ” كمثقّفين سلميين”( وإلّا! ).

أبو النور “السمّان” قال: يا أخي هالمتظاهرين لبسهن مدري كيف، يعني لو شوية عناية بالمظهر، فوراً تبرّع رجل الأعمال عزّو أبو العزّ بمائة وأربعين طقماً نصفها شتوي ونصفها صيفي مع بخور لطرد الحسد، دفع أسعد السعيد نفقات الحلاقة، وتكفّل سعيد الكيف بشراء الأحذية فانتهينا من قضية المظهر، قالت أم عزّام: لماذا لا يحملون وروداً؟، قلنا لها : أبشري، واشترينا ألف باقةً من الزنابق البيضاء، قالت سلمى المجنونة: أرجو ألا تهتفوا ضدّ الرئيس، قلنا: يا سلمى المجنونة لا مشكلة، مالنا وماله نحن نريد “الحرّية”، التزم الشباب بذلك “على مضض” بعدما ذكّرناهم بعاقبة النكول عن “المعاهدة”، قال حدّو العبقري: لا أريد أيّ شعار ديني، قلنا له سنستغفر الله في قلوبنا،  قال المحامي عبد الستّار : ينبغي أن يكون التنظيم دقيقاً ومدّة المظاهرة لا تتجاوز عشر دقائق، قلنا : لا بأس، المهمّ إيصال رسالتنا، قال الدكتور جوني : نحن نريد أن نشترك في المظاهرة، قلنا له تفرّج ما أحلى هؤلاء الشباب، قال : يا أخي “الحرائر” كلهن محجّبات و يبدو الطابع الإسلا.. ، قلنا له: لا تكمل، أقنعنا الحرائر بالسفور في سبيل الوطن.  

قال كل واحد رأيه وقدّم مطالبه، وتمّ الأخذ بها جميعاً، حتى صاح “أحمد” من بين الجموع: جاهزين، فانطلقنا!.  

-9-

انطلقنا ..

أخذ الكثيرون يطلبون التوقّف بين الفينة والأخرى كي يتمكّنوا من إصلاح ربطات أعناقهم أو مسح الغبار عن الأحذية، البنات يُردن التقاط الصور التذكارية بين حين وآخر، فقد أتيحت لهن فرصة “السفور” في سبيل الوطن، والأطفال كانوا يربكون مسيرنا بسبب استغرابهم الشديد من حالتنا الأنيقة تلك مع زنابقنا البيضاء.

مالكم ولهذا، ورود عادت إلى الحياة تحمل وروداً وتسير بلطف بالغ وألق وخفر وجلال وهيبة ووقار في مظاهرة ما عرف العالم لها مثيلاً.

صحّحنا كل أخطاء الثورة وتعاونّا وبدأنا من جديد، أليست هذا هو المطلوب؟.

وصلنا إلى ساحة الساعة، وكان علينا أن نهتف لعشر دقائق فقط امتثالاً لمطالب المحامي عبد الستّار، التفت أحمد نحوي سألني: بِمَ أهتف؟.

– متى كنتَ تسأل خاي؟

– هل أستطيع أن أقول: الله أكبر حرّية ؟.

– لا فقد وعدنا “حدّو العبقري” بألا نسمعه سيرة الله في حياته.  

– طيب: سوريا لينا ومهاي لبيت ..

– هس ولا حرف، سلمى المجنونة ستعيدكم إلى القبر إن نكثتم بوعدكم.  

– ما رأيك إذاً ثورتنا مو طائفية؟.  

– سينزعج الدكتور جوني، قد يعتبره تلميحاً إلى الأقلّيات.  

اهتف فقط من أجل الحرية، لا تخف.. عيب أن أوصيك، لكن تذكّر أن ” الأب ” فرض عودتكم إلى الحياة، والمهمّ .. الالتزام بالاتّفاق.  

-10-

بدأ “أبو يحيى” يهتف : حرّية، حرّية..

قالها مرّتين فقط..  

-11-

في المقبرة التفت إليّ قال: يا زلمي مو قلتلك هدول ما بيعغفوا الله.. زاد علينا همّك انت كمان.. يا غيتني أصلاً ما اتّصلت فيك!!.

  _________________________________________

 من نصوص العدد الثامن عشر من (العربي القديم) عدد الاحتفال بالنصر، الخاص بشهداء ثورة القرن – كانون الأول/ ديسمبر 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى