فيلم محمد ملص (أنا يوسف، يا أبي): الفن التشكيلي بريشة السينما والحنين الدمشقي
أحمد صلال- العربي القديم
محمد ملص سينمائي سوري، كثيراً ما تغريه شوارع وحواري دمشق، مفتوناً بتتبع النهايات واستعادة الأماكن في اتجاه معين، وفي أطر مكثفة ومركزة، وضمن أنساق استعادية تعيد قراءة التاريخ، يختبر محمد ملص ابن زمانه وعالمه الرسام السوري يوسف عبدالكي أمام الكاميرا في فيلم يحاول سبر عوالم فنه يستعير عنوانه من قصيدة محمود درويش: (أنا يا يوسف أبي) المؤسسة على قصة النبي يوسف في القرآن الكريم… دون أن نعرف ما هية هذه الاستعارة في الفيلم سوى التشابه الاسمي ليوسف عبدلكي… وحديث يوسف عن أبيه وكأنه مخاطَبٌ في الحنين. هكذا يبدو يوسف للوهلة الأولى نموذجاً خلاقاً في قلب دمشق التي عاشها وهاجر منها وعاد إليها، وخصوصا حين يستجلب معه رؤى جديدة يغلب عليها الحنين.
هذا هو عبدالكي
في هذا الفيلم الوثائقي، محاولة لتأطير النموذج الدمشقي داخل مساحة جديدة، حيز يتعلق باللحظة الحالية والنسق الفني والغربة والاعتقال، ظروف سباسية هي الأخرى تدلي بدلوها بصرياً.
يسعى ملص لتتبع التاريخ السوري العام من منظور خاص لفنان تشكيلي استثنائي، رسام مر بحقب تاريخية متتالية يبنى عليها ملص سرديته السينمائية ويؤرخ المكان دمشق قلب هذا العالم.
الأمر أشبه بالتأريخ للفن التشكيلي السوري، الصور واللقطات والحوارات؛ طاقة تعريفية ترصد الوضع السياسي والاجتماعي. بموازة الذاتي بالطبع… فمحمد ملص نرجسي يرى ذاته في أفلامه وفي صور الآخرين التي يشتغل عليها، أيا كان موضوعها.
عادات وممارسات سينمائية كثيراً ما ترتبط بالفن التشكيلي، لذلك ملص في نتاج عبدالكي، يحاول الوصول إلى لحظة سينمائية يصبح فيها التشكيل نظام حياة يومي في دمشق، ويميل إلى الحدوث دون وعي، كانت البداية من هذه النقطة. أي السينما بوصفها منفذا لأفق التشكيل والمدنية، والفيلم بوصفه وسيلة.
كانت البداية من عند تلك النقطة؛ أي السينما بوصفها منفذ ترفيه، أو وسيلة للتفاعل والانخراط والامتداد الثقافي، فيقارن المخرج -من غير سابق وعي- لحظات التوهج السينمائي بلحظة الآن، ويخلق تسلسلات لا تروم الوصول لتفسير عقلاني، بقدر ما ترغب برصد تلك التحولات وخطوطها، ومدى انخراط الناس فيها.
بحثاً عن يوسف عبدالكي
“بلادي وحبك يا موجعي”تغني فيروز في الخلفية، وكأن حفيف صوت قلم الرصاص على اللوحة يكفي للتذكير بالأيام الأجمل، وذلك في بيت دمشقي قديم في حي”ساروجة”، حيث اللوحات والزهور؛ هي الأخرى ترقص زهواً في عتبة الكادر البصري للفيلم.
عبدالكي يلوح بيده كأنه يرسم شيئاً بالهواء، مرحباً بملص وفريقه عمله الصغير، ملص الذي طرق الباب الموصود بادره عبدالكي”شو؟ شو بدك تصور” يرد عليه ملص”بدنا نرسم بورتريه إلك”.
فيلم محمد ملص التسجيلي”أنا يوسف، يا أبي”نرى يد عبدالكي وهي تمسك بطبشور من الفحم الأسود، فوق رقعة صغيرة محددة، وها هي الكاميرا تتحرك في كل الاتجاهات، حيث الكاميرا تخلق لوحات جديدة بجمالية بدورها، كاميرا (يحيي عز الدين و وائل عز الدين)، هو فيلم عن رسام ورسم أمام الكاميرا.
هذا هو الفيلم الأول للمخرج ملص بعد غياب طويل. هناك فارق عشر سنوات ما بين «سلم إلى دمشق»، الذي شهد عروضاً في مهرجانات دبي وتورنتو ومونبلييه، وبين هذا الفيلم. هناك ظهور للمخرج في فيلم حميد بن عمرة «تايم لايف» (2019) والعديد من أصوات الصمت قبل ذلك وبعده.
التاريخ والحاضر والبشر في دمشق التي عاد يوسف عبدلكي إليها سنة 2007، حيث قضى ربع قرن في المنفى الباريسي منذ عام 1973، يضع المخرج الكاميرا في مكان مناسب لتوظيف البيت القديم أبوابه وفنائه وغرفه وعبدالكي أمام كل هذا البذخ البصري.
بعض التاريخ الشخصي، الذي لا بد منه فلاش باك للوراء للطفولة والمنشأة وأبيه، الذي سجن ستة مرات لمعارضته للنظام، وطبعاً لا يفوت المخرج التعريج للمنفى الباريسي، ويأتي الحوار مستسرسلاً ومثيراً، وبكثير من الإدراك عن الفن والرسم والعلاقة بينه وبين الأشكال.
إذ يُلقي الفيلم الضوء على ذلك الفنان ومفهومه للفن وذكرياته عن بعض حياته وعن أبيه. يعالج المخرج كل ذلك في اقتصاد مريح. لا استعراضاً للذات ولا الكاميرا تتجاوز حدودها ولا يتدخل التوليف للتأثير على الإيقاع المختار للفيلم. على ذلك، تبرع كل تلك العناصر في تشييد عمل إبداعي متآلف: الموضوع هو الفن والهدف هو الفن أيضاً.