مارك سايكس ولعنة السوريين
وضعت اتفاقية “سايكس بيكو” المنسوبة إلى السياسيين والدبلوماسيين – الإنكليزي مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج بيكو – الأساس لمقررات “مؤتمر سان ريمو”، الذي عقد في أبريل 1920 وأضفى الطابع الرسمي على تقسيم الولايات العربية السابقة للإمبراطورية العثمانية المنهزمة في الحرب العالمية الأولى؛ وسمح بانتقال بلاد ما بين النهرين وفلسطين إلى البريطانيين، وسوريا إلى الفرنسيين.
ظلت الحدود الدقيقة لجميع الأقاليم غير مؤكدة؛ وكان على الحلفاء تحديدها وتقديمها إلى “مجلس عصبة الأمم” للموافقة عليها. لكن الرفض التركي لها على مدى السنوات التالية، جعلها تندرج ضمن مقررات “معاهدة سيفر“؛ ولا تحصل على الموافقة النهائية حتى 24 يوليو 1922، أي قبل اعتماد “معاهدة لوزان” بعام. ومع ذلك، لم ينته التقسيم عند هذا الحد، بل قامت بريطانيا في وقت لاحق بفصل شرق الأردن عن فلسطين، وقامت فرنسا بقصل -لبنان الكبير عن سوريا.
غالباً ما يوصف الشرق الأوسط الذي نراه اليوم بحدوده ودوله الحالية، بأنه من بنات أفكار مارك سايكس وفرانسوا جورج بيكو وإرثيهما الكولونياليين المثيرين للجدل إلى حد كبير. هذان الشخصان الذين شاركا في تقسيم الجغرافيا ما بعد العثمانية، إلى مناطق نفوذ أوروبية، لا يزالا حتى يومنا هذا يعتبران من أكثر الرموز السياسية الأجنبية كرهاً وبغضاً في بلاد الشام. لكن مع ذلك، في بعض الأحيان، يعاقب القدر الأشخاص على ما اقترفوه من جرائم وخطايا خلال حياتهم؛ وقد تلاحقهم لعنات ودعوات المظلومين حتى بعد موتهم بفترات طويلة. وهنا، في هذه المناسبة، لا بد من ذكر سيء الصيت البريطاني مارك سايكس، الذي وصل إلى العاصمة الفرنسية في فبراير 1919 للمشاركة بمفاوضات “مؤتمر باريس للسلام” الدولية متعددة الأطراف حول نتائج الحرب العالمية الأولى؛ والتي انتهت بتوقيع “معاهدة فرساي” محدثة تغييرات جذرية في الوضع الجيوسياسي الدولي بعد نهاية تلك الحرب. لكنه ما لبث أن توفي مساء يوم 16 فبراير داخل غرفة في فندق ” لو لوتي” الواقع بجوار حدائق التويلري الباريسية عن عمر يناهز 39 عاماً؛ بسبب إصابته بـ “الإنفلونزا الإسبانية”، رغم كونه رجلاً قوياً وسليماً وفي أوج حياته المهنية المخزية!
الغريب في الأمر هو تسمية الفيروس بـ “الإنفلونزا الإسبانية” رغم كشفه لأول مرة في الولايات المتحدة الأمريكية خلال شهر مارس 1918!
ربما يرجع ذلك إلى الصحافة الإسبانية التي تناولته على نطاق واسع، في حين لم تتطرق الصحف الدول المتحاربة آنذاك إلى أخبار الخطر خوفاً من التأثير على الروح المعنوية للجنود أثناء المعارك.. كذلك لم يُلحظ الوباء في بلادنا ذلك الوقت، لاسيما على خلفية الانتفاضات والثورات اللاحقة التي بدت أكثر وضوحاً وفعالية وانتشاراً.
لقد ساهم تواصل الناس عن قرب في انتشار العدوى وانتقالها عن طريق قطرات مجهرية هوائية، لاسيما في الأماكن العامة المزدحمة مثل المدارس والمعسكرات والمستشفيات، لذلك استطاع الفيروس ذو الطبيعة المعقدة والمتغيرة والخطيرة قتل عدداً أكبر من الناس مقارنة بما قتلته الحرب العالمية الأولى…
بعد تطور الفيروس وتزايد مضاعفاته غير العادية، تساءل العديد من الأطباء عما إذا كان هذا المرض المروع هو حقاً إنفلونزا؛ بعدما أخطأوا بتشخيصه وتحديد أعراضه باستثناء بعض الخصائص العامة للفشل التنفسي الحاد والنزيف والحمى…
الغريب في الأمر أن ذلك الوباء قد أثر على عدد كبير من الأشخاص المشهورين، حيث أصيب به رئيس الوزراء البريطاني ديفيد لويد جورج، والرئيس الأمريكي وودرو ويلسون، والكتاب روبرت جريفز وفيرا بريتين… كذلك نجا آخر السلاطين العثمانيين محمد السادس من سطوته. ولاحق الفيروس أيضاً مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك عام 1919، أي قبل إرساله إلى سامسون لبدء حرب الاستقلال.. كذلك فقد عبد العزيز بن سعود ابنه البكر ووريثه تركي وإحدى زوجاته المعروفة باسم جوهرة. في حين خسر الفنان الطليعي فكرت معلا والدته بسبب الفيروس عندما كان مراهقاً؛ حيث بقي طوال حياته يلوم نفسه على جلبه من المدرسة. واستخدم الشاعر ناظم حكمت “الإنفلونزا الإسبانية” أيضاً كأحد العناصر الوصفية لأجواء اسطنبول في تلك السنوات، إلى جانب رموز العصر مثل التعبئة للحرب والتيفوس ومد السكك الحديدية ومبيعات السيارات والأحذية الألمانية…
لكي نتصور معاناة وأوجاع وآلام ذلك الإنكليزي الوقح؛ لا بد من تذكر ما قاله أحد الأطباء الاسكتلنديون عن مراحل انتشار الفيروس داخل جسم الإنسان، في رسالة مؤرخة بشهر سبتمبر 1918: “كل شيء يبدأ بما يبدو على أنه نوبة طبيعية من الإنفلونزا. عندما يصل المرضى إلى المستشفى، يصابون بسرعة كبيرة بأخطر أنواع الالتهاب الرئوي الذي شوهد على الإطلاق. لا تمر سوى بضع ساعات حتى يبدأ الموت عبر صراع من أجل التنفس.. ما يلبث أن يحل الاختناق… إنه شئ فظيع حقاً!”.
لم تكتف اللعنة السورية بهذا الحد من العقوبة، بل تذكرته لاحقاً في سبتمبر عام 2008، أي بعد تسعة وثمانين عاماً من وفاته، حيث فُتح تابوته الرصاصي كي يكشف الباحثون الطبيون عن بقايا جثته للتعرف أكثر فأكثر على ماهية فيروس “الإنفلونزا الإسبانية” الحقيقي.
يذكر أن رفات سايكس دفنت في تابوت من الرصاص تماشياً مع مكانته (النبيلة)، ونقلت إلى منطقة سليدمير المجاورة لملكية العائلة في شرق يوركشاير، حيث وضع في مقبرة “كنيسة القديسة مريم” الأنجليكانية على الرغم من كونه كاثوليكياً رومانياً. وأن الخبراء بقيادة عالم الفيروسات البارز البروفيسور جون أكسفورد قد أمضوا عامين محاولين الحصول على إذن من الأبرشية المحلية لإجراء عملية الكشف عن الجثة، تضمنت حضور جلسة استماع خاصة ترأسها ممثل رسمي عن المحكمة العليا.
وهكذا، بعد صلاة قصيرة بحضور خبراء وباحثون ورجال دين ومسؤولون بيئيون وأحفاد مارك سايكس نفسه، رفعت شاهدة القبر وفتح التابوت داخل خيمة مغلقة تماماً، حيث ارتدى العلماء أجهزة تنفس وملابس واقية كاملة خوفاً من المخاطر البيولوجية.
