جماليات لوحة “سوريا” لعلي فرزات
استدعاء للذاكرة الجمعية السورية، ذاكرة مدينة لا تزال تتناوب عليها الحضارات منذ آلاف السنين.

نوار الماغوط – العربي القديم
في مسار الفن التشكيلي السوري، تتبوأ تجربة علي فرزات مكانة استثنائية، فهو فنان لم يكتفِ بأن يكون رسام كاريكاتير ساخر يلاحق الاستبداد بجرأته، بل انفتح على مساحة أرحب من التعبير البصري، حيث تتحول اللوحة عنده إلى مسرح كبير تتقاطع فيه الرموز والأساطير والواقع اليومي. ومن أبرز ما يختزل هذه الرؤية لوحة حملت عنوان “سوريا”، لوحة تبدو أشبه بفسيفساء زمنية ـ روحية، تحاول أن تروي قصة وطنٍ عالق بين الجمال والخراب، بين الطفولة الأولى والجرح المفتوح.
من الوهلة الأولى، يواجه المشاهد عالماً مزدحماً بالشخصيات والألوان والفضاءات المتداخلة. هنا لا نتعامل مع مشهد واحد بل مع مسرح متعدد الستائر، حيث تتوزع القصص على طبقات متراكبة. العمارة القديمة، الأقواس الشرقية، القباب والبيوت ذات الشرفات، كلها عناصر تعكس هوية المكان وتمنحه جذوره البصرية. لكن حضور هذه العناصر ليس زخرفياً بقدر ما هو استدعاء للذاكرة الجمعية السورية، ذاكرة مدينة لا تزال تتناوب عليها الحضارات منذ آلاف السنين.
في أعلى اللوحة نلمح آدم وحواء، جسدان عاريان في لحظة براءة، وكأن الفنان يعيدنا إلى لحظة البدء، لحظة النقاء قبل أن يتلوث التاريخ بالخطيئة والعنف. على مقربة منهما، شخصيات أخرى تغني أو تعزف، في إشارة إلى أن الحب والموسيقى جزء من تكوين هذا الوطن. في المقابل، تتراكم في الأسفل وجوه غامضة وجماهير متجمعة، كأنها طيف قمعي أو ظل لنظام متربص. هكذا تتشكل الثنائية الجوهرية: البراءة مقابل القسوة، الجمال مقابل الألم.

العمارة التي تظهر في اللوحة ليست خلفية محايدة، بل هي شخصية بحد ذاتها
تحتل المرأة مساحة بارزة في اللوحة، فهي تظهر بأشكال متعددة: عاشقة، أم، أسطورة، وحتى رمزاً للحرية المقيدة. تتكرر الأجساد الأنثوية كأنها انعكاسات في مرايا متقابلة، تحمل في طياتها معاني الولادة والاستمرار، لكن أيضاً الوجع والخذلان. هذه المركزية للمرأة ليست غريبة على فرزات، فهو يرى في الجسد الأنثوي رمزاً للوطن ذاته، جسداً يفيض جمالاً لكنه يتعرض للانتهاك والتشويه.
في منتصف اللوحة يضع الفنان مرآة كبيرة تحيط بها زخارف كلاسيكية. داخلها نرى صورتين متقابلتين، كأن سوريا تنظر إلى نفسها بانقسام داخلي. المرآة هنا ليست مجرد أداة بصرية، بل رمز لوعي الذات المشطور: أمة تبحث عن ملامحها، لكنها لا تجد سوى انعكاس مشوش. هذه الفكرة تتناغم مع واقع بلد يعيش منذ عقود في صراع هوية، بين الانتماء للحضارة العريقة وبين الغرق في دوامات السياسة العنيفة.
العمارة التي تظهر في اللوحة ليست خلفية محايدة، بل هي شخصية بحد ذاتها. القباب البيضاء، النوافذ المزخرفة، الأقواس المستديرة، كلها عناصر تحيل إلى مدن كدمشق وحلب وحمص، وإلى ذاكرة شرقية متوسطية تحمل الجمال والاستمرار، لكنها أيضاً صامتة أمام المآسي. كأنها شاهد أبكم على مسرح الدم والحلم في آن واحد.
لو نظرنا إلى التكوين الكلي للوحة، سنجد أنها أقرب إلى فسيفساء أو أيقونة كبيرة، حيث لا يهيمن مشهد واحد، بل تتجاور التفاصيل وتتراكم. هذا التعدد ليس عشوائياً، بل يعكس هوية سوريا ذاتها: بلد التعدد الديني والعرقي والثقافي، بلد فسيفساء الطوائف واللغات والأعراق. لكن التعدد هنا يحمل أيضاً معنى آخر: الانقسام والتفتت، إذ تتحول الكثرة إلى عبء، خصوصاً عندما تُختزل في صراعات دامية.
