الرأي العام

تفاصيل سورية | أسئلة السجن السوري الكبير

يكتبها: غسان المفلح

لنخرج من جو السجن الأسدي قليلا. هل يمكننا ذلك؟

الخروج من السجن في سورية يعادل الخروج من سجن صغير إلى سجن أكبر. ببساطة تدرك أن الأسد حول سورية إلى سجن كبير. لكن هذه النتيجة لا يمكن أن تعايشها كحقيقة إلا إذا كنت معتقلا سياسيا مزمنا لدى الأسد كما أعتقد.

 تكتشف أنك في السجن الصغير كنت تمتلك حرية أكبر من السجن الكبير. ليس لأنك بطلا أو غير ذلك. السجن المديد يجعل من الحياة موضوع مختلف كليا عما كنت تعتقده لسنوات طويلة. في السجن أحيانا تجد نفسك بطلا وأحيانا تجد نفسك جبانا أو بين بين، أحيانا بشكل إرادي وأحيانا بشكل لا إرادي ترى نفسك في هذا الموقف أو ذاك. غير أن الحرية تساوي الحياة، لكن للحياة وجوه كثيرة. كأن تجد نفسك بعد كل هذا العمر تخرج عالة على من تبقى من عائلتك. خاصة بعد أن تفقد أباك وأمك وأنت في السجن. عالة على إخوتك الذين لم تعش معهم بعد خمسة عاما تقريبا من التخفي والاعتقال.

  تخرج في ديوان والدتك التي توفيت قبل عشرة أيام من خروجك. عاشت قسما من عمرها وهي تنتظر لحظة خروج لتشبع منك عناقا وتقبيلا. لكن هذا لم يحدث. وجه يطرح عليك كثير من الأسئلة التاريخية والوجودية. خمسة عشر عاماً وعائلتك تعيش معك، تعيش خياراتك بشكل قسري. في التخفي خائفين عليك من الوقوع في يد المخابرات. في السجن “يهكلون همك” من أجل تأمين زيارتك الشهرية واحتياجاتك الشخصية. أفضل طبعا لو كنت من عائلة ميسورة. لكن تخيل لو أن اهلك لا يستطيعوا تأمين زيارتك، لا يملكون أجرة الطريق لسجن صيدنايا… من أجل ماذا؟ ما علاقتهم بهذا الخيار الشيوعي المعارض؟ كلها أسئلة كنت تحاول الهروب منها في سجنك، لكنها تحضر في وجهك بعد خروجك من السجن الأسدي الصغير. خاصة أنك ستعيش فترة عالة عليهم ريثما تجد طريقك في كسب عيشك.

وأنت في النصف الثاني من أربعين عمرك. يشترون لك تبغك وألبستك وكل ما تحتاجه! لحظة خجل من الذات تكاد تكون قاتلة. هذه القضية لا علاقة لها بتفهمك للحالة عقليا، وليس لها علاقة بعلاقتك بإخوتك أو علاقتهم بك، ليس لها علاقة بسؤال كيف ينظرون إليك؟ هذا إحساس لا تستطيع السيطرة على انبثاقاته في أية لحظة. هذا وجه آخر من وجوه الحياة. هل هم مجبرون على تحمل نتائج خيارك؟ فقد تربوا في فضاء لم يكن لك حضورا فيه طوال خمسة عشر عاما. فضاء بمجمله كان يرفض هذا الخيار خوفاً وأيديولوجياً وسياسياً.

 أصدقائك أغلبهم أطباء ومحامين وموظفين كبار في الدولة، وأنت خرجت كطفل أو كمراهق يريد أن يضع قدمه في سوق العمل. لك أن تتخيل ذلك. هذه لا تكفي أنت ممنوع من العودة لعملك الذي كنت تزاوله قبل التخفي والاعتقال. كنت اعمل في شركة سادكوب النفطية. لم أزاول عملا يدويا في حياتي خلا عدة اشهر مع صديق ساعدته في دهان أحد المنازل. إضافة لذلك ممنوع أن تكتب كما تريد من جهة، ولا توجد جهة تريد تحمل شبهة تعيينك فيها!

كنت خارجا ولاتزال نزعة المثقف تسيطر علي. لكنني ربما بخلاف العديد من الأصدقاء. كنت أكتب لأنني معارض. بقي هذا الغلاف الممزق مسيطراً علي حتى اللحظة. ممزق لأنه كما يقول الناس” ما يطّعمي خبز”. مع ذلك بفضل إحدى الصديقات استطعت تأمين عمل مغفل في الكتابة تكتب لا اسم لك تحت ما تكتبه. تكتب في قضايا يومية على شكل رسالة أسبوعية من دمشق عاصمة السجن الكبير، لا تستطيع أن تعلن عن ذلك وقتها ولا حتى الآن. ربما في زمن قادم! كل هذا لم نتحدث عن حلمك في السجن بامرأة. بسيدة تتحمل وزر نتائج خيارك على كافة الصعد النفسية والسياسية والأمنية والاقتصادية، فما بالك لو كنت عاطلا عن العمل أيضا! كل هذا الجانب من حياتك في السجن الصغير، بدأ يطرح أسئلته عليك. إضافة لذلك استدعاءات من فرع المخابرات ألجنوبية. رغم كل ذلك كان هنالك ما يعزيني: موقف إخوتي من جهة، والاستقبال والتعامل المفاجئ بالنسبة لي من قبل أهل مدينتي الشيخ مسكين وتلك الحفاوة والتعاطف الواضح.

لابد من ذكر مسألة لا أريد الدخول في تفاصيلها، وهي أن معظم المسؤولين في الدولة من مدينتي أتى وزارني. وعزاني بوفاة والدتي. كنت قد مررت على بعضهم في تفاصيل سابقة. كل هذا ترافق مع نكات من قبل أصدقاء وأقارب، حول أنني دخلت شيوعيا بوجود السوفييت، وخرجت بلا شيوعية وبلا سوفييت. رغم أنني موقفي كان حادا من السوفييت سواء على صعيد ما يسمى التجربة الاشتراكية أو على صعيد دعم السوفييت للأنظمة الاستبدادية المجرمة. هذه وجوه للحياة لم أكن قد اختبرتها قبل السجن. لكن بالمقابل عدة أصدقاء طرحوا المساعدة ماديا وفي موضوع العمل.

حاولت الخروج من هذا النفق سريعا. ما كان ممكن أن أخرج منه لو بقيت في مقيما في بيت اهلي بالشيخ مسكين، عدت إلى دمشق إلى بيتنا هناك. هذا البيت الذي شهدت كل زاوية فيه لحظة من حياتي قبل الاعتقال ومنذ سنواتي الأولى في الحياة. حاولت العودة لشركة سادكوب لكن الموافقة الأمنية رفضت عدة مرات. إنه السجن الكبير ومستلزماته ومعاييره وضوابطه الاسدية. سورية كانت وستبقى سجنا كبيرا مادامت هذه الأسدية تحكمها.

يتبع…

زر الذهاب إلى الأعلى