لكن، يبدو أن الدراسة لم تنجح تماماً وخيّبت الآمال بعض الشيء؛ فقد تم العثور على صدع في الجزء العلوي من الغلاف الرصاصي للتابوت بعد عدة أشهر من التحضير والبحث والمراقبة؛ مما أضعف كثيراً فرص وجود عينة غير متغيرة للفيروس. تصدع التابوت تحت وطأة الأرض الثقيلة، وتحللت الجثة بشدة ووصلت إلى حالة يرثى لها. ومع ذلك، تمكن الفريق بصعوبة بالغة من استخراج عينات قليلة من أنسجة الرئة والدماغ وتجميدها في النيتروجين السائل ونقلها إلى المختبر لدراستها.
رغم أن الرصاص قد أبطأ بشكل كبير من تحلل أنسجة الجسم الرخوة، مما أعطى العلماء الذين يدرسون فيروس إنفلونزا الطيور H5N1 فرصة لدراسة سلوك سلفه، إلا أنه من المفروض إغلاق جسده بشكل محكم وضمن عدة طبقات سميكة من الرصاص بعد موته مباشرة، كي لا يتحلل بسرعة ويغرق بسهولة في غياهب النسيان.
ومع ذلك، فإن فحص عينات الأنسجة المأخوذة من البقايا كشف في النهاية عن آثار جينية لفيروس H1N1، وأثبت حالة العامل الممرض وقت وفاة مارك. اعتقد الباحثون أن بقاياه قد تحتوي على معلومات قيمة حول كيفية انتشار فيروس الإنفلونزا، يمكن من خلالها التغلب على حاجز الأنواع بين الحيوانات والبشر؛ حيث لم يكن هناك سوى خمس عينات قابلة للاستخدام من فيروس H1N1 في العالم عام 2011، ولم يأتِ أي منها من جسد محفوظ جيداً في تابوت من الرصاص. حدد العلماء فيما بعد تسلسل هذا الفيروس من خلال البقايا المجمدة التي تم العثور عليها معزولة في ألاسكا، ولكن بقيت العديد من الأسئلة حول كيفية قتل الفيروس لضحاياه، وكيفية تحوره بحلول عام 1919، عندما اختنق المدعو مارك سايكس غير مأسوف عليه.
صرح البروفيسور أكسفورد للصحفيين بأنه “توفي في وقت متأخر من الوباء، عندما كاد الفيروس أن يستنفد قوته.. نريد أن نفهم كيف تصرف الفيروس عندما كان في أخطر حالاته وعندما اقترب من نهايته. قد تساعدنا العينات التي أخذناها من السير مارك في الإجابة على بعض الأسئلة المهمة جداً”.
لم يمثل استخراج جثة مارك سايكس سوى محاولة واحدة لإيجاد تفسير للمرض الفتاك الذي عصف بالعالم في العام الأخير من الحرب العظمى عبر ثلاث موجات متتالية، من ربيع عام 1918 إلى صيف عام 1919، حيث قتلت ما يقدر بنحو 100 مليون شخص في جميع أنحاء العالم قبل أن يعرف باسم “الإنفلونزا الإسبانية”. كانت الموجة الثانية الأكثر خطورة، حيث جلبت معظم الوفيات إلى البلدان العربية التي مثلت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، وأودت بحياة الكثير من الناس كما هو الحال في أي مكان آخر.