من الناحية الأسلوبية، نلمس في اللوحة نزعة سريالية واضحة، حيث تختلط الأزمنة والأمكنة، ويجاور الخيال الواقع. الشخصيات تبدو عائمة في فضاء مائي أو حلمي، كأنها خارجة من الذاكرة أو من لاوعي جمعي. هذه السريالية ليست هروباً من الواقع، بل بالعكس، هي محاولة لالتقاط ما لا تستطيع اللغة السياسية المباشرة أن تعبر عنه. فرزات هنا لا يروي ما يحدث فقط، بل يحاول أن يلتقط ما يشعر به الإنسان السوري في عمق وجدانه.
الألوان في اللوحة تتوزع بين الأزرق البارد والأحمر الصارخ والأبيض النقي. الأزرق يرمز إلى الحلم والروح، لكنه أيضاً يضفي إحساساً بالبرد والغربة. الأحمر يصرخ كجرح مفتوح، يذكّر بالدم والعنف، بينما الأبيض يظهر كمساحة طهرٍ لم تُدنّس بعد. هذه الثنائيات اللونية ليست اعتباطية، بل تنسجم مع البنية الرمزية للعمل، لتجعل من اللون لغة نفسية موازية للسرد البصري.
من المهم قراءة هذه اللوحة في سياق تجربة علي فرزات الأشمل. فهو واحد من أبرز رسامي الكاريكاتير في العالم العربي، اشتهر بجرأته في نقد الاستبداد والفساد، حتى دفع ثمن ذلك غالياً من صحته وحريته. لكن في أعماله التشكيلية يتجاوز السخرية المباشرة ليبني عالماً بصرياً معقداً، يمزج بين الرمزية والأسطورة والبعد الإنساني. لوحة “سوريا” مثال واضح على هذا التحول، إذ تتحول السخرية هنا إلى حزن جمالي، وتتحول الحكاية الموجعة إلى ملحمة تشكيلية.
هذه اللوحة ليست مجرد عمل جمالي، بل هي أيضاً وثيقة بصرية للذاكرة السورية. إنها تحفظ ما قد يتلاشى في خضم الحروب: وجوه الناس، أصواتهم، أحلامهم، وحتى انكساراتهم. الفن عند فرزات ليس ترفاً، بل ضرورة وجودية. إنه يعيد كتابة التاريخ بطريقة مختلفة: تاريخ لا يُدوّن في كتب السلطة، بل يُرسم على قماش ملون، مفتوح للتأويل، لكنه صادق في عمقه.
في النهاية، تقف لوحة “سوريا” كصرخة تشكيلية تقول ما لا تستطيع الكلمات أن تقوله. إنها لوحة عن وطن لا يزال يبحث عن صورته في المرآة، عن حب ضاع بين الجدران، وعن موسيقى تختنق بين صخب الحرب. ومع ذلك، تبقى الألوان مشرقة، تبقى النساء حاضرات، يبقى الحلم قائماً. وكأن علي فرزات يقول لنا: رغم كل شيء، سوريا ليست مجرد جرح، إنها أيضاً جمال لا يموت.
بهذا المعنى، تصبح اللوحة نصاً بصرياً مفتوحاً: يمكن أن تُقرأ كتاريخ، أو كأسطورة، أو كحلم. لكنها قبل كل شيء شهادة فنان آمن أن الفن يستطيع أن يكشف الحقيقة، حتى عندما يُحاصرها الصمت.
عند قراءة لوحة “سوريا”، يمكن وضعها في سياق مقارن مع تجارب فنية عالمية حاولت أن تحوّل اللوحة إلى مرآة للواقع الجمعي. ثمة صدى واضح لأعمال مارك شاغال مثلاً، خصوصاً في طريقة المزج بين الأسطورة والذاكرة واللون الحلمي. كذلك يمكن أن نتذكر بابلو بيكاسو في “غرنيكا”، حيث تتحول اللوحة إلى صرخة ضد الحرب، لكن بأسلوب رمزي يتجاوز المباشرة.
علي فرزات، في هذا السياق، لا يقلّد هذه التجارب، بل يعيد صياغتها بلغة شرقية ـ سورية، تستند إلى رموز محلية (القباب، النساء، الأقواس، الحشود) لكنها في الوقت نفسه تنفتح على الهم الإنساني الكوني. بذلك تصبح “سوريا” لوحة تنتمي إلى الفن العالمي المقاوم، لكنها تحتفظ بفرادتها بوصفها شهادة بصرية سورية بامتياز.
إن القيمة النقدية لهذه اللوحة تكمن في أنها تجاوزت البعد التوثيقي لتصبح عملاً جمالياً ورمزياً في آن واحد: فهي تحفظ تفاصيل زمن مضطرب، لكنها أيضاً تعيد صياغته بلغة الفن، بحيث لا تبقى مجرد لوحة عن سوريا، بل عن الإنسان في مواجهة العنف والخذلان، وعن الأمل الذي يتجدد رغم كل شيء.