كان مارك سايكس عديم الكفاءة والمعرفة، ويحمل أفكاراً انحيازية مسبقة، ولا يتقبل آراء الآخرين، ويستخف بكل من يقابله بشهادة كل من عرفوه والتقوا به، أمثال اللنبي ولورنس العرب وأساتذته في كلية بيومونت والكلية الكنسية بكامبريدج. تقول ندى حطيط على لسان مؤرخي المرحلة البريطانيين: “إن مارك سايكس كان أقرب لمغامر أرستقراطي قصير النظر وعاجز عن فهم تعقيدات السياسة والحياة في الشرق الأوسط منه موظفاً استعمارياً محترفاً، وهو جادل دائماً – وفق إحساسه الداخلي الذاتي بالطبع – بأن كل شعوب الشرق تتطلع عاليّاً نحو سيدها الإنجليزي ذي العينين الزرقاوين، وأن العرب واليهود سيتقبلون العيش سويّة إذا تيقنوا أن تلك هي رغبة لندن الطاغية. وحتى كمفاوض فإنه تنازل للفرنسيين بأكثر مما كانوا يتوقعون، كما كان قد كشف عن مواقفه التفاوضية مبكراً من كثرة ثرثرته أمام السفير الفرنسي بالقاهرة قبل جلوسه للتفاوض مع غريمه الفرنسي جورج بيكو”. ومع ذلك “كان أحدَ أثمن وأبرز الرّوافد المعرفيّة التي أمدّت الوزارات البريطانيّة في مطلع القرن العشرين بمعلومات حول المنطقة العربية، واتّخذت طريقَها مباشرةً إلى الجهات التّنفيذية وصانعي السّياسات ومتّخذي القرار، وكانت المحصّلة النّهائية لهذه المعلومات هي صياغة الاتّفاقية التّآمرية الإستعمارية المعروفة بـ “اتّفاقية سايكس/ بيكو” – حسبما جاء في مقدمة كتاب “خطوات قبل صناعة الشرق الجديد – رحلات مارك سايكس في العراق العثماني”!
لم يحالف الحظ أحد مؤلفي وعرابي اتفاقية “سايكس بيكو” المشؤومة، التي عقدت عام 1916 وعرفت باسمه واسم شريكه الفرنسي الآخر مع ذاك الوباء، ولا مع استخراج جثته لتكون مفيدة للبحث العلمي، ولا مع والديه السير تاتون غريب الأطوار والسيدة جيسيكا مدمنة الكحول. لكن، الذاكرة التاريخية لشعوب المنطقة لا تنهي هنا مشوار مارك سايكس اللئيم؛ فهناك نقاط سوداء كثيرة في سجله الإجرامي لم يذكرها أحد من الباحثين العرب؛ والتي ربما يسعفني الوقت لكشفها وتوثيقها في المستقبل القريب، حتى يعرف الجميع كيف يمكن للأروقة السياسة والدبلوماسية المظلمة التي لا تزال تخفي الأخطار المرعبة في ظلها، أن تجلب الكوارث والمصائب لشعوب بأكملها، لتجعلها ضعيفة هشة ممزقة تماماً؛ ولتكون أراضيها مركزاً للسقوط والتفتت والذوبان، ومرتعاً للديكتاتورية والاستبداد والطغيان؛ وعرضة للحروب والصراعات والتدخلات العسكرية والانقلابات والأزمات والكوارث الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي لا تنتهي أبداً.
المراجع:
-ندى حطيط. مارك سايكس… الرجل الذي صنع الشرق الأوسط الحديث. الشرق الأوسط، 19 يوليو 2017.
-مارك سايكس. خطوات قبل صناعة الشرق الجديد – رحلات مارك سايكس في العراق العثماني. دار البشير للثقافة والعلوم – الطبعة الأولى 2020، ترجمة: د. أحمد عبد الوهاب الشرقاوي، د. محمد علي ثابت.
-Catharine Arnold. Pandemic 1918: The Story of the Deadliest Influenza in History Taschenbuch – Michael O’Mara Books Ltd; 1. Edition. November 2018.
-Martin Gehlen. Sykes-Picot-Abkommen: Das Ende jeden Friedens. www.zeit.de, 16. Mai 2016.
-Ходнев А. С. Марк Сайкс — «лучший знаток Малой Азии» // Новая и новейшая история. — 2016. — № 4. — С. 157—165.
-Али Нуриев, Испанский грипп – пандемия, создавшая современный Ближний Восток. TRT на русском, 28 авг. 2020.